كتابة المقال
خالد بن محمد الحسني







الحمد لله نحمده ونستعينه، ونصلي على محمد وآله وصحبه، وبعد:

ففي زمن اختلطت فيه المبادئُ والأخلاق، وتماوج الناس بأمواج الفتن، وبات الغريب مألوفًا والمألوف غريبًا، والمنكر معروفًا والمعروف منكرًا - كان لزامًا على أهل الصلاح من المفكرين والعلماء والكتَّاب، أن يجاهدوا ويدافعوا هذا الكمَّ المهول من المفاهيم المزيفة، والأفكار التي تلتهم يومًا بعد يوم بقايا الأخلاق والنقاء والطُّهر؛ حتى يرفعوا عن المسلمين غشاوةَ الشك، ويُزيحوا عنهم لثام الشبهة والوهم.



وكتابة المقالات المختصرة من الأمور المهمة جدًّا في هذا الباب، خاصة في زمن السرعة والعجلة، وقد تصدَّى لهذا الأمر جماعةٌ من أبناء الإسلام، فنفع الله بهم المسلمين، ورفع بهم أوهامًا كثيرة كانت تحدق بالأمة شبابها وشيبها، فحافَظوا على شيء من الثقة في نفوس أهل الإسلام، في عصرٍ بات الضعف والعجز ينخران جسد هذه الأمة بقوة.



وإذا كان لكل مُحْكَمٍ فلتاتٌ، ولكل نافع هفوات، فإن هذا الباب لم يسلم بدوره من الآفات، واستعمالِه في أغراض ضعيفة المبنى أو المقصد، ومن العيب الفاحش أن يكون المكتوب في هذه المقالات كالكلام المسترسل في مجالس العوامِّ، فلا يتميز عنه برقيِّ لفظ وعبارة، وتمام معنى ومغزى، بل يلزم الكاتبَ أن يكسو معانيه أجمل الألفاظ، ويستعمل ألفاظه في أرقى المعاني وأسماها.



لكن الواقع بخلاف ذلك، فقد ارتقى هذا المرتقى الوعرَ كثيرٌ من أغمار الطلبة وضعافهم، فجعلوا يكتبون لمجرد الكتابة، ويخطُّون معاني يظلمون الحبر والكاغد بها، ولا يتكلفون في تقويم ما تخطه أيديهم وتحسينه، حتى اختلط الغث بالسمين، وامتلأت ساحة الفكر بحروف تملأ فضاء المعرفة غبشًا وسرابًا، فلا تكاد تميِّز بين ما تسمعه من الكلام المسترسل وبين هذه المقالات، وهذا ملحظ لزم التوقف معه وقفات؛ لتقويم ما يجب تقويمه، وإصلاح ما يقتضي الإصلاح؛ قيامًا بالميثاق الذي أخذه الربُّ جل وعلا على عباده من التواصي بالحق.



الكتابة فن أصيل عريق، وهو من أعظم طرق ترقية النفوس وتهذيبها، وقد اتَّخذه الحكماء والعقلاء منذ زمن سحيق لإيصال المعاني الراقية إلى النفوس الآدمية؛ حتى ارتبط لفظ الكتابة في أذهان العامة بالرقي والتحضر وتمام العقل والمعرفة، وإذا تأمل القارئ الكتب المحفوظة عبر التاريخ وجد دررًا كثيرة، وجواهرَ نفيسة، ومعانيَ تامة تحدو بالنفس البشرية إلى الكمال الروحي والعقلي والمعرفي، وكم من الكتب والأفكار التي حُفِظَت منذ عهود الإغريق إلى يومنا هذا، لا لشيء إلا لاتِّسامها برقي المعنى، وسموها عن درجات العامة والسوقة.



وإذا أراد الكاتب أن يكتب، لا بد أن يتوفَّر عنده نوعان من الشروط؛ شروط متعلقة بالكاتب نفسه، وشروط متعلقة بالمكتوب:

أما المتعلقة بالكاتب، فخمسة: صفاء النفس، والقدرة على الإبداع، والذهن الثاقب، والتؤدة والتأني، والإلمام بالأحكام الشرعية المتعلقة بالعمل والاعتقاد.



