ما الجوابُ ؟
أَجَابَ رَضِيَ اللهُ عنهُ : بِأَنَّ الَّذينَ أَحْدَثُوهَا أَنْقَصُ منهم عِلْمًا ، ما أَحْدَثَهَا إلاَّ أُنَاسٌ لا عِلْمَ عِنْدَهُم كما عِنْدَ الصَّحابةِ ، وإلاَّ فإنَّ الصَّحابةَ يَقْدِرُونَ أنْ يَخُوضُوا ، وما أَحْدَثَهَا بَعْدَهُم إلاَّ مَنْ هوَ دُونَهُم في العلمِ ، وفي المواهبِ .
ثمَّ أَخْبَرَ بأنَّ الَّذينَ بَعْدَهُم انْقَسَمُوا إلى قِسْمَيْنِ : قِسْمٍ قَصَّرُوا ، وقِسْمٍ غَلَوْا.
الَّذينَ قَصَّرُوا كأنَّهُم الَّذينَ اقْتَصَرُوا على ذِكْرِ الأحكامِ فَقَطْ ، ولمْ يَخُوضُوا في العلومِ الغَيْبِيَّةِ ، ولمْ يَتَكَلَّموا فيها مُعْرِضِينَ عنها بِأَلْسِنَتِهِم وَبِقُلُوبِهِم ، فهؤلاءِ مُقَصِّرُونَ .
والَّذينَ غَلَوْا هم الَّذينَ تَوَسَّعُوا فيها ، وَتَكَلَّمُوا فيها كَلاَمًا طَوِيلاً ، وَوَلَّدُوا فيها تَوْلِيدَاتٍ ، وَوَقَعُوا في آخرِ أَمْرِهِم في حَيْرَةٍ وفي شَكٍّ ، وفي بُعْدٍ عن الحقِّ ، فَأَدَّى بهم ذلكَ إلى أنْ يَمُوتُوا وهم شُكَّاكٌ لا يَدْرُونَ ما يَعْتَقِدُونَهُ ، فَصَارُوا في طَرَفَيْ نَقِيضٍ : قومٌ قَصَّرُوا ، وَقَوْمٌ غَلَوْا .
رُوِيَ أنَّ بعضَ التَّلامذةِ سَأَلُوا ابنَ المُبَارَكِ وقالُوا : إنَّا نَكْرَهُ أنْ نَتَكَلَّمَ في هذهِ الصِّفاتِ ، يَعْنِي في إثباتِ العُلُوِّ والاستواءِ والنُّزولِ ، وما أَشْبَهَ ذلكَ ، فقالَ : ( أَنَا أَكْرَهُ منكُم لَهَا ، ولكنْ لَمَّا جاءَتْ بِهَا النُّصُوصُ وَاشْتَمَلَتْ عليها الأَدِلَّةُ تَجَرَّأْنَا على الكلامِ بها ، وَجَسَرْنَا على أنْ نَقُولَهَا اعْتِمَادًا على الدَّليلِ ، وكَفَى بالآياتِ دَلِيلاً) ، أوْ كما قالَ .
فَأَخْبَرَ بِأَنَّا قدْ نَتَوَقَّفُ عندَمَا تُذْكَرُ لنا بعضُ الصِّفاتِ الَّتي لا دَلِيلَ عليها ، فإذا وَجَدْنَا لها دَلِيلاً تَكَلَّمْنَا عليها بِجَرَاءَةٍ ولم نَخَفْ .
فَهَكَذَا كانَ الصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنْهُم ، وكانَ تلامذتُهُم يَتَكَلَّمُونَ بالدَّليلِ ولا يُبَالُونَ .
وهكذا نَقَلَ عنهم عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ رَضِيَ اللهُ عنهُ ، أنَّهُم كانُوا وَسَطًا ؛ لَيْسُوا من الَّذينَ يُعْرِضُونَ عنْ هذهِ الأشياءِ ولا يَذْكُرُونَهَا في عَقَائِدِهِم ، وَيَسْتَوْحِشُو نَ إذا ذُكِرَتْ .
كما نُقِلَ أنَّ رَجُلاً انْتَفَضَ لمَّا سَمِعَ حَدِيثًا في الصِّفاتِ اسْتِنْكَارًا لذلكَ ، فقالَ عَلِيٌّ : (مَا فَرَّقَ هَؤُلاَءِ ؟ يَجِدُونَ رِقَّةً عِنْدَ مُحْكَمِهِ ، وَيَهْلِكُونَ عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ ) ، كأنَّهُم لا يَجْرُئُونَ على أنْ يَتَكَلَّمُوا بشيءٍ من الآياتِ والأحاديثِ الَّتي تَشْتَمِلُ على ذِكْرِ صفةٍ من الصِّفاتِ .