رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس
ومن الرواة عن ابن عباس: علي بن أبي طلحة .
وقد روى عن علي بن أبي طلحة إسناده عن عبد الله بن عباس معاوية بن صالح، وقد رواه عن معاوية بن صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث أبو صالح، وقد اشتهر هذا الإسناد، وهو صحيفة لم يسمعها علي بن أبي طلحة من عبد الله بن عباس، وقد وقع في هذه الرواية خوضٌ وخلافٌ كثيرٌ عند المتأخرين، وخلاصة القول :
أنه قد اتفق الحفاظ على أن علياً لم يسمع من عبد الله بن عباس شيئًا، وإن كان قد يستشكل على البعض ما روى البلاذري في "أنساب الأشراف" عن عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة قال: كان عبد الله بن عباس مديدَ القامة جيد الهامة، مستدير الوجه، جميلَه أبيضَه، وليس بالمفرط البياض، سبط اللحية، في أنفه قنى، معتدل الجسم، وكان أحسن الناس عيناً قبل أن يكف بصره.
قيل: في ذلك ما يشعر بأنه رآه، فيقال: إن هذا لا يعني أنه قد رآه، بل يكون قد حكى عمن رآه، وهذا شك لا يثبت مع يقين عدم سماعه .
ومثل هذه الحكاية مليئة كتب التاريخ والسير منها، يحكيها من بينه وبين الموصوف قرون، ولا خلاف في علي أنه لم يسمع من ابن عباس شيئًا، جزم به أبو حاتم ودُحيم وابن معين وابن حبان، بل قال الخليلي في "الإرشاد": أجمع الحفاظ على ذلك .
وقيل: إنما سمعه من مجاهد بن جبر، أو عكرمة، وقيل أيضًا: إنه سمعه من سعيد بن جبير، جزم المِزِّي والذهبي أنه بواسطة مجاهد، وجزم ابن حجر في "الأمالي المطلقة" أنه بواسطة مجاهد وسعيد بن جبير، وهي صحيحة بلا ريب عند عامة النقاد، وصححها جمع من النقاد؛ منهم :
أحمد بن حنبل، قال: (بمصر صحيفة في التفسير، رواها علي بن أبي طلحة لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصداً ما كان كثيراً)، أسنده عنه أبو جعفر النحَّاس في "الناسخ والمنسوخ".
ومنهم النحاس تلميذ النسائي فقد قال في "الناسخ": ( والذي يطعن في إسناده يقول: ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس، وإنما أخذ التفسير عن مجاهد وعكرمة، وهذا القول لا يوجب طعناً؛ لأنه أخذه عن رجلين ثقتين، وهو في نفسه ثقة صدوق).
قال أبو حاتم: " علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس مرسلٌ؛ سمعه من مجاهد، والقاسم بن محمد، وراشد بن سعد، ومحمد بن زيد " .
وقد قال الطحاوي في شرح معاني الآثار: (وإن كان خبراً منقطعاً لا يثبت مثله، غير أن قوماً من أهل العلم بالآثار يقولون: إنه صحيح، وإن علي بن أبي طلحة، وإن كان لم يكن رأى ابن عباس رضي الله عنهما، فإنما أخذ ذلك عن مجاهد وعكرمة مولى ابن عباس).
وجزم بذلك في "بيان مشكل الآثار"، فقال: وحَمَلنا على قبول رواية علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، وإن كان لم يلقه؛ لأنها - في الحقيقة - عنه عن مجاهد وعكرمة . أ.هـ.
وحديثه صحيفةٌ وكتابٌ، وهو في نفسه فيه ضَعْف يسير، قال أحمد فيه: "له منكرات"، وهذه العبارة منه ليست بتضعيف له، وقد قالها في عدد من الثقات والحفاظ، ويقصد بها التفرد.
وضعَّف علياً يعقوب بن سفيان، وتفرد بتضعيفه، فقد وثقه العجلي وابن حبان، وقال النسائي: لا بأس به، وقد روى له مسلم في "الصحيح"، وحديثه في التفسير صحيح، اعتمد عليه البخاري في مواضع من صحيحه، وليس له ما يُستنكر بعد النظر في حديثه إلا شيء قليل تفرد به، وقِلَّتُه تدل على صحة حديثه مع كثرة مروياته عن ابن عباس.
فإذا عُلمت الواسطة؛ فإنه لا ملجأ لإعلالها، وإن كان قد نص صالح بن محمد جَزَرَة على الانقطاع، فقد سئل عمن سمع منه عن عبد الله بن عباس قال : " لا أحد "؛ فلعل مراده أن روايته كتاب، وليست بسماع، وهذا يوافق قول أحمد السابق أنها صحيفةٌ، ثم إن من علم حجة على من لم يعلم، والواسطة علمت وهي: مجاهد بن جبر وسعيد بن جبير وعكرمة مولى عبد الله بن عباس. إذاً، فرواية علي بن أبي طلحة هي من رواية مجاهد بن جبر، أومن طريق سعيد بن جبير، أو من طريق عكرمة، وتقدم الكلام عليها .
وعلي بن أبي طلحة، مُقِل بالرواية في غير التفسير، ولا يكاد يوجد له رواية في الأحكام، وجُلُّ روايته في التفسير، وهي كتاب يرويه عنه معاوية بن صالح وعنه عبدالله بن صالح، وقد يصحُّ الإسناد في موضع ولا يصح في موضع، وهذا الطريق لو جاء مثله في الأحكام عند التفرد لا يُعتمد عليه مالم يُعضد، وفي التفسير حجة، لا وجه لإعلاله، إلا ما يستنكر من حديثه، مما لا يوافق عليه، ومثل هذا يوجد عند الثقات، ومنهج النقاد في ذلك معروف.
ما يستنكر من حديث علي بن أبي طلحة
وبالسبر والنظر في تفسير علي عن ابن عباس لم أر فيه ما يستنكر إلا شيئاً قليلاً؛ من ذلك ما رواه البيهقي في كتابه "الأسماء والصفات"، وابن جرير الطبري من حديث عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة، عن عبد الله بن عباس في الحروف المقطَّعة، قال: " هذا قَسَمٌ أقسم الله به وهي من أسماء الله " .
وهذا منكرٌ لم يروِه أحدٌ غيره. وهذه من منكراته، التي تُرَد وأمثالها، وهذا ما يعنيه أحمد بقوله : "له منكرات"، مع قوله بنفاسة صحيفة علي، والرحلة إليها.
وقوعه في البدعة، وحكم الرواية عن المبتدع
ولعلي مذهب على طريقة الخوارج، ولذلك يقول أبو داود - كما في "سؤالات الآجري " - لما سأله عن علي بن أبي طلحة، قال: " إن شاء الله هو مستقيم الحديث وكان يرى السيف" .
لعلَّه من هذا الوجه قد طعن فيه يعقوبُ الفسوي. وللعلم فَإِنَّ رأي العلماء في الرواية عن المبتدع إذا كان من الثقات الضابطين أنه لا يُرد حديثه، خاصة إذا كان متقدماً.
يقول أحمد: لو تركنا الرواية عن القدرية، لتركنا أكثر أهل البصرة.
ويقول علي بن المديني: " لو تركت رواية الراوي لأجل القدر، لتركت الرواية عن أهل البصرة، ولو تركت الرواية لأجل التشيع، لتركت الرواية عن أهل الكوفة ولخربت الكتب " .
والعلماء يروون عن المبتدعة إذا كانوا من أهل الثقة والديانة والضبط؛ لأن البدعة لا تجعل الإنسان يكذب في الحديث إذا كان ثقةً، فإن كذب فليس بثقةٍ، فإذا عُرِفَ أنه من الثقات، وممن يُؤخذ منهم الحديث، فإنه يُقبل، وقد يوجد من أهل البدع من هو أضبط في الرواية والتحرِّي والصدق من أهل السنة والجماعة، كالخوارج؛ فالخوارج يَروْن أن من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم كفر. ومن يعتقد أن من كذب على النبي ? يكفر هو أقرب للاحتياط ممن لا يرى أن الراوي يَكْفُر بذلك !
الغلو في البدع لا يوجد في متقدمي التابعين
والغلوُّ في البدع لم يوجد في عصر التابعين، فالتابعون الرواة لا يوجد فيهم سَبَئية ولا رافضة، وإنما هو تشيع يسير بتقديم علي بن أبي طالب على عثمان بن عفان رضي الله عنهما، وهذا غاية ما يوصفون به من التشيع، فإذا وُجد نص عن راوٍ من الرواة أنه يتشيع من تلك الطبقة، فمرادُهم ذلك، فأهلُ الكوفة كلهم شيعة على هذا المذهب، إلا نَزْرٌ يسير. قال أحمد بن حنبل: أهل الكوفة يفضِّلون علياً على عثمان، إلا رجلين طلحة بن مُصِّرف وعبدالله بن إدريس.
والتشيع في تلك الطبقة لم يخرُجْ عن الكوفة إلى الشام واليمن والحجاز ومصر، إلا شيئاً يسيراً، كطاووس بن كيسان فيه تشيعاً على تلك الطريقة، وهو يمانيٌّ.
وما نقله ابن تيمية رحمه الله في كتابه "في الرد على البكري" أن أحمد قال في علي بن أبي طلحة: ضعيفٌ، فهذا النقل لا أعلمه في المسائل عن أحمد، ولا في مروياته سوى في هذا الموضع، ولعله أراد قوله: "يروي المنكرات". وإلا فالمعروف عن الإمام أحمد أنه حَمِدَ صحيفة علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس.
ولا يُوجد شيء يكاد يُذكر من التفسير من قول علي بن أبي طلحة، وإنما هو عن عبد الله بن عباس، أو عن رسول الله ? وهو قليل، فعليٌّ ناقل فقه ليس بفقيه.