وأما المتعلقة بالمكتوب، فخمسة أيضًا: تقويم العبارة، وترتيب المعاني، وسلاسة الأسلوب، وتحصيل النتائج، وتحقُّقُ النفع.

فهذه عشرة شروط واجبةُ التحقُّق في المقال الذي ينتفع به العباد، ويرتقي بالطبائع إلى المراتب العالية، ويحارب شؤم انحطاط الفكر والذوق.



لا بد للكاتب أن يكون صافي النفس، خاليًا من كل ما يكدره من العوارض التي تصرف النفسَ عن الحق، وهذا الصفاء يتجلَّى في طهارة القلب من الأخلاق الذميمة، وخلوِّه من موجبات الانفعال والغضب؛ لكون هذه الأحوال تحمل النفسَ على تقرير الباطل والدفاع عنه، تحت وطأة الحمية والنفس والهوى، فلا يُفيق صاحب القلم إلا وقد أشبع هذه الوحوش المنطلقة من جوفه، وأضاع الحق بين أنيابِها البارزة المتلطخة بدماء العدل؛ فحقٌّ على الكاتب أن يُطهِّر نفسه وقلبه قبل حمله القلمَ، فإن للعدل نورًا وبرهانًا يضيء لأربابه كلَّ ما أظلَمَ من نواحي الحياة، والهدى قبل أن يكون علمًا فهو حكمة يَهَبُها الرب جل وعلا مَن يشاء مِن عباده، وبقدر تفاوتهم في إقامة سلطان الحق والعدل على أنفسهم، تكون هبة العطاء الرباني من الفهم والحكمة، والإرشاد والرعاية والتوفيق؛ فتَفْهَمُ من هذا أن تسلُّق مَن لم يهذب نفسه أغصانَ الشجرة الطيبة - لا يؤدي به إلا للوقوع على قَذاله في أوحال الباطل وخَضخاضه.



ومن صفاء النفس هدوءُها المقابل للضياع الناجم عن التعب أو الهم، فلا يكتب صاحب القلم إلا وهو في حال طيبة من راحة النفس والبدن، والسبب أن منجَم الأفكار والحكمة من غيب الروح، لا من الدماغ كما قد يُتصور، وما الدماغ إلا آلة تغوص في لجج الروح لاستخراج مكنوناتها، ثم تخزنها لتجدَها في أقرب أوقات الحاجة، أما الحكمة والهدى، فمنبعهما أعماق الروح المتصلة بالملكوت الخارجي، وإذا كان منبع الحكمة أعماق الروح الخالدة، فإن الروح ميزان الوقائع والأحوال والمعارف الخارجية العارضة، والناس يتفاوتون في تقييم ما يصادفونه في حياتهم من الأحوال والوقائع والأفكار؛ للاختلاف الحاصل في أرواحهم، فالروح لهذه العوارض والنوازل كالميزان، تُعْرَضُ عليها لتعطيك إشارة الحكم فيها بالسلب أو الإيجاب، وهذه الحركات النفسية من الاستخراج والعرض والحُكم - التي تنتقل بين الروح والدماغ والعالم الخارجي - لا يمكن أن تتم على الوجه السويِّ إلا إذا كان الجسد في تمام راحته وسكونه، فإن خالَطَه شيء، امتنع جريانها على الوجه القويم.



والقدرة على الإبداع متصلة بالمعنى السابق، فليس كل أحد يستطيع الإتيان بالجديد النافع، إلا مَن تهيأت روحه ونفسه لدَورة الفكر المرتبطة بالدماغ والروح، وهي قوة موهوبة كقوة البصر، وهي المعروفة عند المناطقة بالنظرِ المؤدِّي إلى تحصيل الأقيسة والبراهين، والناسُ في هذا الباب يتفاوتون تفاوتًا كبيرًا، فأقلُّهم درجة مَن لا يتعدى القدرة على فهم التصورات المجردة، وحتى هذه التصورات قد لا يستوعبها على الوجه التام، وأعلاهم درجة مَن له القدرة على تفكيك التصديقات وإعادة تركيبها بالتصحيح والبيان، وهم الصفوة من الخلق، ومنهم يتخرج الحكماء القائمون بتجديد المعاني للخلق، ولولاهم لفسَدت ظواهر الحياة وأنحاؤها كما هو الحال اليوم؛ فالكاتب للمقال لا بد أن يكون عنده شيء من هذا الحس؛ حتى لا يُفسد من حيث يروم الإصلاح، فإن كان منه خِلْوًا، كان ضرره على المتعلمين والناظرين في مكتوبه بليغًا.



