قال الامام ابن القيم رحمه الله
فلما انتهت النوبة إلى المتأخرين ساروا عكس هذا السير , وقالوا
: إذا نزلت النازلة بالمفتي أو الحاكم فعليه أن ينظر أولا : هل فيها اختلاف أم لا ؟ فإن لم يكن فيها اختلاف لم ينظر في كتاب ولا في سنة , بل يفتي ويقضي فيها بالإجماع , وإن كان فيها اختلاف اجتهد في أقرب الأقوال إلى الدليل فأفتى به وحكم به .
وهذا خلاف ما دل عليه حديث معاذ وكتاب عمر وأقوال الصحابة . والذي دل عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة أولى فإنه مقدور مأمور , فإن علم المجتهد بما دل عليه القرآن والسنة أسهل عليه بكثير من علمه باتفاق الناس في شرق الأرض وغربها على الحكم .
وهذا إن لم يكن متعذرا فهو أصعب شيء وأشقه إلا فيما هو من لوازم الإسلام , فكيف يحيلنا الله ورسوله على ما لا وصول لنا إليه ويترك الحوالة على كتابه وسنة رسوله اللذين هدانا بهما , ويسرهما لنا , وجعل لنا إلى معرفتهما طريقا سهلة التناول من قرب ؟ ثم ما يدريه فلعل الناس اختلفوا وهو لا يعلم ,
وليس عدم العلم بالنزاع علما بعدمه , فكيف يقدم عدم العلم على أصل العلم كله ؟
ثم كيف يسوغ له ترك الحق المعلوم إلى أمر لا علم له به وغايته أن يكون موهوما , وأحسن أحواله أن يكون مشكوكا فيه شكا متساويا أو راجحا ؟
ثم كيف يستقيم هذا على رأي من يقول : انقراض عصر المجمعين شرط في صحة الإجماع ؟ فما لم ينقرض عصرهم فلمن نشأ في زمنهم أن يخالفهم , فصاحب هذا السلوك لا يمكنه أن يحتج بالإجماع حتى يعلم أن العصر انقرض ولم ينشأ فيه مخالف لأهله ؟
وهل أحال الله الأمة في الاهتداء بكتابه وسنة رسوله على ما لا سبيل لهم إليه ولا اطلاع لأفرادهم عليه ؟ وترك إحالتهم على ما هو بين أظهرهم حجة عليهم باقية إلى آخر الدهر متمكنون من الاهتداء به ومعرفة الحق منه , وهذا من أمحل المحال ,وحين نشأت هذه الطريقة تولد عنها معارضة النصوص بالإجماع المجهول , وانفتح باب دعواه , وصار من لم يعرف الخلاف من المقلدين إذا احتج عليه بالقرآن والسنة قال : هذا خلاف الإجماع .