لا يستغني عالم أو مجتهد عن النظر في فقه السلف، فإن وجد إجماعا لزمه الأخذ به؛ لأن الإجماع حجة قاطعة، وإن وجد اختلافا، استفاد من وقوفهم على الأدلة، وكيفية النظر فيها، وأعمل ذهنه وأدواته في الترجيح بين أقوالهم، فإن كانت المسألة مستجدة لم يتكلم فيها المتقدمون، فإنه ينظر في أصولها، وأقربِ المسائل إليها شبها، فيستنير بما قاله المتقدمون، فإن العلم يتصل بعضه ببعض، ولا يكاد يستغني متأخر عن متقدم في علم من العلوم، واعتبري ذلك بالعلوم الرياضية والفلكية والطبية ؛ فإنه مع تطور هذه العلوم لا يُستغنى فيها عن كلام المتقدمين.
**
مما ميز علم السلف عمن جاء بعدهم، قربهم من عهد الرسالة، وتمكنهم من اللغة وأدوات الاستنباط بالسليقة، مع تفرغهم للعلم، غالبا ، وإقبالهم عليه ، وبذلهم الوسع فيه، ووجودهم في بيئة معينة على ذلك، وهذا ، أو أكثره ، يفقده المتأخر ، لا سيما مع بعد العهد ، وتعقد الحياة وأساليبها ، وأنماط المعيشة .
وأما المذاهب الأربعة فقد امتازت فوق ذلك على توفر همم الأفذاذ من العلماء على خدمتها، جمعا، وتنقيحا، وشرحا، وتعليقا، ومراجعة، وتمحيصا، مما جعل منها بناء محكما ، يستوعب عامة الأبواب الفقهية، ولا يكاد يخرج عنها إلا النوازل المستجدة التي لم تكن في عصرهم ، أو عصر من بعدهم، مع كون أصولهم، وكثير من فروعهم، ترشد إلى حكم هذه النوازل، إذا أحاط الفقيه بها، وأحسن النظر فيها.
**
إذا لم يكن في المسألة إجماع، فالمعيار الذي يحكم به بصحة قول أو خطئه هو الدليل الشرعي، فكل قول يؤخذ منه ويرد، كما قال مالك رحمه الله.
**
من جاء بفهم جديد لنص من الكتاب أو السنة، نُظر في فهمه، وطريقة استنباطه، ومدى موافقتها لقواعد الاستنباط الصحيحة، فيقبل منه ما وافق ذلك، وهذا لا يتصور في أكثر آيات القرآن الكريم، وإنما يتصور في بعض الآيات التي أشكل تفسيرها على المتقدمين، أو أن يكون قوله جامعا لأقوال من سبقه، أو منتزعا منها، وذلك أن الصحابة والتابعين أولوا القرآن عناية تامة، ونقلوا في تفسيره ما أخذوه عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، ولم يفتهم من ذلك إلا الشيء اليسير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وأما التفسير الثابت عن الصحابة والتابعين : فذلك إنما قبلوه لأنهم قد علموا أن الصحابة بلغوا عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظ القرآن ومعانيه جميعا ، كما ثبت ذلك عنهم .." .
" وهل يتوهم عاقل أنهم كانوا إنما يأخذون منه مجرد حروفه ، وهم لا يفقهون ما يتلوه عليهم ، ولا ما يقرؤونه ، ولا تشتاق نفوسهم إلى فهم هذا القول ، ولا يسألونه عن ذلك ، ولا يبتدئ هو بيانه لهم ؟ هذا مما يعلم بطلانه ، أعظم مما يعلم بطلان كتمانهم ما تتوفر الهمم والدواعي على نقله." .
" فقولنا بتفسير الصحابة والتابعين : لعلمنا بأنهم بلغوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يصل إلينا إلا بطريقهم، وأنهم علموا معنى ما أنزل الله على رسوله ، تلقيا عن الرسول ؛ فيمتنع أن نكون نحن مصيبين في فهم القرآن ، وهم مخطئون .
وهذا يُعلم بطلانه ، ضرورة ، عادة وشرعا." انتهى .
انظر : "بغية المرتاد" (330-332) .
وأما السنة فقد تولى العلماء –عبر قرون- جمعها، وشرحها، والاستنباط منها، ومع ذلك فقد يجد المجتهد مجالا في تصحيح حديث ضُعّف، أو العكس، أو استنباط معنى خفي، أو ترجيح معنى على معنى، وفضل الله يؤتيه من يشاء.
وينظر للفائدة : رسالة "فهم السلف الصالح" للدكتور عبد الله بن عمر الدميجي ، وفقه الله .
والحاصل : أن باب الاجتهاد مفتوح لمن يملك أدواته، وإنما يجب الحذر من اجتهاد إنسان لم يملك أدوات الاجتهاد، فلا علم له باللغة، ولا بطرق الاستنباط، ولا بجمع الأدلة في الموطن الواحد، فهذا قلما يصيب، بل يأثم باجتهاده، ويفتن نفسه وغيره بالكلام في دين الله بغير علم، وما أكثر هؤلاء في هذه الأزمنة.
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة (5/ 25): " هل باب الاجتهاد مغلق أم غير مغلق؟
وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد: باب الاجتهاد لم يغلق بل هو مفتوح : لأهل العلم والإيمان والبصيرة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وكلام من سلف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعهم بإحسان من أهل العلم والإيمان.
أما من ليس كذلك : فالواجب عليه سؤال أهل الذكر، كما نص على ذلك أهل العلم.
المصدر الاسلام سؤال وجواب بإختصار