والذهن الثاقب ليس عين القدرة على الإبداع، بل هو مِن شرطها، وإذا كان الإبداع يتحصَّل من صفاء الروح، والقدرة على استعمال حركة الفكر لاستخلاص المعاني المحدَثة المحصلة من الهبة الربانية، فحدَّة الذهن جزءٌ من هذه المركبات، وهي عين الحركة، فلا يخفى على متأمِّل أن الحركة النفسية المنتجة للأفكار تعتمد الجوارحَ الجسميةَ، والأحوالَ الخارجيةَ العارضةَ، والثروةَ الروحية الكامنة، ومركزُ هذه العملية الدماغُ، وميزانها الذي يصفِّيها القلب، وبين هذه المؤثرات تنتقل حركة النفس، وهذه الحركة هي الذهن، وثقوبها وحدتها في سرعتها ونفوذها، وقدرتها على التنقل بين المؤثرات بخفة ونشاط، وسرعتُها هي عين الذكاء؛ فلا بد للكاتب أن يتَّصِف ذهنه بالحدة والقوة والسرعة؛ حتى يستطيع إيصال المعاني النافعة على وجه يتحقق به النفعُ.



وإذا كانت سرعة الذهن مطلوبة، فهذا لا يعني ترك التؤدة والتأني في تقرير المعاني وتحريرها، وما تُركت التؤدة والتأني في شيء إلا تَعَرَّضَهُ الخلل والوهم، والذي يتصفح نِتاج أفكار القوم اليومَ يلمح آفة الاستعجال بادية، ولهذا الاستعجال أسباب مختلفة؛ منها:

حب الاستكثار، فالآدمي مجبول على حب الاستكثار من الملذَّات، والكتابةُ من جملتها، وقد يشرع الكاتب في تحرير أفكاره ومعارفه، ثم تستهويه نفسه للإتيان بأكبر كَمٍّ من التواليف والمقالات، وليس في ذاك عيب؛ لأن الكتابة من جملة الخير الذي يتعدَّى إلى الغير، لكن العيب في أن تطغى شهوة الاستكثار فتَمْحَق المعاني، ويخرج المكتوبُ في ألفاظ شاحبة هزيلة، خالية من كل معنى، أو متعلقة بمعاني ضعيفة كَلِيلة، لا تحيي ميتًا، ولا تقيم معوجًّا.



ومن أسباب الاستعجال حبُّ إظهار النفس، وتلك الآفة القاصمة - سلمنا الله بمنِّه منها - فإن المرء إذا أحبَّ الظهور والبروز، أكثَرَ مِن الكتابة؛ ليصرف أنظار الناس إليه، وهذا أمر ينبعث بقوَّة مع وحوش النفس الآدمية، ومَن لم يُسَلِّطْ عليه سوطَ العواقب ضَيَّعَ دينه ودنياه.



وهذا لا يعني ألا يسعى الإنسان لتخليد ذكره فيمن بعده، بل ذلك مما يطمع فيه الصالحون، ويسعَون لتحصيله بعد تحقيق الصدق والإخلاص في نفوسهم، وأي شيء كتأبيد الذكر الحسن وتخليده في الآخرين؟ بل وأي شيء يَعدل استجلاب الرحمات الدائمة؟

لا شيء يوازي ذلك بعد العمل الخالص لوجه الله تعالى، لكن المذموم هو السعي لتحصيل الذكر إعجابًا بالنفس واغترارًا بها، أو قصدًا لاستجلاب الجاه وثناء الناس للتفاخر والتطاول على العباد؛ فإن ذلك من خصال الشياطين الذين اشتمَلوا بمُسُوكِ الإنس، والحقيقة أن بواطنهم بواطنُ الذئاب.



ومِن حرصِ الكاتب على صون دينه من العبث: اطِّلاعُه على الأحكام الشرعية المتعلقة بالعمل والاعتقاد؛ لكيلا يقع في المخالفات الشرعية التي قد يحمل وزرَها ما دامت آلات النسخ تُصدِر مكتوبَه وتنشره بين رفوف المكتبات؛ فالمسلم إنما يكتب لإقامة مراد الربِّ جل وعلا، فإن كانت كتابته ستؤدي إلى تحريف هذا المراد أو تبديله أو تغطيته، فقد خالف الأصلَ الأول الذي حمل القلم لأجله، وليس يُقبل منه عذر عند حصول الزلل، ومثله مثل القاضي الذي قضى للناس بجهل لا عذر له، إلا أن يكون من الوهم الذي لا يَسلم منه بشر؛ أما الخوض في دقائق أمور الدين بجهل، فعاقبته عاقبةُ سوء - والعياذ بالله - ومنه تعلم ثقل مسؤولية القلم وآفته، عصمنا الله بمنِّه و كرمه، وجنَّبنا بفضله مواطنَ الهلكة والعطب.



إذا تحقَّقَ الكاتب من هذه الصفات، وارتوى منها بالقدر الذي يثمر ثمارها، وشرع في رسم أفكاره وتحريرها - لزِمه العناية بأغراض توصِّله إلى المطلوب؛ منها تقويم العبارة بتخليصها من الحشو الزائد وتكرار اللفظ، وتنقيحها من كل ما يوقع فيها التنافرَ الذي يصك آذان القارئ لها؛ فالنفس قبل أن تستوعب المعنى تطرب بجرس اللفظ، فإذا كان متناسقًا، حملها على فهم حمولته المعنوية، وإن كان متنافرًا غير متسق، أحدَثَ فيها اضطرابًا يمنعها من قَبول المعاني المقصودة بها، وهذا مبحث بلاغي اعتنى به أهلُ المعاني والبيان وبيَّنوا أسراره.



ولا ينبغي أن يؤدي تحسين الألفاظ إلى تغليب اللفظ على المعنى، بالمبالغة في الألفاظ وتهويلها، وإهمال المعاني المقصودة بها، وقد أشار عبدالقاهر الجُرجاني في "دلائل الإعجاز" إلى هذا المعنى بقوله:

"الألفاظ لا تُراد لأنفسها؛ وإنما تراد لتُجعل أدلةً على المعاني، فإذا عدمت الذي له تراد أو اختل أمرها فيه، لم يعتدَّ بالأوصاف التي تكون في أنفسها عليها، وكانت السهولة وغير السهولة فيها واحدًا، ومِن ها هنا رأيت العلماء يذمُّون مَن يحمله تطلُّبُ السجع والتجنيس على أن يَضِيمَ لهما المعنى، ويُدخِلَ الخللَ عليه من أجلهما"[1].



وعلى هذا المعنى يلزم أن يكون الحادي بصاحب القلم في تحريره للمقال الرغبةَ في تقرير المعنى، لا الهوس بتفخيم العبارة وتهويلها؛ لأن هذا المسلك يؤدي حتمًا إلى تعظيم الجسد على حساب الروح، وجسدٌ بلا روح ترابٌ لا فائدة ترجى منه.



ومراعاة تحرير العبارة مِن أسباب سلاسة الأسلوب، وأهم عنصر في هذا الجانب تسهيل المعنى، وحسن تركيب الألفاظ، ومجانبة التكلف والتقعر؛ بحيث يجتهد الكاتب في اختيار أيسر التراكيب فهمًا للدلالة على المعاني، وسلاسةُ الأسلوب لها ارتباط محكم بالروح؛ فإن الكتابة مرآة روح الكاتب المنعكسة على الورق، وأنت تجد الألفاظ المستعملةَ واحدةً، والأساليب مختلفة، والعلةُ كونُ بصمةِ الروح تؤثر بقوة على التركيب، فتجد فيه نَفَسَ مُنْشِئِهِ باديًا جليًّا؛ وهذا يرمي بنا إلى جعل الأسلوب الكتابي شقين:

شقًّا موهوبًا مرتبطًا بنفسية الكاتب وروحه.

وشقًّا مرتبطًا بالاكتساب من خلال الإكثار من مطالعة أساليب الآخرين.



ومما يدل على هذا التقسيم أنك تجدُ الرجلينِ يقرأ الواحد منهما مثل الذي قرأ صاحبه كَمًّا ونوعًا، لكن البَون بينهما في تقرير الأفكار وتحريرها شاسع جدًّا، وبه يُفَسَّرُ نبوغ أفراد دون آخرين، رغم التساوي أو التفاوت في القَدر المقروء؛ فسلاسة أسلوب الكاتب مرتبطة بهذين الجانبين، ويبقى للكاتب بعدهما مجال لتحرير التركيب بالتحسين والتدقيق؛ بإزالة عبارة زائدة، أو تقديم جملة على غيرها، وما سوى ذلك من طرق تحسين المكتوب.



وإذا كانت غايةُ الألفاظ إيصالَ المعاني، لزم أن تكون المعاني المرادةُ سائقةً في عملية الكتابة، وأن تكون الجالبة للألفاظ، لا العكس، فإن اهتم حامل القلم بالألفاظ وجعل المعاني تبعًا لها، لم يأتِ بشيء، بل لن يخرج مكتوبه إلا ضعيفًا مشوهًا، وقبل ذلك يكون قد ضيَّع الغاية من الكتابة؛ لأن الناس إنما يكتبون لإيصال المعاني، لا لتهويل الناظرين بغريب الألفاظ وَحُوشِيِّها، وفي الوقت ذاته يستحب استعمال اللغة وألفاظها المهجورة، لا بنيَّة التكاثر؛ ولكن قصد إحيائها وإفادة القارئين لها.



ومما يتعلق بالمعاني ترتيبُها؛ بتقديم المقدمات وتأخير النتائج، وربط الأفكار الجزئية بعضها ببعض؛ حتى تؤدي إلى المعاني المقصودة منها، وهنا نضطر لذكر تنبيهينِ يحتاجهما الكاتب قبل الشروع في أغراضه:

فأولهما: أن يعلم أن الأفكار ثلاثة أقسام:

قسم يحدده قبل البَدْء في التحرير.

وقسم يزيده عند التحرير، ومنه الاستشهاد والاستدلال.

وقسم يضيفه بعد الانتهاء، وهو الذي يسميه العلماء تبييضًا، ويكون بالتصحيح والبيان والاستدراك.



ثانيها: تحديد الموضوع وأجزائه قبل الخوض في تأليف الكلم، ويكون ذلك بتعيين المضمون العام، وسبب الاختيار، والغرض منه، وطريقة العرض؛ لأن كل موضوع تليق به طريقةٌ مِن طرائق السرد؛ فالموضوع العلمي يلزم أن يتسم بالهدوء، والمناقشة المبنية على الاستدلال، وبيان علل الاختيارات وبراهينها، والموضوعُ الإرشادي الخطابي يتَّسِم بالقوة والتَّدَفُّقِ، والتمليح للحُجج الدامغة بالأساليب البلاغية الخاطفة، والموضوع الحِكمي الذي يرمي إلى ترسيخ الحِكم والمعاني الراقية، يكون بالتركيز على العواطف البشرية والفطرة المركوزة في الإنسان، فيحاول إحياءها برفقٍ ولين وتؤدة، وهكذا كل موضوع من المواضيع يحدد لصاحبه السبيل الذي يسلكه في نظمه وعَرضه؛ وقد يجتمع أكثرُ من أسلوب في موضوع واحد، كما قد تُسبك الأساليب فيخرج منها أساليب متفرِّعة.



