الـسَّلَـامُ عَـلَـيْـكُـمْ وَرَحْـمَـةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـه ُ
(25)
رَمَضَانْ شَهر الحُرِيَة
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على رسوله الصادق الأمين المكين، نبي الحريَّة، وعدو العبوديَّة، ومطهر العقول من أدران الوثنية، وسائق ركب الإنسانية إلى السعادة الأبدية، وعلى آله وصحبه أحلاف السيوف، وقادة الزحوف، وأئمة الصفوف، وعلى التابعين لآثارهم في نصرة الدين إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن رمضانَ شهرُ الحريَّةِ الحقَّة، ومدرسةُ الأحرارِ الشرفاءِ بالمعنى الصحيح.
والحديث ههنا سيدور حول هذا المعنى العظيم.
أيها الصائمون الكرام!
ليست الحريةُ كما توهمها أكثرُ الناسِ، مقصورةً على حق الإنسان بالتصرُّف كيـفما أراد، وليست الحرية بالانطلاق وراء الشهوات، وسائر الرغبات؛ فتلك الفوضى أولاً، والعبوديةُ الذليلةُ أخيراً.
أما إنها فوضى؛ فلأنه ليس في الدنيا حريَّةٌ مطلقةٌ غيرُ مقيّدةٍ بنظام، بل كلُّ شيء في الدنيا له نظامٌ يُسيّره، وحريةٌ الفردِ لا تصان إلا إذا قُيّدت ببعض القيود؛ لتسلم حرياتُ الآخريـن.
وإنما تمامُ الحرية _لا كمالُها_ قد يكون بالمنع أحياناً؛ فالمريضُ حين يُمنع عن الطعام الذي يضره هو حرٌّ لم يُنْتَقَصْ من حريته فتيلٌ ولا قطميرٌ؛ فذلك المنع إنما هو منعٌ مؤقتٌ؛ لتسلم له بعد ذلك حريتُه في تناول ما يشاء من الأغذية.
والمجرمَ تُحَدُّ حريتُه مؤقتاً؛ ليعرف كيف يستعمل حريته بعد ذلك في إطار كريم، لا يؤذي نفسه، ولا يؤذي الآخرين.
ثم إن الإنسانَ مدنيٌّ بطبعه؛ فلا يعيش وحده، وإنما يعيش في مجتمعٍ متماسك يؤذيه كلُّه ما يؤذي بعضَه، ومن هنا كانت الحريّةُ المطلقةُ فوضى.
أما كونُها عبوديةً ذليلةً فلأن تمامَ الحريةِ ألا يستعبدك أحدٌ ممن يساويك في الإنسانية، أو يكون دونك فيها.
وفي الفوضى التي يعبر عنها الناسُ بالحرية الشخصية عبوديةٌ ذليلةٌ لمن هو مثلُك، أو دونك من قيم الحياة المادية؛ فحين تستولي على الإنسان عادة ُالانطلاق وراء كلِّ لذةٍ، والانفلاتِ من كلِّ قيد يكون قد استعبدته اللذةُ على أوسع مدى، فيصبح أسيراً لها مُكَبَّلاً في أغلالها، لا يجري في الحياة إلا لأجلها، ولا يعمل إلا وَفْقَ ما تريد؛ فهذه الحريةُ التي تنقلب إلى عبودية أهونُ ما في الحياة من قيمة ومعنى.
ولئن كانت قيمةُ الإنسان بمقدار ما يناله من لذائذه، فإن الحيوانَ أكثرُ منه قيمة، وأعلى قدراً.
وحين ينطلق الإنسانُ وراء فتاةٍ يهواها، أو وراءَ الغانيات يشبع بهن لذائذَه، أيستطيع أن يزعم أنه حر ٌّمن سلطانهن؟!! أو تراه أسيرَ اللحظات، رهنَ الإشارةِ، شاردَ اللبِّ، مُعَنّى القلبِ أقصى أمانيه في الحياة بسمة من حبيبٍ هاجرٍ، أو وصال من جسم ممتنع؟!
أيةُ عبوديةٍ أذلُّ من هذه العبودية، وهو لا يملك زِمامَ نفسِه، ولا حريّةَ قلبِه؛ فلا يتحكَّم في حبه ولا بغضه، ولا رضاه، ولا غضبه؟!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإنَّ أسْرَ القلبِ أعظمُ من أسر البدن، واستعبادَ القلب أعظمُ من استعباد البدن؛ فإن من استُعْبِد بدنُه، واستُرِقّ وأُسِر لا يبالي إذا كانَ قلبُه مستريحاً من ذلك مطمئناً، بل يمكنه الاحتيالُ في الخلاص؛ وأما إذا كان القلب _الذي هو مَلِك الجسم_ رقيقاً مستعبداً متيَّماً لغير الله؛ فهذا هو الذلُّ، والأسرُ المَحْضُ، والعبوديةُ الذليلة لما استعْبَدَ القلبَ.
وعبوديةُ القلب، وأسرُه هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب؛ فإن المسلمَ لو أسره كافرٌ أو استرقّه فاجرٌ بغير حق؛ لم يضرَّه ذلك إذا كان قائماً بما يقدر عليه من الواجبات، ومن استُعْبِد بحق إذا أدّى حقَّ الله وحقَّ مواليه فله أجران، و لو أُكره على التكلّم بالكفر وقلبه مطمئن بالإيمان لم يضرَّه ذلك.
وأما من استُعْبِد قلبُه، فصار عبداً لغير الله، فهذا يضره ذلك، ولو كان في الظاهر ملكَ الناس؛ فالحريةُ حريةُ القلب، والعبوديةُ عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض؛ وإنما الغنى غنى القلب ). اهـ.
أيها الصائمون الكرام!
وحين يسترسل الإنسان في تناول المسكرات والمخدرات يعبُّ منها ما تناله يده؛ حتى تتلف أعصابه وصحته، وتسلبه عقلَه وكرامتَه، أيزعم بعد ذلك أنه حر؟! أيوجد أبشعَ من هذه العبودية لشراب قاتل،وسموم فتاكة؟!
وقل مثل ذلك في التهالك على المال والجاه، إن ذلك حين يستولي على قلب الإنسان ونفسه ينقلب إلى عبودية ذليلة، وكلُّ هوىً يتمكَّن من النفس حتى تكون له السيطرة على الأعمال والسلوك يفضي بصاحبه إلى عبودية ذليلة مقيتة لا نهاية لقبحها.
ومن أعجب أساليب القرآن تعبيرُه عن مثل هذه الحالة بقوله: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ) (الجاثـية: من الآية23). فليست العبودية الذليلة _إذاً_ قيداً ولا سجناً فحسب، فهذه أيسرُ أنواع العبودية، وأسرعُها زوالاً.
ولكن العبوديةَ الذليلةَ عادةٌ سيئةٌ تتحكم، وشهوة عارمة تستعلي، ولذةٌ محرمةٌ تُطاع.
وليست الحريةُ هي القدرةَ على الانتقال من بلد إلى بلد آخر، فتلك أيسرُ أنواعِ الحرية، وأقلُّها ثمناً؛ ولكن الحريةَ الحقَّة: أن تستطيعَ السيطرةَ على أهوائـك ونوازع الشر في نفسك، والحريّة الحقَّة ألا تستعبدَك عادةٌ، ولا تَستذِلَّك شهوةٌ.
وبهذا المعنى كان المؤمنون _حقاً_ هم أهلُ الحرية الحقَّة؛ فعبوديتهم لله،تحررهم من كل عبودية، وإخلاصُهم لله، يَصْرِفُ عنهم كلَّ ذِلَّةٍ وتبعيَّة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (من أراد السعادة الأبدية؛ فليلزم عتبةُ العبودية).
وقال رحمه الله: (وإذا كان العبدُ مخلصاً لله اجتباه ربه، فأحيا قلبه، واجتذبه إليـه، فينصرف عنه السوء والفحشاء، ويخاف من ضد ذلك، بخلاف القلب الذي لم يخلصْ لله،فإن فيه طلباً، وإرادةً، وحباً مطلقاً، فيهوى كلَّ ما يسنح له، ويتشبث بما يهواه؛ كالغصن أيُّ نسيم مرَّ به عَطَفه وأماله؛ فتارة تجتذبه الصورُ المحرمةُ؛ فيبقى أسيراً عبداً لمن لو اتخذهُ هو عبداً لكان ذلك عيباً، ونقصاً، وذماً.
وتارة يجتذبه الشرفُ، والرئاسةُ، فترضيه الكلمةُ، وتغضبه الكلمةُ، ويستعبده مَنْ يثني عليه ولو بالباطل، ويعادي مَنْ يذمه ولو بالحق.
وتارة يستعبده الدرهمُ والدينارُ،وأمثا لُ ذلك من الأمور التي تستعبد القلوبَ، والقلوبُ تهواها؛ فيتخذُ إلهَه هواه، ويتبعُه بغير هدى من الله.
ومن لم يكن خالصاً لله، عبداً له، قد صار قلبُه مُعَبَّداً لربه وحده لا شريك له، بحيث يكون هو أحبَّ إليه مما سواه، ويكون ذليلاً له، خاضعاً، وإلا استعبدته الكائناتُ، واستولت على قلبه الشياطينُ، وصار فيه من السوء، والفحشاء ما لا يعلمه إلا اللهُ، وهذا أمرٌ ضروريٌّ لا حيلةَ فيه). ا_هـ.
وهكذا يتبيَّن لنا أن المؤمنين الذين يخضعون لأمر الله ونهيه هم أكملُ الناس، وأعقلُهم، وأسعدُهم، وهم في الوقت نفسه أكثر الناس حريَّة؛ فخضوعهم لله حرَّرهم حتى من أنفسهـم.
أيها الصائمون الكرام!
بهذا المعنى الدقيق نستقبل رمضان على أنه شهر الحرية، وعلى أن الصيام مدرسةٌ لتخريج الأحرار بالمعنى العلمي الصحيح.
في رمضانَ جوعٌ وعطشٌ، وفيه قيدٌ وحرمانٌ، ولكنه يمنحنا الصحةَ، ويحررنا من العبوديـة؛ يحررنا من عبودية الطعام،والشراب، وعبودية العادة، والحياة المملة.
في رمضانَ امتناعٌ عن اللذة اختياراً، وهذه هي الحريةُ؛ فحرية الإرادة أن تعمل وفق ما يمليه عليك دينُك، ووازع عقلك، لا ما تمليه عليك عاطفتك وشهوتك؛ فأنت _إذاً_ قوي الإرادة، ضعيفُ الهوى، تضبط ميولَك بإحكام عقلك.
ومن اتَّصف بهذا كان جديراً بالنصر في كل معركة يخوضهـا، وما قصة طالوت لما فصـل بالجنـود عنا ببعيـد، قـال_تعالى_)فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إلا قليلاً منهم)(البقرة: من الآية249).
فانظر كيف هزموا عدوهم بعد أن هزموا شهواتهم!!.
أيها الصائمون الكرام!
في رمضان عبودية كاملة، وهذه هي الحريَّة الكاملة؛ فأكثر الناس حريَّة أشدهم لله عبوديـة.
في رمضان امتناع عن كل خلق رذيل، وقول ذميم، ومقالة ذميمة؛ فما أحلى هذه الحريـة؛ فأنت في الخلق الكريم حرٌّ فلا تهان، ولا تُنْتَقَصُ في قدر ولا جاه، وأنت في القول الكريم حُرٌّ فلا تُضْطَرُّ إلى اعتذار، ولا تتعرضُ لملامة، ولا يملأ نفسَك ندمٌ.
وأنت في المعاملة الكريمة حرٌّ؛ فلا تلوكك الألسنُ، ولا تتحدث عن خيانتك المجالسُ، ولا تعلّق بذمتك الشهواتُ.
أيها الصائم الكريم هذا هو رمضان؛ يعلمنا الحرية بأجمل معانيها في جوعه، وعطشه، وقيوده، وحرمانه، أفلست تعشق هذه الحرية التي تنطلق من الجوع والحرمان؟ !.
لا أخالك إلا كذلك،
كان الحديث عن الحرية الحقّة، وعن أثر الصيام في بثها في نفوس الصائمين، ومرَّ بنا كيف تكون حال الإنسان إذا هو أطلق لنفسه باب الحرية، واستعبدته الشهوات، وسائر الرغبات.
وإذا أردت أيها الصائمُ الكريمُ مثالاً يثبِّتُ فؤادَك، وَيدُلُّك على أن الحرية المطلقة شؤمٌ وبلاءٌ على أصحابها _فانظر إلى حال المجتمعات الكافرة المعاصرة؛ فها هي قد فتحت أبواب الحرية على مصاريعها، فلم يَعُدْ يردَعُها دينٌ، أو يزمُّها ورعٌ، أو يحميها حياءٌ؛ فمن كفرٍ وإلحادٍ، إلى مجون وخلاعة وإباحية مطلقة، ومن خمور ومخدرات إلى زناً ولواط وشذوذ بكافة أنواعه، مما يخطر بالبال ومما لا يخطر؛ فكيف تعيش تلك الأمم، وهل وصلت للسعادة المنشودة؟!
