اللغة العربية .. واقعها وآفاقها*
صالح أحمد العمودي


الحمد لله الذي علم بالقلم، والصلاة والسلام على النبي العربي صفوة البشر، وخير الأمم.

ما هو واقع لغتنا العربية في عالمنا اليوم؟ ما مكانة اللغة العربية بين لغات العالم؟ وما مكانتها في قلوب أبنائها المتحدثين بها؟ ما حجم المنتجات الثقافية، وأوعية المعلومات المكتوبة باللغة العربية؟ ما هي آفاق المستقبل لهذه اللغة؟
أسئلة عديدة تدور حول واقع اللغة العربية، وثمة إجابات سريعة ومباشرة عنها، لكنها في الغالب إجابات غير مرضية، ولذلك لن أتسرع في الإجابة، بل سأفحص المسألة من البداية لعلي أصل معكم إلى إجابات متفائلة وسعيدة.
وفي البداية دعونا نعرف الواقع الذي يجب أن تكون عليه لغتنا العربية (أو اللسان العربي كما قال الأولون) لكي نقارن ما يجب أن يكون بما فهو كائن.
اللغة العربية بحق لغة غير عادية، لغة ذات خصائص عظيمة قلما تجتمع في لغة واحدة .. لغة متميزة في كل شيء تقريباً: في رسمها، في أصواتها، في معانيها، في مفرداتها، في تراكيبها.
وهي لغة ذات إرث حضاري، واسع، وعميق، فقد كانت هي لغة العلم، والحضارة لقرون متطاولة، وفي بقاع امتدت من أطراف الصين إلى سواحل الأطلسي، وكتبت بها آلاف المصنفات العلمية العظيمة في شتى الفنون، والعلوم، والمعارف.
واللغة العربية هي لسان الأمة العربية حفظت تراثهم، وروت أشعارهم، وهي اللغة التي يتعبد بها ملايين المسلمين في كل أنحاء المعمورة، يتلون بها كتاب ربهم، ويؤدون بها صلاتهم، ويعتبرون حبها من حبهم لدينهم ولنبيهم العربي.
وقبل كل هذا اللغة العربية هي اللغة التي تفردت بالشرف الإلهي، والمنزلة الربانية حين أنزل القرآن الكريم، وكتب له ولها معه القدسية، والخلود، والرفعة، والبقاء.
إن لغة بهذا الثراء، والجمال والمكانة، والعظمة؛ ينبغي أن تكون في الذروة بين لغات العالم.
فلننظر الآن في الواقع: هل هي كذلك؟
دعوني أوضح أولاً أن للغة العربية قوة ذاتية نابعة من تفرد خصائصها، وشرف مكانتها، وعندما أتحدث عن قوة اللغة أو ضعفها؛ فإنما أقصد واقعها في الحياة، وحالها في المجتمعات التي تتكلم بها، وعلى لسان المنتسبين إليها.
سأسرد الآن بعض المؤشرات التي تبدو إيجابية في تصور حال اللغة العربية الآن:
أولاً: عدد المتكلمين باللغة العربية حسب الإحصائيات العالمية 422 مليون تقريباً، وتأتي في المرتبة الرابعة بين مئات اللغات في العالم، وهم في ازدياد نتيجة النمو السكاني المضطرد في العالم العربي، تشير دراسات عديدة إلى أن عدد الناطقين باللغة العربية سيزداد لتصبح اللغة الثالثة بعد الصينية، والهندية بحلول 2050م، إضافة إلى أن المسلمين الذين يشكلون الديانة الثانية في العالم، ويتجاوز عددهم 1.62 مليار نسمة؛ كلهم يتحدثون ويقرؤون شيئاً من العربية في تلاوتهم، وعبادتهم.
يقول الدكتور وليد العناتي أستاذ علم اللسانيات واللغة العربية في جامعة البتراء: إذا نظرنا إلى مسألة العدد فإن المعيار الرئيسي الذي توصف اللغات بناء عليه أنها آيلة إلى الانقراض هو أن يتقلص عدد الناطقين بها إلى مئة ألف ناطق، وعدد الناطقين باللغة العربية تتجاوز هذا الرقم بأضعاف مضاعفة، إضافة إلى ذلك هناك العامل السكاني، وارتفاع نسبة الخصوبة والمواليد بين العرب.