هذه الاعتبارات السابقة كلُّها سِيقت لأجل مقصد تحصيل النتائج، والنتائج هي الغاية من كل تأليف، مقالًا كان أو كتابًا، وترجع بنا إلى قضية الاختيار، فاختيارُ مواضيع الكتابة من المسائل المهمة، وهي التي تنتج الحركة العلمية فتعلو بها أو العكس، والمُريد للكتابة قبل أن يختار جهة مِن الجهات ليسيل فيها مداده، يلزمه إمعانُ النظر، واستعمال التأمل الحاد، قبل أن يقع على معنى من المعاني بالبيان أو النقد أو الاختراع، والذي يوجهه في هذا التأمل هو حاجةُ الأمة، ما الذي يحتاجه المسلمون بالتحديد؟



ونحن إذا نظرنا إلى حال الأمة العلمي والديني، وجدنا المظاهر التي تحتاج المدافعة والإصلاح جليةً بارزة، لكن إذا نظرنا في نفس الحين إلى حركة الكتابة، وجدناها تبتعد عن هذه المظاهر بقصد أو غير قصد إلى مظاهرَ جزئية فرعية لا صلة لها بأوجاع الأمة، وقد تقرأ الصفحات الكثيرة للمعاصرين، فتكاد تجزم أن الكاتب إما أنه يعيش في الخلافة الراشدة، أو في كوكب الزهرة أو عطارد! هو حقًّا واقع مرير مُضحك مُبكٍ في نفس الآن؛ فإذا كانت الصفوة التي يُرجى منها الإصلاح بهذا الوضع، فكيف نرجو من العامة تحقيقَ الصلاح؟!



من وجهة نظري أرى أن المطبوع من الكتب الشرعية في جهة العلوم النقلية والعقلية كافٍ لإقامة أمَّة إسلامية قوية راسخة؛ وإنما نحتاج عقولًا تمِّيز بين الحق والباطل؛ لتظهر الحق على هذه الأباطيل التي أضحت ترتدي جلباب الحق مكابرة متكبِّرة، ومن هذه الأباطيل حبُّ الكلام والكتابة، لا لإيصال الحق إلى القلوب؛ ولكن لمجرد الكتابة والكلام؛ حتى يقال: إن القائمين بأمر الشريعة بخيرٍ، وإنما الذي يحتاج الإصلاح هم العامة، فينبغي أن نكثر من الدعوة والإرشاد؛ عسى الله أن يهدي الأمة، وهذا تلبيسٌ جلي؛ لأن الذي يحتاج الإصلاح هم الخاصة أنفسهم، ولم تَفْسُد العامة إلا بفساد الخاصة.



وعن نفسي: لست أجزع من فساد العامة الذي يهوِّله الدعاة والكُتاب اليوم، ولكنني أفزع غايةَ ما يكون الفزع مِن فساد الخاصة؛ لأنهم الرأس، وبصلاح الرأس يصلح الذيل، وبفساده يفسد؛ فإن الخاصة إذا أقاموا في أنفسهم الحقَّ بسوط التُّقى، أقاموا العامة لا ريب بسوط الحقِّ والعدل، وإذا أهملوا قلوبهم في أيدي الملذَّات والشهوات والنزوات الزائلة، تمرَّدت العامة وتسلطت، ولم يَثنِهم عن فسادهم قلمٌ ولا لسان ولا دِرَّة.



والكثير من المكتوبِ اليوم إنما يستجيب لداعي النفس والهوى، قبل أن يستجيب لداعي إصلاح النفس وتقويمها، والذي يغلب عليه أيضًا تقليد طرائق الناس بعيونٍ مغمضة بعصائب التقليد والتعظيم للأفراد والأشخاص؛ فيلزم إخوانَنا الكتَّاب عند اختيار مواضيع الكتابة التنبهُ لهذا الملحظ، وهو إصلاح الخاصة، فإن التركيز عليه هو سبيل النجاة، ومتى حصل التناصح في هذه الجهة، انتفعت الخاصة والعامة، وحصل المطلوب من الكتابة بعد اعتبار الشروط الفارطة، إذا دبَّ فيه دم الصدق والإخلاص والثبات على كلمة الحق.




هذا، والله أعلم.

وأسأل الله أن يكون هذا المسطور حجةً لنا يوم نلقاه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.






[1] دلائل الإعجاز، ص: 333/ دار المعرفة - بيروت.