سأتناول هذه النقطة بمزيد تفصيل ولا صلة بموضوعنا بآراء الرجال
الاستنباط علمٌ معتبَرٌ, وحُجَّةٌ في الشرع,
لَمَا أمر اللهُ تعالى عبادَه برَدِّ ما لم يدركوا علمه نَصَّاً إلى من يدركونه بالاستنباط من أهل العلم,
فالاستنباط من أهمِّ أسباب دَرَكِ العلوم؛ وله من الأصولِ والضوابط التي تجمع جزئياته, وتَلُمُّ متفرِّقاته,
ما يجدر معه بأهل العلم إبرازها وتحديدها, بعد جمعها ودرسها.
قال ابن القيم
(الواجب فيما علَّقَ عليه الشارعُ الأحكامَ من الألفاظ والمعاني = أن لا يُتَجَاوَز بألفاظها ومعانيها, ولا يُقْصَر بِها, ويعطي اللفظَ حقَّه والمعنى حقَّه, وقد مدح الله تعالى أهل الاستنباط في كتابه, وأخبر أنهم أهل العلم)
, ومن حقِّ اللفظ والمعنى استيعاب المعاني الصحيحة المتعلقة بهما من جهة نِدِّ المعنى ولوازمه وأشباهه ونظائره.
فالقرآن ظاهرٌ وباطن
أمَّا ظاهره فهو: ظاهر المعنى, والمتبادر من اللفظ.
وأمَّا باطنه فهو: المعاني الصحيحة المتَّصِلة بالآية من غير دلالة اللفظ المباشرة, وهذا مجال الاستنباط في هذا العلم, وقد يرتفع المعنى الباطن البعيد فيكون مراداً مع المعنى الظاهر القريب لاشتراكهما في الصحة والقبول والدلالة -
لكن لا يصل المعنى الباطن بحالٍ إلى أن يكون مراداً دون المعنى الظاهر,
وهذا ما يميز هذا التقسيم عن استعمال الباطنية له؛ فإنهم يؤَصِّلون لهذا التقسيم مع رَدِّهم وإلغائهم للظاهر,
والإغراق في معاني باطنة باطلة لا يقبلها نقلٌ صحيح ولا عقلٌ صريح,
فيؤول تفسيرهم إلى دعاوى ليست من الظاهر, ولا من الباطن الصحيح في شيء.
و المعاني المأخوذة بالاستنباط - بطبيعتها - أكثر وأغنى من معاني الألفاظ المباشرة,
بل إن من أحكام الحوادث ما لا يُعرَفُ بالنصِّ وإنما بالاستنباط, وكم من سِرٍّ وحُكمٍ نَبَّهت عليهما الإشارة, ولم تبينهما العبارة
, قال السهيلي: (ليس كل حكم يؤخذ من اللفظ, بل أكثرها تؤخذ من جهة المعاني والاستنباط من النصوص)
؛ إذ الألفاظ محصورة, ومعانيها محددة, والوقائع والمناسبات متجددة, وقد أنْزل الله تعالى كتابه الكريم صالحاً لكُلِّ زمان ومكان, وتبياناً لِكُلِّ شيء يتوقف عليه التكليف والتعبد, وتستقيم به حياة الناس؛ من العلوم الشرعية, والحقائق العقلية
العلمُ المستَنبَطُ على وجهه أقرب إلى علم النبوة وأعلى درجةً من غيره,
قال تعالى: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَه ُ مِنْهُمْ
فَخَصَّ الله تعالى رسولَه بعلم حقيقة الأمر من الأمن أو الخوف, وما يُنشَر منه وما لا ينشر,
كما خَصَّ بعلمِه أهلَ الاستنباطِ من أولي الأمر وهم العلماء دون غيرهم من أهل العلم
(والله سبحانه ذمَّ من سمع ظاهراً مجرَّداً فأذاعه وأفشاه, وحَمِدَ من استنبط من أولى العلم حقيقته ومعناه)
ولمَّا كانت مراتب العلماء في فهم المراد متفاوتة؛
كان لأهل العلم بالاستنباط اختصاصٌ بجُملَةِ فضائل لا يشركهم فيها غيرهم من العلماء النَّقَلة الحفظة - على فضلهم , ويوضح منازلَ العلماء تلك حديثُ أبي موسى الأشعري مرفوعاً:
(مثلُ ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم, كمثلِ غيثٍ أصابَ أرضاً فكان منها طائفةٌ طيبةٌ, قبلت الماءَ فأنبتت الكلأَ والعشبَ الكثير, وكان منها طائفةٌ أجادبَ, أمسكت الماءَ فسقى الناسُ وزرعوا, وأصابَ منها طائفةً أخرى إنما هي قيعانٌ؛ لا تُمسِك ماءً, ولا تُنبِتُ كلأً, فذلك مثلُ من فقه في دين الله تعالى, ونفعه ما بعثني الله به؛ فعَلِمَ وعَلَّم, ومثل من لم يرفع بذلك رأساً, ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)
ففي هذا الحديث إشارةٌ ظاهرةٌ إلى تفاوت العلماء في ما معهم من الهدى والعلم حملاً وفهماً واستنباطاً,
قال ابن القيم
: (قُسِمَ الناسُ إلى ثلاثةِ أقسام بحسب قبولهم واستعدادهم لحفظه, وفهم معانيه, واستنباط أحكامه, واستخراج حِكَمِه وفوائده:
أحدها: أهل الحفظ والفهم الذين حفظوه وعقلوه, وفهموا معانيه, واستنبطوا وجوه الأحكام والحِكَم والفوائد منه, فهؤلاء بمنْزلة الأرض التي قبلت الماء- وهذا بمنْزلة الحفظ-, فأنبتت الكلأ والعشب الكثير- وهذا هو الفهم فيه والمعرفة والاستنباط؛ فإنه بمنْزلة إنبات الكلأ والعشب بالماء-, فهذا مثلُ الحفاظ الفقهاء أهل الرواية والدراية.
القسم الثاني:
أهل الحفظ الذين رُزِقُوا حفظه ونقله وضبطه, ولم يرزقوا تفقهاً في معانيه, ولا استنباطاً ولا استخراجاً لوجوه الحِكَم والفوائد منه, فهم بمنْزلة من يقرأ القرآن ويحفظه ويراعي حروفه وإعرابه, ولم يُرْزَق فيه فهماً خاصاً عن الله,
كما قال على ابن أبي طالب : (إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه
والناس متفاوتون في الفهم عن الله ورسوله أعظم تفاوت, فَرُبَّ شخصٍ يفهم من النص حكماً أو حكمين, ويفهم منه الآخرُ مئةً أو مئتين, فهؤلاء بمنْزلة الأرض التي أمسكت الماء للناس, فانتفعوا به؛ هذا يشرب منه, وهذا يسقى, وهذا يزرع.
فهؤلاء القسمان هم السعداء, والأوَّلون أرفع درجةً, وأعلى قدراً, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء, والله ذو الفضل العظيم)
فعلمُ الاستنباط علمٌ مبارك, يفيضُ على الأمَّة في كل زمان بكلِّ ما تحتاجه من معرفة الحَقِّ المطابق لوقائعها,
والمستمَدِّ من خيرِ بيان وأصدق كلام؛ كتاب الله تعالى.
فالاستنباط قدرٌ زائدٌ على مجرد إدراك المعنى الظاهر؛ ومن ثَمَّ عزَّ وجوده, وصَعُبَ إدراكه, ولا يؤتاهُ كلُّ أحدٍ,
بل هو من مواهب الله تعالى التي يُنعِمُ بِها على من شاء من عباده, وقد امتَنَّ الله تعالى به على المؤمنين, وعصمهم به من اتِّباع غير الحق؛
فقال تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَه ُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً
والاجتهاد في نيل العلم المُستَنبَط نوعٌ من الجهاد في سبيل الله,
قال الزمخشري عند قوله تعالى مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا:
(فأما الجدال في آيات الله لإيضاح ملتبسها, وحَلِّ مشكلها, ومقادحة أهل العلم في استنباط معانيها, ورَدِّ أهل الزيغ بها وعنها, فأعظم جهاد في سبيل الله) كما أنه ميدان تنافس العلماء, وميزان تفاضلهم,
وقد اجتهد الصحابة في نيل تلك الفضائل والمنازل, وأصاب كلٌّ منهم ما قُسِمَ له؛ فمستَقِلٌّ ومستكثرٌ, وحين تُوُفِّيَ رسولُ الله لم يكن شيءٌ من كتاب الله خَفِيَّ المعنى عنهم, بل كُلُّ كتاب الله تعالى - ألفاظه ومعانيه - معلوم المعنى عند مجموع الصحابة , ثُمَّ يتفاوت علم أفرادهم به بحسب ما اختصَّ الله تعالى كُلاًّ منهم, ولمَّا قيل لعلي بن أبي طالب : هل عندكم من رسول الله شيءٌ سوى القرآن؟ قال: (لا والذي فلَقَ الحبَّةَ وبَرَأَ النَّسمَة, إلا أن يُعطِي اللهُ عبداً فهماً في كتابه)
ومنه دعاء النبي لابن عباس :
(اللهم فَقِّهُ في الدين, وعلِّمهُ التأويل) ولو كان المراد بهذا الدعاء معرفة معاني الألفاظ الظاهرة لَمَا كان لاختصاص ابن عباس بهذه الدعوة مزيَّة؛
فإنه ممَّا يشترك فيه كثيرٌ من الصحابة,
وإنما المراد ما ذكره علي مِن الفهم في كتاب الله الذي يفتح الله تعالى به على من شاء من عباده,
وقد وصف عليٌّ ابنَ عباس بقوله:
كأنما ينظر إلى الغيب من سترٍ رقيقٍ)
, ولمَّا بلغَه رأيَ ابن عباس في حادثةِ تحريق من غلو فيه قال: (ويح ابن أم الفضل؛ إنه لغوَّاص), وكان عمر يأذن له مع المهاجرين, ويسأله
ويقول: (غُصْ غَوَّاص)
, وأمَّا عمر فهو المُحَدَّثُ المُلهَم
وحسبه أنه ممَّن عُنِيَ بقوله تعالى لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَه ُ مِنْهُمْ حيثُ قال في سبب نزولها: (فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر)
قال شيخ الاسلام ابن تيمية مبيناً تفاوت الصحابة في الفهم والاستنباط:
(وهذا عبد الله بن عباس حبر الأمة, وترجمان القرآن, مقدار ما سمع من النبي لم يبلغ نحو العشرين حديثاً الذي يقول فيه:
(سمعت, ورأيت), وسمع الكثيرَ من الصحابة, وبورك في فهمه والاستنباط منه,
حتى ملأ الدنيا علماً وفقهاً,
قال أبو محمد بن حزم :
وجُمِعَت فتاويه في سبعة أسفار كبار. وهي بحسب ما بلغ جامعها, وإلا فعلم ابن عباس كالبحر, وفقهه واستنباطه وفهمه في القرآن بالموضع الذي فاق به الناس, وقد سمع كما سمعوا, وحفظ القرآن كما حفظوا, ولكن أرضه كانت من أطيب الأراضي, وأقبلها للزرع, فبذر فيها النصوص, فأنبتت من كل زوج كريم, ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ - وأين تقع فتاوي ابن عباس وتفسيره واستنباطه من فتاوي أبي هريرة وتفسيره, وأبو هريرة أحفظ منه, بل هو حافظ الأمة على الإطلاق؛ يؤدي الحديث كما سمعه, ويدرسه بالليل درساً, فكانت همته مصروفة إلى الحفظ وتبليغ ما حفظه كما سمعه, وهمة ابن عباس مصروفة إلى التفقه, والاستنباط, وتفجير النصوص, وشقِّ الأنهار منها, واستخراج كنوزها)
ومن ثَمَّ يشتدُّ حبور العالم وسروره حين يظفر بشيء من فرائد المعاني المستنبطة؛ مستشعراً نعمة الله تعالى وفضله عليه,
ومن ذلك قول الشافع (استنبطتُ البارحةَ آيتين, فما أشتهي باستنباطهما الدنيا وما فيها)
يقول ابن القيم:
(معلوم أن الاستنباط إنما هو استنباط المعاني والعلل, ونسبة بعضها إلى بعض, فيعتبرُ ما يصح منها بصحة مثله ومشْبِهِه ونظيره, ويُلغَى ما لا يصح, هذا الذي يعقله الناس من الاستنباط)
, وقال: (الاستنباط كالاستخراج, ومعلومٌ أن ذلك قدرٌ زائدٌ على مجرد فهم اللفظ, فإن ذلك ليس طريقهُ الاستنباط؛ إذ موضوعات الألفاظ لا تنال بالاستنباط, وإنما تنال به العللُ, والمعانيُ, والأشباه والنظائر, ومقاصد المتكلم. يوَضِّحُه أن الاستنباط استخراج الأمر الذي من شأنه أن يخفي على غير مستَنْبِطِه ..,
ومعلوم أن هذا الفهم قدرٌ زائدٌ على معرفة موضوع اللفظ وعمومه أو خصوصه, فإن هذا قدرٌ مشترك بين سائر من يعرف لغة العرب, وإنما هذا فهم لوازم المعنى, ونظائره, ومراد المتكلم بكلامه, ومعرفة حدود كلامه بحيث لا يُدخِل فيها غيرَ المراد, ولا يُخرِج منها شيءٌ من المراد)
, ويقول الشاطبي معلِّلاً لِصِحَّة وجهٍ من المعاني المستنبطة:
(ولكن أتى بما هو نِدٌّ في الاعتبار الشرعي الذي شهد له القرآن)
- قال ابن عباس : (الرجم في كتاب الله لا يغوص عليه إلا غواص, وهو قوله تعالى: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب, ومأخذ ابن عباس في ذلك أن أهل الكتاب أخفَوا حكم الرجم في كتابهم, فبيَّنه لهم رسول الله, فطابق وصف الآية حالهم ذلك, فكان حكم الرجم مما جاء به كتاب الله تعالى بهذا الاعتبار. وهذا الاستنباط من ابن عباس نِدٌّ للمعنى الظاهر للآية, ويوافقه في القصد والعِلَّة.
وقد استنبط الزهري نحواً من ذلك فقال: (فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا
- قال سفيان بن عيينة في قوله تعالى:
وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ(: (ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من البهائم؛ فمنهم من يهتصر اهتصار الأسد, ومنهم من يعدو عدو الذئب, ومنهم من ينبح نباح الكلب, ومنهم من يتطَوَّس كفعل الطاووس, ومنهم من يشبه الخنازير التي لو أُلقِيَ إليها الطعام عافته, فإذا قام الرجل عن رجيعه ولغت فيه؛ فلذلك تجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمةً لم يحفظ واحدة منها, وان أخطأ رجلٌ تَرَوَّاهُ وحفظه). وهذا الاستنباط قريبُ المأخذِ من وجه استنباط ابن عباس السابق؛
قال الخطابي: (ما أحسن ما تأوَّل سفيان هذه الآية واستنبط منها هذه الحكمة؛ وذلك أن الكلام إذا لم يكن حكمُهُ مطاوعاً لظاهره وجبَ المصيرُ إلى باطنه
, وقد أخبر الله عن وجود المماثلةِ بين الإنسان وبين كلِّ طائرٍ ودابةٍ, وذلك ممتنع من جهةِ الخِلْقَة والصورَة, وعُدِمَ من جهة النطق والمعرفة, فوجب أن يكون منصرفاً إلى المماثلةِ في الطباع والأخلاق, وإذا كان الأمر كذلك فاعلم أنك إنما تعاشر البهائم والسباع, فليكن حذرك منهم, ومباعدتك إياهم على حسب ذلك).
الاستنباط على ما سبق تعريفه من أشد علوم القرآن ارتباطاً بعلم التفسير, ولا يتوصل إليه إلا بعد بناء التفسير وتمامه,
وقد قَسَمَ ابنُ القيم التفسيرَ إلى ثلاثةِ أقسام,
فقال: (وتفسير الناس يدور على ثلاثة أصول:
1- تفسير على اللفظ, وهو الذي ينحُو إليه المتأخرون.
2- وتفسير على المعنى, وهو الذي يذكره السلف.
3- وتفسير على الإشارة والقياس, وهو الذي ينحُو إليه كثير من الصوفية وغيرهم
والقسم الثالث من هذه الأقسام داخلٌ في علم الاستنباط من معاني الآيات, إذ ليس هو بتفسير على اللفظ ولا على المعنى؛ فإنهما ظاهران مباشران, ويبقى الاجتهاد والتأمُّل في هذا القسم. والاستنباط أعمُّ من القياس, وإنما القياس أحد صوره وأشهرها, وعَدُّ هذا القسم من التفسير نوعُ تَوَسُّعٍ سبقت الإشارة إليه
قال شيخ الاسلام ابن تيمية:
(أما أرباب الإشارات الذين يثبتون ما دلَّ اللفظ عليه, ويجعلون المعنى المُشار إليه مفهوماً من جهة القياس والاعتبار, فحالهم كحال الفقهاء العالمين بالقياس والاعتبار, وهذا حقٌّ إذا كان قياساً صحيحاً لا فاسداً, واعتباراً مستقيماً لا منحرفاً)
وقال في طرق دلالة اللفظ على المعنى الصحيح:
(القسم الثاني: أن يُجعَل ذلك من باب الاعتبار والقياس, لا من باب دلالة اللفظ, فهذا من نوع القياس, فالذي تسميه الفقهاء قياساً, هو الذي تسميه الصوفية إشارة, وهذا ينقسم إلى صحيح وباطل, كانقسام القياس إلى ذلك)
فالإشارات من باب الاعتبار والقياس, واختصَّ بها في الغالب أرباب السلوك وتزكية النفوس, ومنها صحيحٌ مستقيمٌ, وفاسدٌ منحرفٌ.
ولصِحَّة الاستنباط شروطٌ قال ابن القيم: (وهذا – أي التفسير على الإشارة والقياس - لا بأس به بأربعة شرائط:
1- أن لا يناقض معنى الآية,
- وأن يكون معنى صحيحاً في نفسه,
3- وأن يكون في اللفظ إشعار به,
4- وأن يكون بينه وبين معنى الآية ارتباط وتلازم. فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة كان استنباطاً حسناً)
, وقال الشاطبي:
(كون الباطن هو المراد من الخطاب يشترط فيه شرطان, أحدهما: أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب, ويجري على المقاصد العربية. والثاني: أن يكون له شاهدٌ نصَّاً أو ظاهراً في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض), وهذان الشرطان يلتقيان مع الشرط الثاني والثالث عند ابن القيم
ولا يصح استنباطٌ إلا على معنىً صحيحٍ ثابتٍ لِلَّفظ, فاللفظ بمنْزلة الأساس, والاستنباط بمنْزلة البنيان,
و(لا يطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر, ومن ادعى فهم أسرار القرآن ولم يُحكِم التفسير الظاهر فهو كمن ادعى البلوغ إلى صدر البيت قبل أن يجاوز الباب)
قال القرطبي (والنقل والسماع لا بد منه في ظاهر التفسير أولاً؛ ليتَّقي به مواضع الغلط, ثم بعد ذلك يتَّسعُ الفهم والاستنباط, ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر)
إن هذا العلم عزيز, وليس في مقدور عامَّة الناس ولا أكثر علمائهم الخوض فيه, وإنما هو شأن القلَّة التي تمكنت منه بعد جَهدٍ واجتهاد وفتحٍ وتوفيق من الله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَه ُ مِنْهُمْ(النساء 83),
قال شمس الدين الأصفهاني: (كُلُّ من كان حَظُّه في العلوم أوفر, كان نصيبه من علم القرآن أكثر)
وقال ابن القيم في معنى يَسْتَنبِطُونَه ُ: (أي يستخرجون حقيقته وتدبيره بفطنتهم, وذكائهم, وإيمانهم, ومعرفتهم بمواطن الأمن والخوف)
, وقال: (ولو رُزِقَ العبدُ تضَلُّعاً من كتاب الله وسنة رسوله, وفهماً تامَّاً في النصوص ولوازمها, لاستغنى بذلك عن كلِّ كلامٍ سواه, ولاستنبط جميع العلوم الصحيحة منه)
ومن رامَ بلوغ شيءٍ من مدارج هذا العلم فلْيُحكِم أولاً الطريق إليه, وهو: العلم بحدود ألفاظ الآيات, وفهم وجوه معانيها, وتصرُّفاتِ أساليبها, ثُمَّ يستظهر بعد ذلك - بآلةٍ راسخة في علوم اللسان والبيان, وأصول الشرع ومقاصده, وبتحقُّقٍ تامٍّ فيما هو بصدد استنباط مسائِله من العلوم – ما تقع عليه بصيرته من دقائق المعاني, ومحاسن الإشارات؛ الأقرب منها فالأقرب إلى معنى الآية, ثمَّ الأقوى منها فالأقوى في الدلالة على مقصده ومُراده,
قال ابن جرير: (أولى العبارات أن يُعَبَّر بها عن معاني القرآن أقربها إلى فهم سامعيه)
, وقال الراغب الأصفهاني:
(إن المائل إلى دقيق المحاجَّة هو العاجز عن إقامة الحُجَّة بالجَليِّ من الكلام؛ فإنَّ من استطاع أن يُفهِمَ بالأوضح الذي يفهمه الكثيرون, لم ينحط إلى الأغمض الذي لا يعرفه إلا الأقلون, وقد أخرج الله تعالى مخاطباته في أجلى صورة تشتمل على أدقِّ دقيق؛ لتفهم العامَّة من جَلِيِّها ما يقنعهم ويلزمهم الحجة, ويفهم الخواص من أسرارها ودقائقها)
, وقال ابن القيم: (وإذا دعاك اللفظ إلى المعنى من مكان قريب, فلا تُجِب من دعاك إليه من مكان بعيد)
وإنَّ بذلَ غاية الوُسعِ والاجتهاد في تفحُّصِ معاني الآيات, وتقليب وجوهها, والغوص في مدلولات ألفاظها ومقاصدها وعللها = لهو أعظم شرطٍ لنيلِ المرادِ في هذا البابِ, ولتحقيق ذلك عانى العلماء ما عانوه, ولحِقَهم فيه من المشقَّة والجَهدِ ما لَحِقَهم,
وبالتأمُّل في حديث أبي موسى الأشعري السابق: (مثلُ ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم كمثلِ غيثٍ أصابَ أرضاً فكان منها طائفةٌ طيبةٌ, قبلت الماءَ فأنبتت الكلأَ والعشبَ الكثير), ترى جملةً ظاهرةً من أوصاف أهل العلم بالاستنباط احتواها هذا المثل النبوي الجليل, وبيانها: أن قلوبَ هؤلاء العلماء أرضٌ طيبةٌ, قبلت الوحي, واستقر في أعماقها, ثمَّ أنبت الوحي في جوارحهم العمل الصالح الكثير؛ الذي يتعدَّى نفعه أنفسَهم إلى غيرهم. فهم أهل إيمانٍ راسخ, وعملٍ بالعلم ملازم, ونفعٍ للناس دائم.
وهذا يؤكد أنَّ لطهارة الباطن, وزكاء النفس, وعمارة القلب بالتقوى أثرٌ ظاهرٌ في باب الاستنباط, ولهذا المعنى نصيبٌ من قول الله تعالى وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ووجه ذلك أن انشغال القلب بمعاني العبودية والتقوى يُقَرِّبه من إشاراتها ودلالاتها في الآيات؛ ذلك أنَّ من اهتَمَّ بشيءٍ غلبَ على تفكيره, وتراءى له في كُلِّ ما يقصده, وقد دَلَّ قوله تعالى إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ - لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا- على أنَّ فهم المراد من القرآن والانتفاع به إنما يحصل لمن هو حيُّ القلب. كما أن هذه الاستنباطات من نِعَمِ الله تعالى على العبد, ولا تُنَال نِعمةُ الله تعالى بغير طاعته وتقواه, وقد أشارت النصوص الشرعية إلى أن أهل هذه الصفات – من الطاعة والتقوى وحياة القلب - أولى بإصابة الحق من غيرهم؛ إذ معهم من أسباب الهداية والإصابة ما يدنيهم من الحقِّ ويُجَلِّيه لهم؛ قال: (الصلاة نور, والصدقة برهان, والصبر ضياء),
قال شيخ الاسلام ابن تيمية:
(ومن كان معه نورٌ وبرهانٌ وضياءٌ كيف لا يعرف حقائق الأشياء من فحوى كلام أصحابها؟!, وفي الحديث الصحيح: (لا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به, ويده التي يبطش بها, ورجله التي يمشي بها)
ومن كان توفيق الله له كذلك فكيف لا يكون ذا بصيرةٍ نافذةٍ, ونَفْسٍ فَعَّالَة, وإذا كان القلب معموراً بالتقوى انجلت له الأمور وانكشفت, بخلاف القلب الخراب المُظلم, وكُلَّما قويَ الإيمانُ في القلب قويَ انكشافُ الأمور له, وعرف حقائقها من بواطلها)
وقد ذكر بعضُ العلماء لزوم المسارعة إلى تقييد ما يسنح بالخاطر من هذه الإشارات واللطائف والمستنبطات؛ فإنها عزيزة الورود, سريعة الزوال, نادرة الرجوع, وفي شرح حديث علي : (ما عندنا إلا ما في القرآن, أو فهماً يعطيه الله رجلاً في كتابه, أو ما في هذه الصحيفة)
قال ابن حجر:
(ومراد علي أن الذي عندَه زائداً على القرآن مِمَّا كَتَبَ عنه: الصحيفة المذكورة, وما استنبط من القرآن. كأنه كان يكتب ما يقع له من ذلك لئلا ينساه, بخلاف ما حفظه عن النبي من الأحكام فإنه يتعاهدها بالفعل والإفتاء بها فلم يخش عليها من النسيان),
قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ
ومن حِكَمِ ضرب الأمثال: (أنَّ الله أراد أن يَعَلِّم الخلق كيف يتجاوزون في العِبْرَة من المُشَاهَدَةِ إلى الغيب),
وهذا من غايات الاستنباط كما لا يخفى.