ثانياً: بعد قرون من الضعف والانحطاط التي أعقبت أفول الحضارة الإسلامية؛ تجددت في العالم العربي خلال القرن الماضي نهضة ثقافية أدبية، وظهر كثير من الشعراء، والأدباء، وعلماء اللغة الذي جددوا الدماء، وأعادوا الحيوية للغة العربية.
ثالثًا: اهتمت الدول العربية اهتمامًا كبيرًا باللغة العربية من منطلق عروبي قومي أو من منطلق إسلامي، واعتمدت اللغة العربية لغة رسمية في الدساتير، ووضعت الحكومات على أساسها العديد من القوانين والأنظمة التي ترفع مكانة اللغة العربية، وتعزز وجودها، وتحمي كيانها.
رابعًا: مع انتشار حركة التعليم، وانحسار الأمية؛ نشأ جيل متعلم درس قواعد اللغة العربية، وأصولها، وتذوق فنونها وآدابها، وأعدت مناهج متخصصة لتدريس اللغة العربية، وأنشئت عشرات الكليات الجامعية المتخصصة في دراسات اللغة العربية؛ تخرج فيها آلاف المتخصصين والباحثين، وألفت وأجريت فيها آلاف الدراسات، والبحوث اللغوية، والفريدة.
خامسًا: قدمت مجامع اللغة العربية والعديد من المؤسسات المختصة خدمات جليلة عززت مكانة اللغة في المجتمع، ودافعت عنها أمام الهجمات المغرضة، والمحاولات المتكررة لتنحيتها، وإضعافها، ومن آخر المؤسسات التي أنشئت لخدمة اللغة العربية المجلس الدولي للغة العربية الذي أنشئ عام 2007م، وهو مؤسسة أهلية دولية مستقلة بدعم وزراء التربية والتعليم العالي، وجامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، ورابطة العالم الإسلامي، ومجلس التعاون لدول الخليج العربية.
كل هذا يدعو للتفاؤل والارتياح، ونحن ننظر إلى واقع اللغة العربية، ولذلك يقول الدكتور ممدوح خسارة عضو مجمع اللغة العربية في دمشق: اللغة العربية باقية، وثابتة، لغة يتعبد بها مليار وربع من الناس، وتدرس لغة ثانية في كثير من بلدان العالم، إنها لغة تنمو وتتسع وتزداد، وسوف تبقى وستكون عصية على الزوال، لأنها لغة ثابتة بجذورها بأصولها، وقد مرت بظروف شديدة ومع ذلك بقيت صامدة.
*****
نعم، إذا اكتفينا بالنظر إلى تلك المؤشرات العامة سنظن أن وضعنا مع لغتنا جيد جداً، ولا يدعو للقلق والتشاؤم، لكن الحقيقة أن أكثر الذين درسوا وناقشوا واقع اللغة العربية - مع إدراكهم لجانب القوة والخلود فيها - متفقون تقريباً أن وضع اللغة العربية متدهور، ومحبط، ومتخلف، ولهذا فهم قلقون جداً على واقع ومستقل اللغة العربية.
أما المؤشرات المقلقة التي تشي بالضعف، وتفضح حالنا مع اللغة العربية فهي عديدة، ومتشعبة، سأحاول أن أذكر أهمها في النقاط التالية:
أولاً: انحسر استعمال اللغة العربية الفصحى إلى مجالات أضيق وأضيق أمام توسع اللهجات العامية المحلية في الوطن العربي، فقد أصبحنا نستخدم العامية في ظروف ما كان ينبغي لنا أن نتحدث فيها إلا بالفصحى، في قاعات الدرس، وفي المؤتمرات، وفي البرامج الحوارية، وفي الخطب الدينية، والاحتفالات العامة، لقد صارت اللغة العربية كأنها اللغة التالية بعد لهجاتنا المحلية.
ثانيًا: لم تطبق القوانين والأنظمة التي تحمي اللغة العربية بجدية، وصدق، بل ظل كثير منها مجرد قرارات على الأوراق على سبيل المثال: يمنع النظام افتتاح محلات تجارية تحمل أسماء أجنبية (أو أعجمية كما يعبر العرب الأولون) أو تكتب بحروف غير عربية، لكن الواقع المشاهد يوميًا أن أسواقنا تمتلئ باللوحات واللافتات المكتوبة بالانجليزية دون العربية، أو بأسماء إنجليزية كتبت بحروف عربية.
ويلحق بهذا الإعلانات التجارية التي تستخدم عبارات عامية ركيكة، أو كلمات ومصطلحات إنجليزية مثل: سمارت ـ إكسترا ـ بلس.
ثالثًا: في أغلب الدول العربية لا تستخدم اللغة العربية في تدريس المواد العلمية، بل تدرس باللغة الإنجليزية، أو الفرنسية في المغرب العربي، وتكاد العملية التعليمية كلها تتم بلغة أجنبية حتى في مجال العلوم الإنسانية، وبالمقابل زاد الاهتمام بتدريس اللغة الإنجليزية فصارت تدرس في المرحلة الابتدائية قبل أن يتمكن الطالب من لغته الأصلية، وصار بعض الآباء يحرص على تعلم أطفاله للغة الأجنبية وهو في مرحلة الروضة، وزاد انتشار المدارس والجامعات الخاصة والأجنبية التي تتضاءل فيها اللغة العربية أو تختفي تمامًا.
وهذا يشبه أن يكون إقراراً بقصور لغتنا العظيمة - وحاشاها - عن استيعاب المفاهيم والمصطلحات والتطورات العلمية الحديثة، وليس الأمر كذلك، وإنما هو إقرار بحالة الضعف والتخلف الحضاري الذي تعانيه الأمة في شتى المجالات.
يقول الدكتور سلطان الحازمي في مقالة له عن مستقبل اللغة العربية: تكاد الإنجليزية تصبح اللغة الثانية، فهي لغة الدراسة في كثير من التخصصات الجامعية، وأداة التواصل في الشركات، والمستشفيات، والجامعات، وتملأ شوارعنا، وأسواقنا، وبيوتنا، ومطاراتنا، وإعلانات الوظائف غالباً ما تشترط إتقان الإنجليزية تحدثاً وكتابة.
رابعًا: صارت اللهجات المحلية هي السائدة في عامة البرامج، والمسلسلات، والأفلام التلفزيونية حتى أنه ليس لدينا من بين نحو 4000 فيلم سينمائي عربي سوى ستة أو سبعة أفلام لغة الحوار فيها هي العربية الفصيحة، أستثني من ذلك البرامج والتقارير الإخبارية، وبرامج الأطفال الكرتونية المدبلجة (فهي عموماً تستخدم الفصحى لتصل إلى كافة الأطفال في العالم العربي، مع التحفظ على محتوى كثير منها) فيما عدا ذلك لن تجد للفصحى مكاناً، بل قد تجد الإزراء بها حين يتكلم بها في بعض الأفلام مأذون الأنكحة أو المتشدد الإرهابي بطريقة منفرة ومهينة.
خامسًا: صار كثير من المثقفين والمتحذلقين يطعم حديثة بكلمات ومصطلحات أجنبية، فقط ليبرهن على ثقافته، ويدلل على تحضره، وأصبح الشاب العربي يتأفف اليوم ويمتعض من الحديث بلغته العربية مفضلاً عليها الإنجليزية والفرنسية في ظاهرة غريبة مؤلمة.
ولهذا يؤكد الدكتور عبدالسلام المسدي في كتابه "العرب والانتحار اللغوي، ص 26": أن العداء الخارجي ليس هو الأخطر على اللغة العربية، إذ الأشد خطرًا وفتكًا بها هو لون من العداء الداخلي، أو ما أسماه بـآلية النسف الداخلي التي تهدد اللغة العربية بالانفلات الذاتي على يد أبنائها.