والجواب: لا؛ فما زادهم ذلك إلا شقاءً وحسرةً؛ فسنة الله _عز وجل_ في الأمم هي سنته في الأفراد؛ فمتى أعرضت عن دينه القويم، وتنكبت صراطه المستقيم أصابها ما أصابها بقدر بعدها وإعراضها.
ولهذا تعيش تلك الأمم حياةً شقيةً تعيسةً صعبةً معقَّدةً؛ حيث يشيع فيها القلق والاضطراب، والتفكُّك، والقتل، والسرقة، والشذوذ، والاغتصاب، والمخدرات، وأمراض الجنس، وتُفقد فيها الطمأنينةُ، والراحةُ، والمحبةُ، والصلةُ، والتعاطفُ، والتكافلُ إلى غير ذلك من المعاني الجميلة.
قال الله_تعالى_: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طـه:124) .
كيف تسعد تلك الأمم وفي داخل كلِّ إنسانٍ منها أسئلةٌ محيرة؟ مَنْ خَلَق الحياةَ؟ وما بدايتُها؟ وما نهايتُها؟ وما سرُّ تلك الروح التي لو خرجت لأصبح الإنسان جماداً؟!
إن هذه الأسئلة قد تهدأُ في بعض الأحيان؛ بسبب مشاغل الحياة، ولكنها لا تلبثُ أ ن تعودَ مرةً أخرى.
وكيف تسعدُ تلك الأممُ وهي تعيشُ بلا دينٍ يزكي نفوسَها، ويضبط عواطفَها، ويَرْدَعُها عن التمادي في باطلها، ويسدُّ جوعتَها بالتوجه إلى فاطرها؟!
إن الكنيسة بتعاليمها المحرفةِ لا تستطيع أن تجيب عن الأسئلة الماضية بدقة ووضوح، ولا تملك منهجاً يزكي النفوس، ويقنع العقول، وتسير عليه أمور الناس بانتظام.
ولقد زاد هذا الأمرُ ضراوةً بعد أن تراجعت الكنيسةُ أمام ضربات الإلحاد؛ فما أغنت تلك الحريةُ المزعومةُ، والإباحيةُ المطلقةُ عن تلك المجتمعات فتيلاً، أو قطميراً، ولا جلبت لها السعادة الحقّةَ، ولا الحياة الكريمةَ؛ ولهذا فإن الناس هناك يبحثون عمّا يريحهم من هذا العناء والشقاء؛ فمنهم من يلجأ إلى المخدرات والمهدئات التي تضاعف البلاء، وتزيد في الشقاء.
ومنهم من يروي غليلَه بالشذوذ الجنسي؛ حتى يفقد إنسانيته، ويلتحق بالأنعام في حياتها السافلةِ، ويفقد مع ذلك صحته وسعادته، ويكون عرضةً للإصابة بأمراض الشذوذ المتنوِّعـة، وما يصاحبها من ضيق وتكدُّر.
ومنهم من يُروي غُلَّته بالسطو، والسرقة، حتى إن الناس هناك لا يكادون يأمنون على أموالهم وممتلكاتهم، بل لقد أصبحت السرقة تعتمد على الدراسة، والتكنولوجيـا الحديثـة المجهزةِ بأحدث الوسائل والأساليب القائمة على أحدث المبتكرات، والتخطيط لكل عملية سطو.
وبعضُ أولئك يسلك طريقَ القتل؛ ليتشفّى من المجتمع، ويطفئَ نار الحقد المتَّقِدَةَ في صدره، فتراه يتحيَّن الفرص، وينتهز الغِّرة، ليهجم على ضحية يفقدها الحياة، ثم يبحث عن ضحية أخرى.
بل لقد أصبح القتل عند بعضهم متعةً، ونوعاً من اللذة، وكثيراً ما يكون لأتفه الأسباب، حتى إن الواحد قد يقتل أقرب الأقربين إليه.
ومنهم مَنْ يبلغ به الشقاءُ والهمُّ غايتَه؛ فلا يجد ما يسعده، أو يريحه من همومه، وغمومه، ولا يرى ما ينفِّس به كربتَه، أو يعينه على تحمل أعباء حياته؛ فيلجأ حينئذ إلى الانتحار، رغبة في ا لتخلُّص من الحياة بالكُلِّيَّة.
ولقد أصبح الانتحار سمةً بارزةً في تلك المجتمعات، وصارت نسبته تتزايد، وتهدد الحضارة الغربية بأكملها.
ولقد أقلق كثرةُ الانتحار علماءَ الاجتماع في تلك البلاد؛ حيث أصبح عددُ المنتحرين يفوق عددَ القتلى في الحروب، وفي حوادث السيارات.
أما طرق الانتحار: فتأخذ أساليبَ متنوعةً، فهذا ينتحر بالغَرَق،وذاك بالحَرْق، وهذا بابتلاع السموم، وذاك بالشنق، وهذا بإطلاق الرصاص على نفسه، وذاك بالتردِّي من شاهق، وهكذا...
أما أسباب الانتحار: فمعظمُها تافهةٌ حقيرةٌ، لا تستدعي سوى التغافل، وغض الطّرف عنها؛ فهذا ينتحر بسبب الإخفاق في امتحان الدراسة أو الوظيفة، وذاك بسبب وفاة المطرب الذي يحبه، أو هزيمة الفريق الذي يميل إليه، وهـذا ينتحر بسبب وفـاة عشيقتـه، وهذه تنتحر بسبب تخلي عشيقها عنها، بل ومنهم من انتحر بسبب وفاة كلبـه!!
بل ومنهم من ينتحر بلا سبب ظاهر، ويبقى السبب الأول للانتحار؛ وهو الكفر بالله، وما يستَتْبِعُه من الضَّنْك، والشدّة، وقلة التفكير في المصير.
والغريب في الأمر أن نسبةً كبيرةً من المنتحرين ليسوا من الفقراء حتى يقال: إنهم انتحروا لقلة ذات اليد؛ وإنما هم من الطبقات المُغْرِقة في النعيم، البعيدة الصيت والشهرة، الرفيعة في الجاه والمنصب؛ بل وينتشر الانتحار في طبقات الأطباء، والمثقفين، ومما يلفت النظر أن أشدَّ هذه البلاد تحلُّلاً وإباحية هي أكثرها انتحاراً.
ومن الأشياء التي استحدثوها للتّخفيف من الانتحارات المتزايدة _إنشاء مركز يتلقى مكالمات المُقْدِمين على الانتحار، أو من لديهم مشكلة عاطفية، أو الذين يعانون من ضيق الصدر.
والعجيب في الأمر أن يكون للانتحار مؤيدون وأنصار؛ حيث تكوَّنت في بريطانيا جمعيةٌ للمنتحرين، وأصدرت كُتيّباً، وأَخَذَتْ توزِّعه على أعضائها الذين يحبذون، ويؤيدون حقَّ المرضى بالانتحار عندما يتألمون، وعندما يقرر الطبيب أن حالتهم ميؤوس منها!!.
وقد نصّ الكُتَيِّبُ على الوسائل السريعة وغير المؤلمة التي يمكن أن تساعد السّاعين إلى الانتحار على تنفيذ رغبتهم!
فلماذا ينتحر هؤلاء؟ ولماذا يستبدُّ بهم الألم، ويذهب بهم كل مذهب مع أن أبواب الحرية مفتوحة لهم على مصاريعها؟
والجواب: أنهم فقدوا ينبوعَ السعادة، وسببَها الأعظمَ؛ ألا وهو الإيمان بالله _عز وجل_ فلم تُغْنِ عنهم حريتُهم شيئاً، ولم يجدوا ما يطفئ لَفْح الحياة، وهجيرَها، وصخبَها، فلا يكادون يحتملون أدنى مصيبة تنـزل بهم.
تُرَى! لو كانت قلوبُ أولئك مطمئنةً بالإيمان أتكون حالهم هكذا؟ ولو كانوا مسلمين يؤدون الصيام على الوجه المطلوب أتكون نفوسهم ضعيفة إلى هذا الحد؟
أيها الصائمون الكرام!
هذه هي حال الأمم إذا هي أبعدت عن هداية الإسلام، وأطلقت لنفسها الحرية المطلقة.
ومع ذلك تراهم يصدِّرون إليها تعاستهم، وشقاءهم؛ فهل اطلع على تلك الحال المزرية مَنْ يريدون أن تكون بلاد الإسلام كتلك البلاد تهتكاً، وتوقٌّحاً، ودعارة وفساداً؟!
وهل يريدون أن يكون مصير بلاد الإسلام كذلك المصير؟!
إن كانوا لم يطلعوا؛ فتلك مصيبة، وإن كانوا مطلعين فالمصيبة أعظم.
وهكذا يتبيَّن لنا أثرُ الصيام في منح الحرية الحقّة.
اللهم إننا نسألك حبك، وحبَّ من يحبك، وحبَّ العمل الذي يقربنا إلى حبك، اللهم زدنا عبودية لك، وحرية مما سواك، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد.