حديث "هلموا أكتب لكم" في صحيح البخاري
د. عبدالحكيم الأنيس
روى البخاريُّ هذا الحديث في مواضع عدة:
فرواه في كتاب العلم، باب كتابة العلم، بسنده عن عبيدالله بن عبدالله [أي ابن عتبة بن مسعود] عن ابن عباس قال: لما اشتدَّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وجَعُه قال: ائتوني بكتاب أكتبْ لكم كتابًا لا تضلوا بعده.
قال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، وعندنا كتابُ الله حسبنا. فاختلفوا، وكثر اللغط. قال: قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع.
فخرج ابنُ عباس يقول: إنَّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه"[1].
♦♦♦
ورواه في كتاب الجهاد، باب جوائز الوفد، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: يومُ الخميس وما يوم الخميس. ثم بكى حتى خضب دمعُه الحصباء، فقال: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعُه يوم الخميس فقال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده أبدًا. فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبي تنازع. فقالوا: هـجرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: دعوني، فالذي أنا فيه خير ممّا تدعوني إليه.
وأوصى عند موته بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنتُ أجيزهم، ونسيتُ الثالثة"[2].
♦♦♦
ورواه في كتاب الجزية والموادعة، باب إخراج اليهود من جزيرة العرب، عن سعيد عن ابن عباس، والاختلاف كما يأتي:
"فقالوا: ما له؟ أهـجرَ؟ استفهموه. فقال: ذروني....".
وفي آخره: "والثالثة"، إما أنْ سكتَ عنها، وإما أن قالها فنسيتُها".
قال سفيان [ابن عيينة]: هذا مِنْ قول سليمان [أي الأحول شيخ سفيان][3].
♦♦♦
وأعاده ثالثة عن سعيد في كتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته، والنص واحد، ولكن فيه زيادة:
(فذهبوا يردُّون عليه فقال: دعوني...)[4].
♦♦♦
وأعاد هنا حديثَ عبيد الله بن عبدالله بن عتبة عن ابن عباس ونصه:
قال: لما حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجالٌ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلموا أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده.
فقال بعضهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله.
فاختلف أهـلُ البيت واختصموا، فمنهم مَنْ يقول: قربوا يكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده، ومنهم من يقول غير ذلك.
فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: قوموا.
قال عبيدالله: فكان يقولُ ابن عباس: إن الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم".
♦♦♦
وأعاد هذا الحديث بسنده ولفظه في كتاب المرض، باب قول المريض: قوموا عني، بزيادة هي:
"وفي البيت رجالٌ فيهم عمر بن الخطاب..."[5].
♦♦♦
وأعاده في كتاب الاعتصام بالكتاب والسُّنة، باب كراهية الاختلاف، وفيه زيادة جملة هي:
"فمنهم مَنْ يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا لن تضلوا بعده، ومنهم مَنْ يقولُ ما قال عمر"[6].
♦♦♦
الخلاصة
• لابن عباس في هذا الحديث راويان:
١- عبيدالله بن عبدالله.
٢- سعيد بن جبير.
ولم يَنسب واحدٌ منهما إلى عمر أنه قال: هجر، وإنما عبارته: (إن رسول الله قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله).
• روى البخاري هذا الحديث في سبعة مواضع: ثلاثة منها عن سعيد، وأربعة عن عبيد الله.
♦♦♦
وقد رأى العلماءُ هذا الحديث من المشكلات، وسلكوا في تأويله مسالك، منها:
• أن أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان الأصل فيها الوجوب، إلا أن الأمر قد يرد للإباحة، أو للتخيير، كما هو مقرر في علم الأصول، وفي علم المعاني، ويفهم ذلك بقرائن الأحوال، ولعل عمر -ومَنْ أقرَّه من الصحابة على ما قال- فهموا من هذا الأمر أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُردْ به الإيجاب، بل التخيير.
• وأن عمر لما رأى ما برسول الله صلى الله عليه وسلم من الوجع، خشي أن يشق عليه إملاء الكتاب، وأن يتعبه فقال ما قال إشفاقًا عليه صلى الله عليه وسلم، وإيثارًا لراحته، يؤيد ذلك قولُه: (إن النبي عليه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا).
• وأن عمر لم يقل: حسبنا كتاب الله، ردًّا على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، بل ردًّا على مَنْ نازعه من الصحابة.
• والذي أراه أنَّ عمر قد تعوَّد خلال صحبته الطويلة للرسول صلى الله عليه وسلم أنْ يبدي له رأيه لما يَعلم من إذنهِ له بذلك ولرضاهُ عنه، وقد جاء في أخبار صحبته مواقفُ كثيرةٌ كان يَقترحُ فيها على رسول الله أمورًا، ويطلبُ منه أمورًا، ويسأله عن أمور، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرُّه على ما فيه الصواب، ويردُّه عن الخطأ، فلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابًا) اقترحَ عليه عمر - على عادته التي عوَّده الرسولُ إياها- أن يكتفي بكتاب الله. فأقرَّه الرسولُ صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولو كان يريد الكتابةَ لأسكتَ عمرَ، ولأمضى ما يريد.
ولا بد من القول:
• أنَّ ابن عباس استنكرَ التنازع، ولم يُنكرْ على عمر اقتراحه.
• أن ابن عباس نفسه شهد لعمر أنه فارقَ النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنه راضٍ، كما في (صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي رضي الله عنه)، ونصُّه:
"عن المسور بن مخرمة قال: لما طُعِنَ عمر جعل يألم، فقال له ابن عباس - وكأنه يجزِّعه-:
يا أمير المؤمنين، ولئن كان ذلك، لقد صحبتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنتَ صحبته، ثم فارقتَه وهو عنك راض.
ثم صحبتَ أبا بكر فأحسنتَ صحبته، ثم فارقتَه وهو عنك راض.
ثم صحبتَ صحبتَهم فأحسنتَ صحبتَهم، ولئن فارقتَهم لتفارقنهم وهم عنك راضون.
قال: أمّا ما ذكرتَ من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضاه فإنما ذاك منٌّ مِنَ الله تعال منَّ به عليَّ.
وأما ما ذكرتَ من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذلك منٌّ مِنَ الله جلَّ ذكرُه منَّ به عليَّ.
وأما ما ترى مِنْ جزعي فهو مِنْ أجلك وأجل أصحابك، والله لو أنَّ لي طِلاع الأرض ذهبًا لافتديتُ به مِنْ عذاب الله عز وجل قبل أنْ أراه..."[7].
إنَّ صورة عمر في "صحيح البخاري" صورة مشرقة، ويجبُ ألا يُستل حديث الوفاة هذا ويُتغاضى عن سائر الأحاديث التي فيها ذكرٌ له، لاسيما الحديثان اللذان يصفُ فيهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عمرَ بالدين والعلم، وهما:
حديث أبي سعيد الخدري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا نائم رأيتُ الناسَ يُعرضون عليَّ وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، وعرض عليَّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره). قالوا: فما أولتَ ذلك يا رسول الله؟ قال: (الدين).
وحديث ابن عمر قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أنا نائمٌ أتيت بقدح لبنٍ فشربتُ حتى إني لأرى الري يخرج في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب). قالوا: فما أولتَه يا رسول الله؟ قال: (العلم).
إن من أخطر الأمور في البحث تقطيع أطرافه، وتفريق مجموعه.