تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ
المجلد الرابع
صـ 797 الى صـ 802
الحلقة (151)
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 8 ] ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب .
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا من مقال الراسخين ، أي : لا تمل قلوبنا عن الهدى بعد إذ أقمتها عليه ، ولا تجعلها كالذين في قلوبهم زيغ . الذين يتبعون ما تشابه من القرآن ، ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم : وهب لنا من لدنك رحمة تثبت بها قلوبنا : إنك أنت الوهاب كثير النعم والإفضال ، جزيل العطايا والنوال . وفيه دلالة على أن الهدى والضلال من قبله تعالى . وعن عائشة - رضي الله عنها - : قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كثيرا ما يدعو : « يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك » قلت : يا رسول الله ! ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء ! فقال : « ليس من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن ، إذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه » . وهو في الصحيح والسنن .
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 9 ] ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد .
ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد وهذا [ ص: 798 ] من تتمة كلام الراسخين في العلم ، وذلك لأنهم لما طلبوا من الله تعالى أن يصونهم عن الزيغ ، وأن يخصهم بالهداية والرحمة ، فكأنهم قالوا : ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا ، فإنها منقضية منقرضة . وإنما الغرض الأعظم منه : ما يتعلق بالآخرة فإنها القصد والمآل . فإنا نعلم أنك يا إلهنا جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ، ونعلم أن وعدك لا يكون خلفا ، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبدا ، ومن منحته الرحمة والهداية بقي هناك في السعادة والكرامة أبدا . فالغرض الأعظم من ذلك الدعاء ؛ ما يتعلق بالآخرة - أفاده الرازي - ثم قال : احتج الجبائي بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق . قال : وذلك لأن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد بدليل قوله تعالى : أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا والوعد والموعد والميعاد واحد . وقد أخبر في هذه الآية أنه لا يخلف الميعاد . فكان هذا دليلا على أنه لا يخلف في الوعيد . والجواب : لا نسلم أنه تعالى يوعد الفساق مطلقا ، بل ذلك الوعيد عندنا مشروط بشرط عدم العفو ، كما أنه بالاتفاق مشروط بشرط عدم التوبة ، فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل ، فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل ، سلمنا أنه يوعدهم ، ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد . أما قوله تعالى : فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قلنا لم لا يجوز أن يكون ذلك ، كما في قوله : فبشرهم بعذاب أليم [ ص: 799 ] وقوله : ذق إنك أنت العزيز الكريم وأيضا لم لا يجوز أن يكون المراد منه أنهم كانوا يتوقعون من أوثانهم أنها تشفع لهم عند الله ، فكان المراد من الوعد تلك المنافع .
وذكر الواحدي في ( البسيط ) طريقة أخرى فقال : لم لا يجوز أن يحمل هذا على ميعاد الأولياء ، دون وعيد الأعداء ؛ لأن خلف الوعيد كرم عند العرب . قال : والدليل عليه أنهم يمدحون بذلك ، قال الشاعر :
إذا وعد السراء أنجز وعده وإن أوعد الضراء فالعفو مانعه
وروى المناظرة التي دارت بين أبي عمرو بن العلاء ، وبين عمرو بن عبيد . قال أبو عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد : ما تقول في أصحاب الكبائر ؟ قال : أقول إن الله وعد وعدا وأوعد إيعادا ، فهو منجز إيعاده ما هو منجز وعده ، فقال أبو عمرو بن العلاء : إنك رجل أعجم ، لا أقول أعجم اللسان ، ولكن أعجم القلب . إن العرب تعد الرجوع عن الوعد لؤما . وعن الإيعاد كرما ، وأنشد :
وإني وإن أوعدته أو وعدته لمكذب إيعادي ومنجز موعدي
واعلم أن المعتزلة حكوا أن أبا عمرو بن العلاء لما قال هذا الكلام ، قال له عمرو بن عبيد : يا أبا عمرو ؟ فهل يسمى الله مكذب نفسه ؟ فقال : لا ، فقال عمرو بن عبيد فقد سقطت حجتك . قالوا : فانقطع عمرو بن العلاء .