ما فهمه عمر استنباطاً, يُطابِقُ ما فهمه من قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ؛ فإنه لَمَّا نزلت هذه الآيةُ فرح الصحابةُ بهذا التمام, وبكى عمر مستشعراً نعيَهُ , وقال: (لم يكمُل شيءٌ إلا نقص), وما عاش بعدها رسول الله إلا إحدى وثمانين يوماً وظاهرٌ اعتماد عمر في هذا الاستنباط على لازم معنى اللفظ,
قال ابن كثير: (ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت: (بدأ الإسلام غريباً, وسيعود غريباً كما بدأ, فطوبى للغرباء)
قال ابن القيم: (والعلم بمُراد المتكلم يُعرَف تارةً من عموم لفظه, وتارةً من عموم عِلَّته, والحَوالَةُ على الأوَّل أوضح لأرباب الألفاظ, وعلى الثاني أوضح لأرباب المعاني والفهم والتدبر), (وإن شِئتَ أدخلتَ هذا في باب معنى المعنى, أي المعاني التي وراء المعاني, ولا ضيرَ أن تكون وراءها بمسافةٍ أبعد, أو أن تكون من باب مُستَتبَعات التراكيب, وهو بابٌ جليلٌ غَيَّبَه غُبارُ العُجمَة)
أن الاستنباط علمٌ معتبَرٌ, وحُجَّةٌ في الشرع,
دَلَّت على اعتباره وتقديمه جملةٌ من أدلة الكتاب والسنة.
من حقِّ اللفظ والمعنى في التفسير استيعاب المعاني الصحيحة المتعلقة بهما من جهة نِدِّ المعنى ولوازمه وأشباهه ونظائره.
المعاني المأخوذة بالاستنباط - بطبيعتها - أكثر وأغنى من معاني الألفاظ المباشرة,
بل إن من أحكام الحوادث ما لا يُعرَفُ بالنصِّ وإنما بالاستنباط, وكم من سِرٍّ وحُكمٍ نَبَّهت عليهما الإشارة, ولم تبينهما العبارة.
الاستنباط قدرٌ زائدٌ على مجرد إدراك المعنى الظاهر؛
ومن ثَمَّ عزَّ وجوده, وصَعُبَ إدراكه, ولا يؤتاهُ كلُّ أحدٍ,
بل هو من مواهب الله تعالى التي ينعِمُ بِها على من شاء من عباده.
موضوع علم الاستنباط: نِدُّ المعنى الظاهر ونظيره؛ الذي يوافقه في القصد أو يقاربه, ولوازم المعنى, وعلله؛ ليُلحَق به أشباهه ونظائره, وتتبين معه نسبةُ الألفاظ بعضها إلى بعض, ثُمَّ مقاصد المتكلم ومراده, بحيث لا يُزادُ عليها ولا يُنقَصُ منها.
بيان معنى اللفظ سابق للاستنباط منه, ولا يصح استنباطٌ إلا على معنىً صحيحٍ ثابتٍ لِلَّفظ,
فاللفظ بمنْزلة الأساس, والاستنباط بمنْزلة البنيان,
ولا يطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر.
علمُ الاستنباط علمٌ مبارك, يفيضُ على الأمَّة في كل زمان بكلِّ ما تحتاجه من معرفة الحَقِّ المطابق لوقائعها, والمستمَدِّ من خيرِ بيان وأصدق كلام؛ كتاب الله تعالى.