بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه، وبعد:
1- في المعجم الوسيط (2/996): (هَنأ) فلانا بِالْأَمر؛ (تهنئة): خاطبه راجيا أَن يكون هَذَا الْأَمر مبعث سرُور لَهُ.
وفي لسان العرب (1/185): والتَّهْنِئةُ: خِلَافُ التَّعْزِية.
2- ولا يستقيم عند أي عاقل أو سوي أن يهنأ غيره بأمر فيه نفسه مساءة له، أو يهنأ غيره بأمر مستقبح عنده، فالأول لا يقوم به إلا مجنون فاقد العقل، والثاني لا يكون مقبولا إلا عند منتكسي الفطر غير الأسوياء.
فمثال الأول: تهنئة رجل قوما من الأعداء بيوم انتصارهم على قومه!!!!!!!.
فلا تسوغ التهاني بين حزبين بأمر ما يكون فيه سرور لأحدهما وهو بعينه مساءة للآخر.
ومثال الثاني: تهنئة رجل فاجرا بقضاء ليلة مع امرأة ساقطة!!!!!!.
فهي لحب شيوع الفاحشة أقرب في التسمية من التهنئة.
3- فالمثال الأول بخلاف العقل، ولذلك لن تجد أحدا يعارض فيه، لأنه لا يوجد أحد إلا ويستشنع أن يصفه الناس بالجنون.
4- وأما المثال الثاني فهو بخلاف الشرع، وفيه يحدث اختلاف الناس مع علمهم بالخطأ كما قال تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين)، وقد لا يبالي أحدهم في المثال الثاني أن يشهد على نفسه فضلا أن يصفه الناس بالمخالفة أو الخطأ أو حتى بالكفر كما قال تعالى: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر)،
فنسأل الله الهداية والسداد.
5- وأردت بالمثال الثاني ضرب المثل على أن استشناع الأسوياء لتهنئة الفجار هو من قريب الاتفاق على رمي من هنأ الأعداء بالانتصار على قومه بالجنون.
فالمثال الثاني عند الأسوياء لا يقوم به إلا من سفه نفسه وإن لم يكن مجنونا.
6- والزنا والخنا والفجور من كبائر الذنوب، عقابها أليم وقد يغفرها الله عز وجل كما قال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الجَنَّةَ» قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ» قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ». متفق عليه.
7- والشرك أعظم قبحا وشناعة من الزنا كما قال تعالى: (إن الشرك لظلم عظيم).
8- فإذا كانت تهنئة الفجار بفجورهم مستشنعة عند الأسوياء، فلأن تكون تهنئة الكفار في أعيادهم بكفرهم أشنع وأقبح من باب أولى عند كل من كان سويا.
9- فمن أنكر التهنئة في المثال الثاني مع تجويزه تهنئة الكفار في أعيادهم بكفرهم فليس من الأسوياء، وإنما أنكر التهنئة في المثال الثاني لاجتماع فطر الناس في زمانه على النفرة منه، لكي لا يتهموه بالجنون كاتفاقهم على المثال الأول، ولو أتى زمان تألف فيه طباع الناس المثال الثاني - وهو كائن كما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم من حديث عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرِو بْنِ الْعَاص عند ابن أبي شيبة في مصنفه (37277) بإسناد صحيح فقال صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَسَافَدَ النَّاسُ فِي الطُّرُقِ تَسَافُدَ الْحَمِيرِ» - فإن هذا الذي لا ينكر تهنئة الكفار في أعيادهم بالكفر لو أظله هذا الزمان لما أنكر ما كان في المثال الثاني لاجتماع طباع الناس يومها عليه.
فنسأل الله العافية في الدنيا والآخرة، ونسأله العفو والعافية في ديننا ودنيانا وأهلنا ومالنا، اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، اللهم احفظنا من بين أيدينا، ومن خلفنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا. آمين.
10- قال ابن القيم رحمه الله تعالى في أحكام أهل الذمة (1/441):
فَصْلٌ
فِي تَهْنِئَتِهِمْ بِزَوْجَةٍ أَوْ وَلَدٍ أَوْ قُدُومِ غَائِبٍ أَوْ عَافِيَةٍ أَوْ سَلَامَةٍ مِنْ مَكْرُوهٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِي ذَلِكَ عَنْ أَحْمَدَ فَأَبَاحَهَا مَرَّةً وَمَنَعَهَا أُخْرَى، وَالْكَلَامُ فِيهَا كَالْكَلَامِ فِي التَّعْزِيَةِ وَالْعِيَادَةِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَلَكِنْ لِيَحْذَرِ الْوُقُوعَ فِيمَا يَقَعُ فِيهِ الْجُهَّالُ مِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ بِدِينِهِ، كَمَا يَقُولُ أَحَدُهُمْ: مَتَّعَكَ اللَّهُ بِدِينِكَ أَوْ نَيَّحَكَ فِيهِ، أَوْ يَقُولُ لَهُ: أَعَزَّكَ اللَّهُ أَوْ أَكْرَمَكَ إِلَّا أَنْ يَقُولَ: أَكْرَمَكَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ وَأَعَزَّكَ بِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهَذَا فِي التَّهْنِئَةِ بِالْأُمُورِ الْمُشْتَرَكَةِ .
وَأَمَّا التَّهْنِئَةُ بِشَعَائِرِ الْكُفْرِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ فَحَرَامٌ بِالِاتِّفَاق، مِثْلَ أَنْ يُهَنِّئَهُمْ بِأَعْيَادِهِمْ وَصَوْمِهِمْ، فَيَقُولَ: عِيدٌ مُبَارَكٌ عَلَيْكَ، أَوْ تَهْنَأُ بِهَذَا الْعِيدِ، وَنَحْوَهُ، فَهَذَا إِنْ سَلِمَ قَائِلُهُ مِنَ الْكُفْرِ فَهُوَ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُهَنِّئَهُ بِسُجُودِهِ لِلصَّلِيبِ، بَلْ ذَلِكَ أَعْظَمُ إِثْمًا عِنْدَ اللَّهِ وَأَشَدُّ مَقْتًا مِنَ التَّهْنِئَةِ بِشُرْبِ الْخَمْرِ وَقَتْلِ النَّفْسِ وَارْتِكَابِ الْفَرْجِ الْحَرَامِ وَنَحْوِهِ.
وَكَثِيرٌ مِمَّنْ لَا قَدْرَ لِلدِّينِ عِنْدَهُ يَقَعُ فِي ذَلِكَ، وَلَا يَدْرِي قُبْحَ مَا فَعَلَ، فَمَنْ هَنَّأَ عَبْدًا بِمَعْصِيَةٍ أَوْ بِدْعَةٍ أَوْ كُفْرٍ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِمَقْتِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ.
وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْوَرَعِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَتَجَنَّبُونَ تَهْنِئَةَ الظَّلَمَةِ بِالْوِلَايَاتِ ، وَتَهْنِئَةَ الْجُهَّالِ بِمَنْصِبِ الْقَضَاءِ وَالتَّدْرِيسِ وَالْإِفْتَاءِ تَجَنُّبًا لِمَقْتِ اللَّهِ وَسُقُوطِهِمْ مِنْ عَيْنِهِ، وَإِنْ بُلِيَ الرَّجُلُ بِذَلِكَ فَتَعَاطَاهُ دَفْعًا لِشَرٍّ يَتَوَقَّعُهُ مِنْهُمْ فَمَشَى إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَقُلْ إِلَّا خَيْرًا، وَدَعَا لَهُمْ بِالتَّوْفِيقِ وَالتَّسْدِيدِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
والحمد لله رب العالمين.