المحرر في أسباب نزول القرآن
المؤلف: خالد بن سليمان المزيني
المجلد الاول
سُورَةُ البَقَرَة
من صــ 259 الى صـ 263
الحلقة (48)
وفي رواية للبخاري ومسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يُسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ).
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول الآية وقد أورد ذلك جمهور المفسرين وجعلوه سببًا لنزولها منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير والشنقيطي وابن عاشور.
قال ابن العربي: (وقد اختلف الناس في المراد بهذه الإفاضة على قولين:
أحدهما: أن المراد به من عرفات مخالفةً لقريش، قاله الجماعة.
الثاني: المراد به من المزدلفة إلى منى، قاله الضحاك وإنما صار إلى ذلك لأنه رأى الله تعالى ذكر هذه الإفاضة بعد ذكره الوقوف بالمشعر الحرام، والإفاضة التي بعد الوقوف بالمشعر الحرام هي الإفاضة إلى منى). اهـ.
وقد اختلف العلماء في الجواب عن هذا الإشكال على أقوال:
الأول: (أن هذا من المقدم الذي معناه التأخير، والمؤخر الذي معناه التقديم، قاله الطبري). اهـ.
والمعنى على هذا: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فإذا أفضتم من عرفات مع الناس فاذكروا الله عند المشعر الحرام.
الثاني: (أن لفظة ثم للترتيب الذكري بمعنى عطف جملة على جملة وترتيبها عليها في مطلق الذكر ونظيره قوله تعالى: (فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17). ومنه قول الشاعر:إن من ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد قبل ذلك جده
قاله الشنقيطي). اهـ واختاره أكثر المفسرين.
الثالث: (أن المعنى فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا اللَّه عند المشعر الحرام: يا معشر من حل بالمشعر الحرام أفيضوا من حيث أفاض الناس. وأخر اللَّه تعالى الخطاب إلى المشعر الحرام ليعمَّ من وقف بعرفة ومن لم يقف حتى يمتثله مع من وقف. ذكره ابن العربي وقال هو التحقيق). اهـ.
والظاهر - والله أعلم - أن الصواب القول الثاني، وأن (ثم) للترتيب الذكري وليست للترتيب للزمني، أما الترتيب الزمني فقوله (أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) أي من عرفات (فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ).
بقي أن يُقال: كيف قالت عائشة - رضي الله عنها - في الرواية الأخرى: فلما جاء الإسلام أمر اللَّه نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها، مع العلم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقف بعرفات ثم يفيض منها؟
فالجواب: أن يقال إن أمر اللَّه لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يمنع أن يكون المقصود بالخطاب غيره وهم الحمس لكن الخطاب توجه إليه باعتبار الرسالة.
وقد يُقال: إن الآية لا تتضمن خطابًا مباشراً لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بل خاطبت الناس بلفظ (أفيضوا) ويكون المراد بقولها (أمر اللَّه نبيه) أي أنزل اللَّه على نبيه.
ويمكن أن يُقال: إن لفظ هذا الحديث غير محفوظ بدليل مخالفته للحديث قبله وقولها فيه: (الحمس هم الذين أنزل اللَّه فيهم (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) لكن هذا خلاف الأصل وما دام الجمع ممكنًا بغيره فالعدول عنه أولى) واللَّه أعلم.
* النتيجة:
أن سبب نزول الآية هو امتناع الحمس من الوقوف بعرفة والإفاضة منها واقتصارهم على الوقوف بالمزدلفة لأنها من الحرم فأنزل اللَّه على نبيه أمره إياهم بالإفاضة من عرفات كما يفيض سائر الناس. لصحة سند الحديث، وتصريحه بالنزول واحتجاج المفسرين به، وموافقته للفظ الآية واللَّه أعلم.
* * * * *
16 - قال اللَّه تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43).
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91).
* سَبَبُ النُّزُولِ:
1 - أخرج الإمام أحمد وأبو داود والترمذي، والنَّسَائِي عن عمر بن
الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما نزل تحريم الخمر، قال: اللهم بيّن لنا في
الخمر بيانًا شفاءً فنزلت هذه الآية التي في البقرة (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ) قال: فدُعي عمر، فقرئت عليه، فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانًا شفاءً فنزلت الآية التي في النساء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) فكان منادي رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أقام الصلاة نادى: أن لا يقربن الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيانًا شفاءً فنزلت الآية التي في المائدة، فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) قال: فقال عمر: انتهينا انتهينا.
2 - أخرج الإمام أحمد عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: حرمت الخمر ثلاث مرات؛ قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر فسألوا رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنهما فأنزل اللَّه على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) إلى آخر الآية، فقال الناس: ما حُرِّم علينا إنما قال: (فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ) وكانوا يشربون الخمر.
حتى إذا كان يوم من الأيام، صلى رجل من المهاجرين، أمَّ أصحابه في المغرب، خلط في قراءته فأنزل الله فيها آيةً أغلظ منها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) وكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق.