شعراء يترفعون عن المديح
د. وليد قصاب
لا يرفض التصوُّر الإسلامي للأدب غرضَ المديح ما دام ملتزمًا بضوابط شرعية معروفة، حدَّدها أهل العِلم والفقه، ولكن هذا الغرض كان من أكثر أغراض الشعر التي أصابها الانحرافُ العقَدي والفني؛ إذ مُدح في الشعر العربي فسَقَةٌ لئام، وعُملق سفلة أقزام، ودخل المديحَ الكذبُ والتملُّق والمبالغة والغلو؛ حتى بدا - بسبب من ذلك - في موطن شبهةٍ عند طائفة من أصحاب الأنَفة والكبرياء.
ولذا ترفَّعت طائفةٌ من الشعراء العرب عن المديح، ولا سيما مديح التكسب؛ إذ عدُّوه منقصة للمروءة، يغتال شهامة الشاعر، ويذهب بماء وجهه، إنه متاجرة بالكلمة، وارتزاق بها، وذلك من شرِّ الارتزاق والكسب.
وقد مثَّلت هذه الأنَفَةُ من شعر المديح، والترفعُ عنه وجهًا من وجوه التيار الإسلامي في نقدنا وأدبنا العربي القديم.
دعا عِمران بن حطان - شاعرُ الخوارج - الفرزدقَ - وقد شاهده مرة ينشد مديحًا، والناس حوله مصطفُّون - أن يصُون نفسه عن طلب ما بأيدي الناس، وأن يسأل الله وحده، وألا يحمله الطمع في عطاء الممدوح على تزييف القِيَم، فيكذب ويَمِين، ويقول في الناس ما ليس فيهم:
أيها المادح العباد ليُعطى
إن للهِ ما بأيدي العبادِ
فاسألِ اللهَ ما طلبتَ إليهم
وارجُ فضلَ المقسم العوادِ
لا تقُلْ في الجوَادِ ما ليس فيه
وتُسمِّ البخيلَ باسم الجوادِ[1]
وعقَد ابن رشيق في العمدة بابًا سماه "باب التكسُّب بالشعر والأنَفَة منه"، فذكر أن الترفُّع عن السؤال كان هو الغالبَ على الشُّعراء المتقدِّمين، قال: "وأما أكثر من تقدَّم فالغالب على طباعِهم الأنفةُ من السؤال بالشعر، وقلة التعرُّض به لما في أيدي الناس، إلا فيما لا يُزري بقدرٍ ولا مروءة؛ كالفلتة النادرة، والمهمَّة العظيمة..."[2].
وعبَّر شعراءُ كثيرون عن هذه الأنَفة، وبيَّنوا ما في السؤال من إسقاطٍ للمروءة، وتهجين للكرامة، قال عُبيد بن الأبرص:
منْ يسألِ الناسَ يحرموه
وسائلُ الله لا يخيبُ[3]
وقال آخر:
وإني امرؤٌ لا أسأل الناس مالهمْ
بشِعري ولا تعيا عليَّ المكاسبُ[4]
وعُرف عددٌ من شعراء الإسلام الذين ترفعوا عن المديح، وسَمَوْا بأنفسهم عن التكسُّب بالشعر، أو اتخاذ الكلمة متجرًا، ومن هؤلاء مثلاً جميل بن معمر العُذري، روي عنه: "أنه ما مدح أحدًا قط إلا ذويه وقرابته"[5]، وروي أنه صحب الوليد بن عبدالملك في بعض سفره، والوليد على نجيب، فرجز به ابن العذري فقال:
يا بكرُ، هل تعلمُ مَن علاكا
خليفةُ اللهِ على ذُرَاكا
فقال الوليد لجميل: انزِلْ فارجز، وظنَّه يمدحه، فقال:
أنا جميلٌ في السَّنام من مَعَدٍّ
في الذِّروة العلياءِ والرُّكنِ الأشَدِّ
وأخذ في مدح نفسه وقومه، فقال: اركَبْ، لا حملك الله[6]
وممن أنِفوا من المديح كذلك عمر بن أبي ربيعة، والحارث بن خالد.
قال أبو الفرج: والحارث بن خالد أحد شعراء قريش المعدودين الغزَليين، وكان يذهب مذهب عمر بن أبي ربيعة، لا يتجاوز الغزل إلى المديح ولا الهجاء.."[7].
وقال سليمان بن عبدالملك يومًا لعمر: "ما يمنعك من مدحنا؟ قال: إني لا أمدح الرجال، إنما أمدح النساء"[8].
يتبع