سادسًا: أصبح إتقان اللغة الأجنبية شرط أساسي للقبول والحصول على الوظائف المناسبة في أغلب الشركات والمؤسسات التجارية وغير التجارية، بينما لم يعد أحد في العالم العربي يلقي بالاً لمدى إتقان الموظف للغته الأصلية، وصارت أكثر المستشفيات، وخطوط الطيران، والفنادق، والإدارات غير الحكومية في العالم العربي تعتمد على اللغة الأجنبية رديفة للغة العربية، وأحيانًا على اللغة الأجنبية فقط، وهي تتعامل في الغالب مع أشخاص لغتهم العربية، وفي بلد لغته الرسمية هي العربية.
يقول الدكتور: أحمد بن محمد الضبيب في مقالة له بعنوان "اللغة العربية في عصر العولمة": إن التحدي الذي يواجه اللغة العربية في هذا العصر مرده إلى الشعور المبالغ فيه بأهمية اللغة الأجنبية، الناتج غالبًا عن الانبهار بكل ما هو أجنبي، والظن الزائف بأن التقدم لا يأتي إلا عن طريق إتقان اللغة الأجنبية للجميع، هذا الشعور يأتي من الإحساس بالهزيمة النفسية التي يعاني منها الإنسان العربي في هذا العصر، والإعجاب المتنامي بصانع الحضارة المعاصرة الذي يمثل المنتصر والغالب، ومعروف رأي ابن خلدون في مثل هذه الحالة التي يعجب فيها المغلوب بالغالب فيتشبه به في شعاره، وزيه، ونحلته، وسائر أحواله، وعوائده.
ثم يقول الضبيب في مقالة تابعة للمقالة السابقة: أصبح المواطن غريبًا لغويًا في كثير من المؤسسات والشركات، وأماكن النفع العام مثل: المستشفيات، والفنادق، ووكالات السفر، وبعض المطاعم، وأصبح من الواجب على المواطن كي يحصل على مطلوبه من الخدمة أن يتعلم لغة أجنبية، وهو وضع شاذ لا نكاد نجد له مثيلاً في البلاد المتقدمة، إذ أن المسؤولية اللغوية تقع على عاتق العامل الأجنبي فهو الذي يطلب منه عادة إجادة لغة البلاد التي ينوي العمل فيها وليس العكس.
سابعًا: يشكو المختصون والمطلعون في تقنية المعلومات من شح المحتوى العرب على الانترنت مقارنة بلغات عديد هي في الواقع أقل استعمالاً وانتشاراً، حيث تفيد الإحصائيات أن اللغة العربية لا تمثل سوى0.4% من بين اللغات المتواجدة على الانترنت مقابل 47% للانكليزية، وهي مقارنة مخجلة جداً.
ثامنًا: انحرفت ذائقة كثير من الجيل الجديد عن تذوق الشعر العربي الأصيل، والنثر الفني الرفيع، وأقبلوا على القصائد الشعبية، أو الأغاني العاطفية، وفي الغناء العربي تبدو السيادة ليس للعاميات المغرقة في المحلية فقط بل لقاموس لغوي ركيك، ومشوه، يبدو أشبه "بالمسخ" اللغوي الذي يروج لمفردات لقيطة مجهولة النسب.
تاسعًا: بينما يتم تحديث معجم oxford الإنجليزي كل عشرة أعوام، ويتم تحديث معجم robert الفرنسي كل عام، نجد أن آخر قاموس عربي (وهو المعجم الوسيط) صدر قبل أكثر من نصف قرن دون أن يتم تحديثه منذ ذلك الزمان إلى اليوم، مع حاجة المجتمع العربي إلى إنتاج وتعريب وابتكار كلمات جديدة تلاحق التطورات التقنية الحديدة.
في هذا السياق أشير إلى دراسة قدمها الكاتب والمفكر المصري الدكتور فهمي هويدي في ندوة بجامعة أم القرى عنوانها: "واقع اللغة العربية في وسائل الإعلام" يقول الدكتور فهمي: "الملاحظ في هذا الصدد أن خصوم اللغة العربية في السابق كانوا من المتغربين، والمعادين للانتماء العربي والإسلامي، لكن حدود حركة هؤلاء لم تتجاوز المبادرات الشخصية التي ظلت محدودة التأثير، إلا أن الأمر اختلف الآن تمامًا من زاويتين، الأولى: أن إهانة اللغة العربية، والحط من شأنها؛ أصبح سلوكًا عامًا في المجتمع، ولم يعد مقصورًا على فئة دون أخرى، كما أنه غدا عند البعض من آيات الحداثة.
الثانية: أن العدوان على اللغة، وابتذالها أصبحا ظاهرة عامة في وسائل الإعلام، بتأثيرها الهائل على عوائد الناس، وسلوكياتهم"، ثم يقول: "محنة اللغة العربية في وسائل الإعلام لها ثلاثة مظاهر هي:
1. شيوع الأخطاء النحوية في العربية الفصحى.
2. شيوع الكتابة بالعامية في الإعلانات، وفي تقديم البرامج التلفزيونية، والإذاعية.
3. استخدام المفردات الأعجمية بكثرة في ثنايا الخطاب الموجه إلى الملتقى العربي". انتهى كلامه.
*****
وبعد .. فالذي أصل إليه من خلال هذه المؤشرات أن اللغة العربية تتعرض اليوم لخطر شديد، وتراجع مقلق، وهجوم مقصود، ليس من جهة واحدة بل من جهتين:
الأولى: من اللغات الأجنبية (الإنجليزية بالدرجة الأولى) التي تنشب أظفارها، وتغرس أنيابها في مصدر وحدتنا، وأس هويتنا متلبسة بلبوس العلم والمعرفة، ومتخفية بقناع العولمة والتواصل.
والثانية: من اللهجات المحلية العامية التي تنهش الفصحى من داخلها، وتنخر في الجسد العربي الواحد حتى يتفتت إلى لهجات، وقوميات، ولهجات شتى.
وما كان للغات الأخرى، ولا للهجات المحلية؛ أن تزاحم لغتنا العظيمة، أو تهز كيانها الكبير لولا أن الأمة العربية والإسلامية تعيش في مجملها حالة مؤسفة من التخلف الحضاري، والعلمي، والهزيمة النفسية، والإحباط العام، ولا ريب أن ضعف وهزيمة الأمة يؤدي إلى ضعف وتراجع لغتها.
إن هذه النتيجة التي خلصت إليها ليست متفائلة ولا سعيدة كما أملت في أول الحديث، لكنني أقول إن هذا الواقع المؤلم الذي تشهده اللغة العربية تبعًا لحالة الأمة لا يقلل أبدًا من ثقتنا ويقيننا بخلود وبقاء اللغة العربية بكل جلالها، وجمالها، وكمالها؛ ما بقي القرآن الكريم والدين القويم.
ولعلكم لاحظتم أن ورقتي هذه ناقشت واقع اللغة العربية في العالم العربي عمومًا، ولم تقصر الحديث عن الواقع في بلادنا فقط، وسبب ذلك أن شأن اللغة أمر مشترك بين كل أبناء الوطن العربي، وفي ظني أنني لو ركزت حديثي عن واقع اللغة العربية هنا في بلدي في المملكة العربية السعودية لكان حديثي أقل تشاؤمًا، وقلقلاً، وأكثر إشراقًا، وتفاؤلاً بحال ومستقبل اللغة العربية، ذلك أن لدينا في السعودية مزيدًا من المؤشرات الايجابية التي لا يصح أن أتغافل عنها مثل: المبادرات الوطنية لتعزيز دور اللغة العربية محليًا وعربيًا وعالميًا، ومنها إنشاء مركز الملك عبدالله العالمي لخدمة اللغة العربية، واستحداث جائزة خادم الحرمين العالمية للترجمة، وتأسيس مراكز الترجمة، ومعاهد تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها في بعض الجامعات.
****
لقد تواصل واستمر الحديث عن واقع اللغة العربية، فماذا عن آفاق المستقبل؟
أشير أولاً بإعجاب إلى مشروع رائد ربما يكون أهم وأكبر مشروع للنهوض باللغة العربية، واستشراف مستقبلها في ظل وضع مقلق وخطير وهو مشروع: "لننهض بلغتنا" لاستشراف مستقبل اللغة العربية.
أعلن هذا المشروع في دبي من طرف مؤسسة الفكر العربي، وهو عبارة عن دراسة ميدانية نفذت في إحدى عشرة دولة عربية، تلتها قراءة تحليلية، ثم وضع رؤية مستقبلية لحماية اللغة العربية، والنهوض بها، ويحاول المشروع الذي يقع في 640 صفحة أن يجيب عن عدد من الأسئلة منها: على من تقع مسؤولية الدفاع عن العربية حصننا الأخير؟ وكيف السبيل لاستعادة رمز هويتنا، وأحد الدلائل الباقية على وجودنا الحضاري؟ وأين تتجلى مظاهر القلق؟ وأي واقع للغة العربية في عالمنا العربي؟
وقد اعترف المشروع بقلقه على مستقبل اللغة العربية فجاء فيه ما يلي: لقد صارت لغة الضاد إحدى المناطق الرخوة في الثقافة العربية، وإحدى الثغرات المقلقة في آخر حصن من حصون المقاومة الحضارية للأمة، وبلغ تعامل العرب مع لغتهم حالة من التراجع، والتدهور، والامتهان الجديرة بالقلق العميق، وبلغ الأمر أن أصبحت لغة التدريس في معظم المدارس والجامعات العربية تتم في بلد مثل مصر بالعامية المصرية بدل العربية الفصيحة.
ويقول التقرير: اللغة عمود فقري لكل نهضة، فإذا انكسر هذا العمود، أو ضعف؛ شلت الأمة، وهذا ما يفسر الشلل القومي الكبير الذي أصيبت به الأمة العربية العظيمة.
ثم يقدم المشروع رؤيته المستقبلية من خلال سياسة لغوية منشودة تطمح إلى: جعل اللغة العربية الفصيحة لغة الحياة في البلاد العربية في التعليم، والبحث العلمي، وجميع مجالات العمل العادية والتخصصية في القطاعين العام، والخاص، وربط الإنسان العربي بلغته الأم تأكيداً لهويته الحضارية التي تعد اللغة أهم مظاهرها، وكسر الحاجز النفسي بين الإنسان العربي ولغته الأم لتجري على لسانه صحيحة بسهولة ويسر، مع إعلاء شأن اللغة العربية داخل الوطن العربي وخارجه، والعمل على أن تأخذ اللغة العربية مكانًا لائقًا بين اللغات العالمية.
ويرى مشروع "لننهض بلغتنا" أنه لا بد لأي سياسة لغوية من مرجعيات تقوم على تنفيذها ومتابعة قضاياها، والتأكد من سلامة التنفيذ، في مقدمتها القرار السياسي، ثم التشريعي، ثم التطبيق ضمن خطة مفصلة، هذه رؤية المشروع لمستقبل اللغة العربية، وهي فيما أرى مشروع جبار عيبه الوحيد أنه لا زال حبراً على ورق.
قبل الختام دعوني في سياق الحديث عن آفاق ومستقبل اللغة العربية أنقل لكم هذه الرؤية الصريحة للدكتور والشاعر اليمني المعروف عبد العزيز المقالح، والتي وردت في مقالة له عنوانها "واقع اللغة العربية بين المتفائلين والمتشائمين" يقول: إن الواقع نفسه يؤكد أن هذه اللغة العظيمة تتعرض لاغتيال تدريجي، وأن أمسها القريب كان أفضل من يومها، وأن مستقبلها سيكون أسوأ من حاضرها، لاسيما إذا ما استمر حالها يسير وفقاً للشروط الراهنة، وما تفرضه من تجاهل تام لكل ما تعاني منه اللغة في البيت، والمدرسة، والجامعة، وفي وسائل الاتصال الحديثة من تلفزة وغيرها، وفي الدوائر الرسمية والمؤسسات التجارية التي أنهت كل علاقة لها باللغة العربية، وباتت معاملاتها كلها تتم - رغم أنف الجميع - باللغة الأجنبية حرصاً منها - كما يقول أساطينها - على التواصل مع العالم.
أما أنا فأعتقد أن مستقبل اللغة العربية لا يحتاج إلى مزيد من الحديث، فالواقع هو أولى خطوات المستقبل، ولا أرى في أفق المستقبل ما يغريني بالحديث، أو يدعوني إلى التفاؤل، أو يوحي لي بواقع مختلف...
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
_______________
* ورقة مقدمة بمناسبة الاحتفاء بيوم اللغة العربية.