وعندي أنه كان لأبي عمرو بن العلاء أن يجيب عن هذا السؤال فيقول : إنك قست الوعيد على الوعد ، وأنا إنما ذكرت هذا لبيان الفرق بين البابين ، وذلك لأن الوعد حق عليه ، والوعيد حق له ، ومن أسقط حق نفسه فقد أتى بالجود والكرم ، ومن أسقط حق غيره [ ص: 800 ] فذلك هو اللؤم . فظهر الفرق بين الوعد والوعيد ، وبطل قياسك . وإنما ذكرت هذا الشعر لإيضاح هذا الفرق . فأما قولك : لو لم يفعل لصار كاذبا ومكذبا نفسه ، فجوابه : أن هذا إنما يلزم لو كان الوعيد ثابتا جزما من غير شرط . وعندي جميع الوعيدات مشروطة بعدم العفو ، فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله تعالى . فهذا ما يتعلق بهذه الحكاية . والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 10 ] إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار
إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم التي يبذلونها في جلب المنافع ودفع المضار : ولا أولادهم الذين بهم يتناصرون في الأمور المهمة : من الله أي : من عذابه تعالى : شيئا من الإغناء ، أي : لن تدفع عنهم شيئا من عذابه . يقال : ما أغنى فلان شيئا ، أي : لم ينفع في مهم ، ولم يكف مؤنة . ورجل مغن ، أي : مجزئ كاف - قاله الأزهري . ونظير هذه الآية قوله تعالى : يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وأولئك هم وقود النار بفتح الواو أي : حطبها ، وقرئ بالضم بمعنى أهل وقودها ، وأكثر اللغويين على أن الضم للمصدر ، أي : التوقد ، والفتح للحطب . وقال الزجاج : المصدر مضموم ، ويجوز فيه الفتح ، وهذا كقوله تعالى : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون
[ ص: 801 ]
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 11 ] كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب
كدأب آل فرعون خبر مبتدأ محذوف ، أي : دأب هؤلاء في الكفر كدأب آل فرعون . والدأب ( بالسكون ، ويحرك ) مصدر دأب في العمل إذا كدح فيه ، فوضع موضع ما عليه الإنسان من شأنه وحاله ، مجازا ، يقال : هذا دأبك أي : شأنك وعملك . قال الأزهري : عن الزجاج في هذه الآية : أي : كأمر آل فرعون ، كذا قال أهل اللغة ، قال الأزهري : والقول عندي فيه - والله أعلم - أن دأبهم هنا اجتهادهم في كفرهم وتظاهرهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - كتظاهر آل فرعون على موسى عليه الصلاة والسلام . يقال : دأبت أدأب دأبا ودؤوبا إذا اجتهدت في الشيء - انتهى - قال أبو البقاء : وفي ذلك تخويف لهم لعلمهم بما حل بآل فرعون : والذين من قبلهم أي : من قبل آل فرعون من الأمم الكافرة ، فالموصول في محل جر عطف على ما قبله : كذبوا بآياتنا بيان وتفسير لدأبهم الذي فعلوا على طريقة الاستئناف المبني على السؤال المقدر : فأخذهم الله بذنوبهم أي : عاقبهم وأهلكهم بسببها والله شديد العقاب أي : الأخذ بالذنب . فيه تهويل للمؤاخذة وزيادة تخويف للكفرة .
القول في تأويل قوله تعالى :
[ 12 ] قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد
قل للذين كفروا بهذا الدين وهم اليهود ( للرواية الآتية( أو نصارى نجران ، لأن السورة نزلت لإحقاق الحق معهم ، أو أعم : ستغلبون أي : في الدنيا : وتحشرون أي : يوم القيامة : إلى جهنم وبئس المهاد الفراش ، أي : فكفركم ككفر آل فرعون بموسى ، وقد فعل بقريش لكفرهم ما رأيتم ، فسيفعل بكم ما فعل بهم ، [ ص: 802 ] وهو أنكم تغلبون كما غلبوا . وقد صدق الله وعده بقتل قريظة ، وإجلاء بني النضير ، وفتح خيبر ، وضرب الجزية على من عداهم ، وهو من أوضح شواهد النبوة . وقد روى أبو داود في سننه والبيهقي في الدلائل من طريق ابن إسحاق ، عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أصاب من أهل بدر ما أصاب ، ورجع إلى المدينة ، جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال : « يا معشر يهود ! أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشا » فقالوا : يا محمد ! لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفرا من قريش ، كانوا أغمارا لا يعرفون القتال ، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس ، وأنك لم تلق مثلنا . فأنزل الله : قل للذين إلى قوله : لأولي الأبصار