تعريف المسائل الاجتهادية:
المسائل الاجتهادية، التي يكون الخلاف فيها قوياً معتبراً له حظٌ من النظر، هي التي يظهر فيها وصفٌ من الأوصاف التالية:
أ- ما تجاذبها أصلان شرعيان صحيحان، فترددت بين طرفين وضح في كلٍ, منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما، والنفي في الآخر، فلم تنصرف البتة إلى طرف النفي ولا إلى طرف الإثبات،
ب- المسائل التي ليس «فيها دليلٌ يجب العمل به وجوباً ظاهراً، مثل حديثٍ, صحيح لا معارض له من جنسه، فيسوغ فيها إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به، الاجتهاد لتعارض الأدلة، أو لخفاء الأدلة
فالمسائلُ الخلافيَّة - سواءٌ العلميَّة العقديَّة، أو العمليَّة الفقهيَّة - يُنكَر فيها على المُخالِف بضوابط الإنكار؛ من بيان الحقِّ بعلمٍ وتجرُّد وإنصافٍ وبالحكمة والحُسنى،
مع بيان دليل القول الصَّحيح من الكتاب والسُّنَّة،
. قال شيخُ الإسلام ابن تيميَّة في "مجموع الفتاوى" (30/ 80):
إنَّ مِثل هذه المسائل الاجتهادية لا تُنكَر باليد، وليس لأحدٍ أن يُلزِم الناسَ باتِّباعه فيها، ولكن يُتكلَّمُ فيها بالحُجج العلميَّة؛ فمَن تبيَّن له صحَّةُ أحد القولين تبعه، ومن قلَّد أهلَ القول الآخر فلا إنكار عليه". وقال رحمه الله في "الفتاوى الكبرى" (6/ 96):
"وقولهم: مسائلُ الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيحٍ؛
فإنَّ الإنكار إمَّا أن يتوجَّه إلى القول بالحُكم أو العمل؛
أمَّا الأولُ:
فإذا كان القولُ يخالِفُ سنَّةً أو إجماعًا قديمًا وجب إنكارُه وفاقًا، وإن لَم يكُنْ كذلك فإنَّه يُنكَر؛ بمعنى: بيان ضعفه عند مَن يقول: المُصيبُ واحدٌ، وهم عامَّةُ السَّلَف والفُقهاء،
وأمَّا العملُ فإذا كان على خلاف سنَّةٍ أو إجماعٍ وجب إنكارُه أيضًا بحسب درجات الإنكار؛
كما ذكرناه مِن حديث شارب النَّبيذ المُختلَف فيه، وكما يُنقضُ حُكمُ الحاكم إذا خالَف سنَّةً، وإن كان قد اتَّبع بعضَ العلماء.
وأمَّا إذا لم يكن في المسألة سنَّةٌ ولا إجماعٌ، وللاجتهاد فيها مَساغٌ - فلا يُنكَر على من عمل بها مُجتهدًا أو مُقلِّدًا،
وإنَّما دخل هذا اللَّبسُ مِن جهة أنَّ القائل يعتقدُ أنَّ مسائل الخلاف هي مسائلُ الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائفُ من النَّاس،
والصَّوابُ الذي عليه الأئمَّةُ أنَّ مسائل الاجتهاد ما لَم يكن فيها دليلٌ يجبُ العملُ به وُجُوبًا ظاهرًا، مثل حديثٍ صحيحٍ لا مُعارِض من جنسه، فيسُوغُ له - إذا عدم ذلك فيها - الاجتهادُ؛
لتعارُض الأدلَّة المُتقاربة،
أو لخفاء الأدلَّة فيها،
وليس في ذِكر كون المسألة قطعيَّةً طعنٌ على مَن خالفها من المُجتهدين
كسائر المسائل التي اختَلف فيها السَّلفُ، وقد تيقَّنَّا صحَّة أحد القولين"؛ اهـ.
هذا، ومَن تتبَّع أقوالَ الصَّحابة فيما اختلفوا فيه في باب العقائد وفي الفروع وجد أنَّهم أنكر بعضُهم على بعضٍ ببيان الدَّليل والقولِ الراجح في الأمرين؛
فعائشةُ رضي الله عنها أنكرَتْ على مَن قال بسماع الأموات،
وهي مسألةُ السَّماع المشهورة، خالَفها الصحابةُ كما خالفَتهم في مسألة تعذيب الميِّت ببُكاء أهله عليه، وأنكرَت على من قال برُؤية رسول الله ربَّه ليلة الإسراء رؤيةً عينيَّةً،
وهذه مسائل عقديَّة،
وكذلك تناظر ابنُ الزُّبير مع ابن عباس في مُتعة الحجِّ، وكان ابن الزُّبير يرى الإفراد، وابنُ عباس يرى وُجُوب التمتُّع للآفاقيِّ، وإنكارُ عائشة على عبدالله بن عمرو في وُجُوب نقض المرأة لضفائرها في الغُسل مشهورةٌ، ومن ذهب يتتبَّعُ ذلك في مظانِّه لوجده كثيرًا جدًّا؛ أعني: إنكارَ الصَّحابة بعضهم على بعضٍ في الفروع الفقهيَّة الذي وقع فيه الخلافُ ببيان الدليل، مع تزييف القول الآخر، بل إنَّ فقهاء الحديث نصُّوا على أنَّ من شرب النبيذَ المختلف فيه أُقيم عليه الحدُّ
قال النووي: العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه،وقال شيخ الإسلام:
"فإن مسائل الدق في الأصول لا يكاد يتفق عليها طائفة إذ لو كان كذلك لما تنازع في بعضها السلف من الصحابة والتابعين، وقد ينكر الشيء في حال دون حال، وعلى شخص دون شخص
والحاصل : أن مسائل العقيدة ليست كلها مما لابد فيه من اليقين؛ لأن اليقين أو الظن حسب تجاذب الأدلة، وتجاذب الأدلة حسب فهم الإنسان وعلمه. فقد يكون الدليلان متجاذبين عند شخص، ولكن عند شخص آخر ليس بينهما تجاذب إطلاقا، لأنه قد اتضح عنده أن هذا له وجه وهذا له وجه، فمثل هذا الأخير ليس عنده إشكال في المسألة بل عنده يقين، وأما الأول فيكون عنده إشكال وإذا رجح أحد الطرفين فإنما يرجحه بغلبة الظن
قال الشيخ عبد الرحمن البراك: الصحابة لم يختلفوا في مسائل الاعتقاد، ولم يختلفوا في صفات الله ... وكذلك لم يختلفوا في القدر وأفعال العباد وفي حكم أهل الكبائر،
وهذا الاتفاق لا يمنع أن يختلفوا في بعض الجزئيات، كمسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج، كما اختلفوا في تفسير بعض الآيات، هل هي من آيات الصفات؟ كقوله تعالى: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله. [البقرة: 115]، فالأكثرون قالوا: المراد بالوجه الجهة، وهي القبلة، فوجه الله قبلة الله، كما قال مجاهد.
وقال بعض أهل السنة: (وجه الله) هو وجهه الذي هو صفته سبحانه وتعالى، وليس ذلك اختلافاً في إثبات الوجه لله سبحانه وتعالى، فإنه ثابت بالنصوص التي لا تحتمل، كقوله تعالى: "ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام" [الرحمن: 27] .. اهـ.
أما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق،
فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة أو وقوع في خلاف آخر،
وقال شيخ الاسلام ابن تيمية:
فإن أصل هذه المسألة فيها نزاع مشهور بين علماء المسلمين، ومسائل الاجتهاد لا يسوغ فيها الإنكار، إلا ببيان الحجة وإيضاح المحجة: اهـ.
يقولُ الإمامُ ابنُ القيِّم رحمه الله:
وقولُهُم إنّ مسائلَ الخلافِ لا إنكار فيها ليس بصحيح فإذا كانَ القولُ يخالفُ سنَّةً أو إجماعاً شائعاً وجب إنكارُه اتفاقاً، وأمَّا العملُ فإذا كانَ على خلافِ سُنّةٍ أو إجماعٍ وجبَ إنكارُه بحسب درجات الإنكار، وأمَّا إذا لم يكن في المسألةِ سنّةٌ ولا إجماعٌ وللاجتهادِ فيها مساغٌ ، لم تنكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً