فقه النوازل (1)
سعد بن تركي الخثلان
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين، أما بعد:
فمع افتتاح هذه الدورة ومع الدرس الأول في هذه الدورة العلمية، أسأل الله - تعالى -أن يبارك فيها، وأن ينفع بها، وأن يزيدنا جميعا هدى وعلما وتوفيقا، ثم إنني أشكر الإخوة القائمين على تنظيم هذه الدورة في هذا الجامع على ما يقومون به من جهد كبير في تنظيمها، وأخص بالشكر أخي فضيلة الشيخ فهد الحسن الغراب، على ما يقوم به من جهد في تنظيم هذه الدورة وفي غيرها من المناشط العلمية في هذا الجامع، حتى أصبح هذا الجامع بحق منارة من منارات العلم.
أيها الإخوة هذه الدورة العلمية والتي يتوافد فيها أعداد من الإخوة من بلاد شتى، تذكرنا بما أثر عن السلف من الرحلة في طلب العلم، فإن السلف كانوا يرحلون في طلب العلم الشرعي في سبيل تحصيله وجمعه.
وجابر بن عبد الله الأنصاري الصحابي الجليل -رضي الله عنه- رحل من المدينة إلى الشام من أجل سماع حديث واحد فقط، من أجل سماع حديث واحد فقط من عبد الله بن أنيس ومكث في هذه الرحلة شهرين، شهرا في الذهاب وشهرا في الإياب، وسافر وحده على بعيره.
ولما وصل إلى الشام اعتنقه عبد الله بن أنيس، فقال له جابر بلغني أن عندك حديثا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخشيت أن أموت أو تموت، ولم أسمعه، فقال نعم: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا بهما، -قلنا وما بهما يا رسول الله؟ -قال: ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعه من قرب: أنا الملك الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة، ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه حتى اللطمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وعنده حق حتى أقصه منه حتى اللطمة، قلنا يا رسول الله وكيف ذلك وليس معنا شيء؟ قال: بالحسنات والسيئات.
هذه القصة ذكرها البخاري في صحيحه معلقا لها بصيغة الجزم لكن أشار إليها مختصرة، ثم لما سمع جابر هذا الحديث رجع إلى المدينة، وهكذا أيضا أبو أيوب الأنصاري رحل من المدينة إلى مصر من أجل سماع حديث واحد فقط، والقصص كثيرة في هذا، ولهذا صنف بعض العلماء في الرحلة في طلب العلم.
وإذا قرأت في ترجمة كثير من علمائنا تجد أنه يذكر في الترجمة ورحل إلى بلاد كذا وكذا وكذا، حتى أصبحت الرحلة في طلب العلم جزءًا من تراجم كبار أهل العلم والمحدثين والفقهاء، ولهذا لا يستكثر الإنسان الحضور إلى مثل هذا المكان ولو أتى من مكان بعيد، وإذا قرأ في تراجم علمائنا وجد أنهم يرحلون إلى ما هو أبعد من ذلك مع أن وسائل المواصلات في زمنهم ليست كوسائل المواصلات في وقتنا الحاضر.
ثم إن العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته، كما قال الإمام أحمد قال: طلب العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته، ولهذا فإن الاشتغال بطلب العلم الشرعي أفضل من الاشتغال بنوافل العبادات، كما ذكر ذلك أهل العلم، وذلك لأن الاشتغال بطلب العلم الشرعي، نفعه متعد للآخرين، بينما الاشتغال بنوافل العبادات نفعها قاصر على صاحبها.
وقد عقد الإمام ابن القيم - رحمه الله - في كتابه القيم مفتاح دار السعادة، مقارنة بين العلم والمال، وذكر أكثر من مائة وخمسين وجها في تفضيل العلم على المال، ومن عجائب ما ذكر، قال: حتى الكلاب تشرف بالعلم، فإن صيد الكلب المعلم حلال، بينما صيد الكلب غير المعلم حرام "يَسْأَلونك مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ" فإذا كانت الكلاب تشرف بالعلم فما بالك ببني آدم، ولم يأمر الله - تعالى -نبيه - صلى الله عليه وسلم - بطلب الزيادة من شيء إلا من العلم فقال: "وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا".
وقد ذكر الشاطبي - رحمه الله - أن لطلب العلم طريقين:
الطريق الأولى: طريق الاجتهاد الشخصي، وذلك بالحفظ والقراءة والتأمل في كتب أهل العلم ونحو ذلك.
والطريق الثانية: أخذ العلم عن أهله مشافهة، وقال: إن هذه الطريق الثانية أنفع الطريقين، وهي المأثورة عن كثير من السلف، والحقيقة أنه لا تغني إحدى الطريقتين عن الأخرى، لا بد من أخذ العلم عن أهله، ولا بد كذلك من بذل الجد والاجتهاد في تحصيل العلم، فإن العلم لا يحصل للإنسان دفعة واحدة وإنما شيئا فشيئا.
ثم إنني أنبه إلى أمر وهو أن بعض الإخوة يحضر دروسا كثيرة وربما دورات كثيرة، ولكنه لا يحصل علما كثيرا، وقد يكون السبب في ذلك أن آلية التحصيل عنده فيها خلل، وذلك أن الناس في الوقت الحاضر قد ضعفت الذاكرة عندهم، ليست كما كان عليه حال العرب من قبل، كان العرب متميزين بقوة الحفظ والذاكرة، حتى إن القصيدة تلقى وهي مكونة من مائتي بيت فأكثر تلقى مرة واحدة فيحفظونها كلهم، بل يستعيبون أن يطلبوا من الملقي أن يعيدها مرة ثانية.
وقد روي ذلك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه كان يحفظ الشيء من سماعه مرة واحدة، وروي كذلك عن الشعبي، وروي عن عدد من أهل العلم، أما في الوقت الحاضر فكما ترون لا يكاد يوجد أحد يحفظ الشيء من سماعه من مرة واحدة، وحينئذ فلا بد من ضبط آلية تحصيل العلم، ويختار الإنسان الطريقة المناسبة له، إما كتابة، ثم ينظم ما يكتبه، ويراجعه من حين لآخر حتى تستقر المعلومات في ذهنه، أو بالتسجيل، ثم يسمعه من حين لآخر، أو غير ذلك من وسائل التحصيل.
أما أنه يحضر الدروس من غير ضبط للعلم، فإنه سرعان ما ينسى ما سمع، وبالتالي لا يستفيد كثيرا، أقول هذا مع بداية هذه الدورة، ومن أحسن الطرق النافعة هي أن تلخص ما سمعت، ثم تراجعه من حين لآخر، فإن حياة العلم المذاكرة، حياة العلم المذاكرة، لا بد من مذاكرة العلم حتى يستقر.
ثم إنني مع بداية هذه الدورة، أوصي نفسي وإخواني بإخلاص النية لله - عز وجل - في طلب العلم، فإن النية أمرها عجيب، والإخلاص لا يقارن عملا من الأعمال إلا ويكتب له النجاح والقبول والتوفيق، بل إن طلب العلم إذا قارنه نية سيئة عاد وبالا على صاحبه يوم القيامة، كما جاء في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة وذكر منهم: رجل تعلم العلم وعلمه الناس، وقرأ القرآن لاحظ تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن فيؤتى به فيعرفه نعمه فيعرفها، فيقول: ماذا عملت فيها؟ فيقول: يا رب تعلمت فيك العلم وعلمته للناس، وقرأت فيك القرآن، فيقال له: كذبت ولكنك تعلمت ليقال هو عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه فألقي في النار والعياذ بالله.
كان معاوية إذا سمع بهذا الحديث بكى بكاءً عظيما، فالآن هذا الذي تعلم العلم لأجل الناس أصبح علمه وبالا عليه كما يقول بعض أهل العلم لو أنه سلم من هذا العلم لكان أحسن له، هذا العلم بهذه النية السيئة كان سببا لأن يكون من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، فلا بد من إخلاص النية لله - عز وجل -.
فإن قلت: كيف أخلص النية لله - تعالى -في طلب العلم، ذكر أهل العلم أن إخلاص النية يكون بأن تنوي رفع الجهل عن نفسك، وأن تنوي رفع الجهل عن غيرك، والدعوة إلى الله - عز وجل - والدفاع عن دينه، ولا تنوي بذلك رياءً ولا سمعة ولا طلب محمدة من أحد من البشر.
وبعد ذلك نعود إلى درسنا. كنا في العام الماضي قد كان الدرس عن فقه المعاملات المالية المعاصرة، واحتفى به -ولله الحمد- كثير من الإخوة وحصل بذلك الدرس نفع كثير، ولح علي كثير من الإخوان، أن أخرجه في كتاب وهو سوف يخرج إن شاء الله في كتاب قريبا.
وسألني عدد من الإخوة هل ما ذكر من موضوعات في الدرس الدورة الماضية هل سيذكر منها شيء في هذه الدورة؟ أقول: لا، لن يذكر ولا موضوع واحد، ما ذكرناه العام الماضي لن يعاد ويكرر في هذه الدورة، فإن الدرس في الدورة الماضية كان في المعاملات المالية المعاصرة فقط، وأما الدرس في هذه الدورة فهو في فقه النوازل عامة، في فقه النوازل عامة، وهذا الفقه ينبغي لطالب العلم العناية به، لأنه يلحظ أن كثيرا من طلاب العلم يكون لهم عناية بالفقه المدون في الكتب، ويكون لهم حفظ وضبط وتأصيل، ولكن عندما تأتي المسائل المعاصرة والنوازل يتوقفون فلا تجد عندهم فيها شيئا، وهذا يعتبر خلل عند طالب العلم، لأن هذه النوازل وهذه المسائل المعاصرة يحتاج لها الناس، وتكثر الأسئلة حولها.
ولهذا لا بد لطالب العلم مع ضبطه لكلام الفقهاء المتقدمين أن يعنى بمعرفة الحكم الشرعي في النوازل والمسائل المعاصرة، أو على الأقل أن يعنى بضبط كلام أهل العلم في هذه المسائل وهذه النوازل.
والأمة ولله الحمد لا تزال بخير، وعلماؤها يبذلون الجهود الكبيرة في تكييف هذه النوازل وتبيين الحكم الشرعي فيها، هذا الدرس سوف نبدأ إن شاء الله - تعالى -في الجانب التأصيلي، سوف نجعله في الجانب التأصيلي لفقه النوازل، وفي الدروس القادمة إن شاء الله نبدأ بذكر عدد من النوازل، وسوف أبين إن شاء الله في نهاية هذا الدرس المنهج الذي سوف نسير عليه في دراسة تلك المسائل.
أقول إن من رحمة الله - تعالى -بالخلق أن أكرمهم بهذه الرسالة المحمدية: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" فأرسل الله - تعالى -نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين جميعا، ومن مقتضيات هذه الرحمة تحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة، كما ذكر ذلك الشاطبي وغيره من أهل العلم، من مقتضيات هذه الرحمة تحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة، فلا تكاد تجد مصلحة إلا دل الشارع عليها، ولا تكاد تجد مضرة إلا نهى الشارع عنها وحذر منها، وقد جعل الله - تعالى -هذه الشريعة كاملة: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا".
يقول أبو ذر -رضي الله عنه- ما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وطائر يطير بجناحيه إلا وذكر لنا منه علما، وفي حديث سلمان -رضي الله عنه- في صحيح مسلم، قال أحد اليهود لسلمان: علمكم نبيكم كل شيء حتى هذا يعني آداب قضاء الحاجة، قال سلمان: نعم، ثم ذكر شيئا من الآداب التي علم النبي - صلى الله عليه وسلم - علمهم بها عند قضاء الحاجة، فيتعجب هذا اليهودي يقول: علمكم نبيكم كل شيء حتى هذا.
وهذه الشريعة الكاملة التي استوعبت جميع ما يحتاج إليه البشر، قد تكفل الله - تعالى -بحفظها، تكفل الله - تعالى -بحفظ القرآن: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" ونحن نقرأ كتاب الله - تعالى -الذي نزل منذ أربعة عشر قرنا، ولم يتغير فيه حرف واحد فقط، وهذا من آيات الله - تعالى -لأن الله - تعالى -قد تكفل بحفظه، بينما الكتب الأخرى في التوراة والإنجيل فقد أوكل حفظها للبشر بما استحفظوا من كتاب الله فلم يحفظوها.
أما القرآن فقد تكفل الله - تعالى -بحفظه، وحفظ القرآن يتضمن حفظ السنة كما قال أهل العلم، حفظ القرآن يتضمن حفظ السنة، أشار إلى ذلك الشاطبي في الموافقات، وعلل ذلك بأنها يعني السنة بيان للقرآن: "وَأَنْزَلنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ" وحفظ المبين يقتضي حفظ البيان لأنه لازم له.
أيضا تكفل الله - تعالى -بحفظ مجموع أفراد الأمة، بحفظ مجموع أفراد الأمة، فلا تجتمع هذه الأمة على ضلالة، هذه الأمة معصومة من الاجتماع على ضلالة، ولا تزال طائفة منها على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله - تعالى -.
ولهذا قال أهل العلم إنه لا يمكن أن يخلو زمان من قائل بالحق، لا يمكن أن يخلو زمان من قائل بالحق يعني إذا نزلت نازلة فلا يمكن أن يطبق جميع العلماء على غير الحق، لا بد من قائل بالحق، لكن من هو القائل بالحق هذا هو الذي يحتاج يعني من طالب علم أن يتحرى ويجتهد في معرفة هذا الحق، لكن لا يمكن أن يخفى الحق على جميع علماء الأمة، لا بد من قائل بالحق، لأن هذا من لوازم حفظ مجموع أفراد هذه الأمة، هذه الأمة لا يمكن أن تجتمع على ضلالة، لا يمكن أن يخفى الحق على جميع علماء هذه الأمة، ويضل جميع علماء هذه الأمة عن الحق، فلا بد من قائل بالحق.
وقد اقتضت حكمة الله - تعالى -أن يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، فإن قلت كيف تكون الشريعة شاملة وكاملة مع وجود نوازل لا نص فيها، مع وجود نوازل لا نص فيها؟
أقول في الجواب عن هذا أجاب الشاطبي في الاعتصام، بأن المراد بالكمال في قول الله - تعالى -: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ" إكمال الكليات، إكمال الكليات، فلم يبق قاعدة يحتاج إليها إلا وبينت.
وقد فهم الصحابة - رضي الله عنهم - هذا المعنى فردوا الجزئيات إلى الكليات، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مكث في البعثة والرسالة ثلاثا وعشرين سنة فقط، مكث ثلاثا وعشرين سنة بعث وعمره أربعون وتوفي وعمره ثلاث وستون، مكث فقط ثلاثا وعشرين سنة، ومع ذلك بين للأمة جميع ما تحتاج إليه.
وكما قال الشاطبي المقصود بيان الكليات والقواعد التي تحتاج إليها الأمة، والعلماء والفقهاء في كل عصر يردون الجزئيات إلى هذه القواعد وإلى هذه الكليات، وهذا ملحظ مهم سوف نشير إليه إن شاء الله عند دراسة بعض النوازل.
ثم نأتي لتعريف فقه النوازل، نبدأ أولا بتعريف الفقه
فالفقه معناه في لغة العرب: الفهم: "وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي" يعني يفهموا قولي، فمادة الفقه في لغة العرب تدور حول معنى الفهم: "فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُون يَفْقَهُونَ حَدِيثًا يعني يفهمون حديثا". ومعناه شرعا: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية، العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية.
والفقه من أشرف العلوم وأنفعها لطالب العلم، وهو العلم الذي يحتاج الناس إليه في حياتهم العملية، وأضرب لهذا مثلا، لو أنك استمعت إلى أي برنامج إفتاء، انظر إلى أسئلة الناس ستجد أن ما لا يقل عن تسعين في المائة منها أو أكثر فقهية، وهذا لا يقلل من شأن العلوم الأخرى، لكن علم العقيدة والفقه هما أهم علمين يحتاج لهما طالب العلم، وبقية العلوم قد يحتاج الإنسان إليها بقدر معين، بقدر معين، لكن الفقه إذا ضبطه الإنسان فإنه ينتفع وينفع.
ولا بد من ربط الفقه عند دراسته بالحديث، ولا يمكن لطالب العلم أن يحقق المسائل الفقهية، وليس له عناية بالحديث، فمن أنفع الطرق ربط الفقه بالحديث، فلا يستغني طالب العلم بالفقه عن الحديث ولا بالحديث عن الفقه، ولكن من أنفع الطرق التي رأيتها للتفقه هو أن ينطلق طالب العلم من كتب الفقه ويرتبط بالحديث، فمثلا يعني يأخذ هذا الباب لو قلنا باب المعاملات يأخذ كل باب من كتب الفقهاء، ثم ينظر ما في هذا الباب من الأدلة يرجع مثلا للصحيحين يرجع للبلوغ، يرجع لكتب الحديث، ويربطها بهذه المسائل الفقهية.
أما لو عكس انطلق من كتب الحديث، ولم يكن له عناية بكتب الفقه، فتفوته مسائل كثيرة مبناها على النظر، لأن هناك بعض الأبواب قد لا تجد فيه إلا حديثا واحدا، وربما بعضها ليس فيها ولا حديث، لو أخذت مثلا باب الشركة في كتب الفقه فيها مسائل كثيرة جدا، بينما كتب الحديث قد لا تجد فيها إلا حديثا واحدا أو حديثين، فمن اقتصر على كتب الحديث وأهمل كتب الفقه يفوته علم كثير، فلا بد من الجمع بين العلمين، والانطلاق في التفقه من كتب الفقه وربطها مع كتب الحديث.
وأما النوازل فمعناها لغة: النوازل جمع نازلة وهي المصيبة الشديدة من مصائب الدهر تنزل بالناس، يقال نزلت بهم نازلة.
ولرب نازلـة يضيـق بها الفتى *** ذرعـا وعند الله منـها المخرج
ومنه القنوت في النوازل يعني في الشدائد التي تحل بالمسلمين.
والنوازل معناها اصطلاحا: الحوادث المستجدة التي تتطلب اجتهادا وبيانا للحكم الشرعي، ومن ذلك كلام الحافظ ابن عبد البر في كتابه القيم جامع بيان العلم وفضله، قال: باب اجتهاد الرأي على الأصول عند عدم النصوص في حين نزول النازلة، باب اجتهاد الرأي على الأصول عند عدم النصوص في حين نزول النازلة، وقال النووي في شرحه على مسلم: قال: وفيه اجتهاد الأئمة في النوازل وردها إلى الأصول. وابن القيم يقول في إعلام الموقعين: فصل قد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهدون في النوازل.
وإنما نقلت هذه النقولات لأن هناك من المعاصرين من قال: إن مصطلح النوازل عند الأقدمين إنه يطلق على جميع الحوادث التي تحتاج إلى فتيا، سواء كانت قديمة أو جديدة، وهذا محل نظر؛ إذ أننا بالتأمل في كتب المتقدمين نجد أنهم يطلقون النوازل على المسائل المستجدة التي تحتاج إلى بيان الحكم الشرعي فيها، تطلق النوازل على الحوادث المستجدة التي تتطلب اجتهادا وبيانا للحكم الشرعي فيها.
حكم الاجتهاد في النوازل:
الاجتهاد في النوازل فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن بقية العلماء، ويدل لذلك قول الله - تعالى -: "وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّه ُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ" وإنما كان فرض كفاية لأنه يتعلق بالعمل وليس بالعامل.
أهمية العناية بفقه النوازل:
أقول: إن فقه النوازل من العلوم المهمة التي ينبغي أن يعنى بها طالب العلم، ويلحظ أن مناهج الفقه التي يدرسها طلاب الكليات الشرعية، ومعظم الدروس في المساجد، تقتصر على الكتب التي صنفت في قرون ماضية، وهي لم تكن قديمة حين وضعها واضعوها، وفيها فائدة عظيمة بل لا يستغني عنها طالب العلم، لكنها لا تغني عن معرفة طالب العلم وعنايته بالنوازل بمعرفة الحكم الشرعي في النوازل، أما اقتصاره على تلك الكتب، وعدم عنايته بفقه النوازل، فهذا كما ذكرت في مقدمة هذا الدرس فيه خلل، ولهذا تجد أن بعض طلاب العلم ليس له عناية بهذه النوازل، ومع أن الناس محتاجون إليها، وسنبين إن شاء الله - تعالى -المنهج الصحيح لدراسة هذه النوازل ومعرفة الحكم الشرعي فيها.
وقد كان السلف على جانب كبير من العناية بالنوازل مع أنهم كانوا يكرهون التسرع في الفتيا، ويود كل واحد منهم أن يكفيه أخوه، قال ابن أبي ليلى، أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه، ولا مفتٍ إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: كل من أفتى الناس عن كل ما يسألونه إنه لمجنون، وروي مثل ذلك عن ابن مسعود، وابن عيينة كان إذا سئل عن مسائل الطلاق قال: من يحسن هذا؟! وقال عبد الله بن الإمام أحمد قال: كنت أسمع أبي يسأل عن المسائل، فيقول: لا أدري، كنت أسمعه كثيرا يسأل عن المسائل، فيقول: لا أدري، وقال سحنون بن سعيد: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما عندما يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه، وهذه المقولة: أن أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما نقلها ابن القيم في إعلام الموقعين وعلق عليها، وقال: إن الجرأة على الفتيا إما أن تكون من قلة العلم، وإما أن تكون من غزارة العلم وسعته، إما أن تكون من قلة العلم، وإما أن تكون من غزارة العلم وسعته، فإذا قل علم إنسان أفتى ما يسأل عنه بغير علم، خاصة إذا كان عنده جرأة وقلة ورع، قال وإذا اتسع علم إنسان واتسعت فتياه أيضا كان عنده سعة في الفتيا، ولهذا كان ابن عباس من أوسع الناس في الفتيا.
أقول مع كراهة السلف للتسرع في الفتيا، ومحبة كل واحد منهم أن أخاه قد كفاه، إلا أنهم كانوا يجتهدون في النوازل، بل حصل الاجتهاد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعض الصحابة، كما في قصة بني قريظة في الصحيحين، لما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة فأدركتهم صلاة العصر اختلفوا في فهم المقصود من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال بعضهم: لعل النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما قصد الحث على المسير، ولم يقصد أننا نؤخر صلاة العصر إلى أن نصل إلى بني قريظة ولو خرج الوقت، وقال آخرون: لا، بل نلتزم بظاهر كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يصلوا صلاة العصر إلا بعدما وصلوا بني قريظة، بعد خروج وقتها، قال ابن عمر ولم يعنف النبي - صلى الله عليه وسلم - أيا من الطائفتين.
لكن أي الطائفتين أفقه الطائفة الأولى أو الثانية، الأولى أفقه الذين صلوا في الوقت فهموا مقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله: لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة فلذلك هذه الطائفة الأولى أفقه، لكن الطائفة الثانية التي أخذت بظاهر النص أقرها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعنف عليها، هذا نوع اجتهاد حصل في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومن الاجتهاد في النوازل الذي حصل في عهد الصحابة الاجتهاد في الجد مع الإخوة، لأن هذه المسألة لم تقع في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما وقعت في عهد الصحابة، فاجتهدوا فيها، كان أبو بكر يقول: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان.
ومن ذلك أيضا قصة رجوع عمر من الشام لما وقع بها الطاعون، قد ذكر هذه القصة البخاري في صحيحه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس: فقال عمر: الآن هو أمام نازلة، هو الآن يسير في الطريق إلى الشام أخبر بأن الطاعون وقع بالشام، هل يسير ويذهب للشام، أو أنه يرجع للمدينة؟
فجمع عمر -رضي الله عنه- الصحابة، وكان أول ما بدأ بالمهاجرين، قال: ادع لي المهاجرين الأولين فدعاهم فاستشارهم، وأخبرهم أن الوباء قد وقع بأرض الشام، فاختلفوا، أي بعضهم قالوا: نرى أن تذهب، وبعضهم قال: نرى أن نرجع، فقال بعضهم: قد خرجنا لأمر ولا نرى أن نرجع عنه، وقال آخرون: معك بقية الناس وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء، فاختلفوا فقال عمر: ارتفعوا عني.
ثم قال: ادع لي الأنصار، قال: فدعوتهم فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم، فقال عمر: ارتفعوا عني، ثم قال لابن عباس: ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم فلم يختلف منهم عليه رجلان، قالوا: نرى أن ترجع بالناس، ولا تقدمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة، أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت إن كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليست إن رعت الخصيبة رعتها بقدر الله، وإن رعت الجدبة رعتها بقدر الله.
قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- وكان متغيبا في بعض حاجته، فقال: إن عندي في هذا علما، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا سمعتم به - يعني الطاعون - بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه قال: فحمد الله عمر، ثم انصرف.
فهذه الآن نازلة وقعت بالصحابة - رضي الله عنهم -، وقع الطاعون وهم في الطريق، وقع الطاعون بأرض الشام وهم في الطريق إليها، هل يستمرون في الذهاب ويقدمون على أرض الشام وبها الطاعون، أم أنهم يرجعون ولا يعرضون أنفسهم لهذا الوباء؟
فعمر -رضي الله عنه- أراد أن يجتهد في هذه النازلة، فانظر إلى منهج عمر -رضي الله عنه- إلى منهجه في الاجتهاد فيها حتى وفق للصواب قطعا، لأن عبد الرحمن بن عوف ذكر هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاستشار أولا المهاجرين، ثم استشار الأنصار وحصل الاختلاف، ثم استشار من كان عنده من المهاجرين الأولين من مهاجرة الفتح من مشيخة قريش فلم يختلفوا، فأخذ عمر برأيهم، ثم أخبرهم عبد الرحمن بن عوف بأن هذا الرأي الذي رآه عمر قد سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا نوع من الاجتهاد الذي حصل في زمن الصحابة - رضي الله عنهم -.
وانظر هنا إلى عمر كيف إنه لم يجتهد هو بنفسه، ويكتفي باجتهاده بل دعا الصحابة، وهذا يعني أصل للاجتهاد الجماعي الذي سوف نشير إليه، مثل هذه النوازل والقضايا الكبيرة التي تتعلق بمجموع الناس يحسن أن يكون فيها اجتهاد جماعي؛ لأن الاجتهاد الجماعي أقرب إلى التوفيق، وإلى إصابة حكم الله ورسوله من الاجتهاد الفردي.
الاجتهاد في فقه النوازل في الوقت الحاضر، في الوقت الحاضر تنزل بالمسلمين نوازل، وتستجد مسائل لم تكن معروفة من قبل، بل إننا ربما نقول: إن العصر الذي نعيش فيه هو عصر النوازل، وذلك بسبب ما يشهده العالم اليوم من ما يسمى بالتقدم التكنولوجي والثورة الصناعية الكبيرة في جميع مجالات الحياة، مما أوجد مسائل جديدة، وحوادث، ومستجدات لم تكن معروفة من قبل، ويتعين على فقهاء الأمة بيان الحكم الشرعي فيها.
والواقع أن أكبر إشكالية تواجه كثيرا من العلماء في الوقت الحاضر في مثل هذه النوازل والمسائل صعوبة تصور تلك المسائل تصورا دقيقا، فقد يكون العالم غزيرا في علمه الشرعي، ولكن ينقصه التصور الصحيح لواقع تلك النازلة، ومن هنا تبرز أهمية الاجتهاد الجماعي في تلك النوازل، إذ أنه في الاجتهاد الجماعي يستعان بأهل الاختصاص في النازلة، يستعان بأهل الاختصاص في النازلة المراد بحثها، فإن كانت النازلة طبية يستعان بالأطباء في تصوير هذه النازلة، إذا كانت متعلقة بالاقتصاد استعانوا بالاقتصاديين، إذا كانت متعلقة بالفلك يستعان بالفلكيين، إذا كانت متعلقة بأمور قانونية يستعان بالقانونيين، وهكذا.
هذا الاجتهاد الجماعي نحن قلنا إن أصله كان موجودا عند السلف كما مر معنا في قصة عمر في رجوعه من الشام لما وقع الطاعون، وكان عمر -رضي الله عنه- من منهجه أنه كلما نزلت نازلة جمع فقهاء الصحابة واستشارهم، الاجتهاد الجماعي في الوقت الحاضر يتمثل في المجامع الفقهية، والهيئات العلمية، ونشير إلى أبرز هذه المجامع والهيئات، المجامع الفقهية، هناك عدة مجامع، منها: مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي، ومجمع الفقه الإسلامي الدولي، منظمة المؤتمر الإسلامي، هناك مجمع الفقه الإسلامي في الهند، مجمع الفقه الإسلامي في السودان، مجمع الفقه الإسلامي في أوروبا.
لكن أبرز هذه المجامع مجمعان:
الأول: المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي، وهذا المجمع نفع الله - تعالى -به نفعا كثيرا، وينتقى له نخبة من فقهاء الأمة، وقد عقد دورة قبل نحو شهرين قد شاركت في أعمال هذه الدورة، ورأيت كيف ينظر للنوازل والمسائل، ولعلي يعني أفصل حول هذا المجمع نظرا لأنني قد يعني عايشت جلسات هذا المجمع وكيفية إبداء الرأي في النوازل والمسائل المستجدة، والمسائل التي يبحثها ويدرسها هذا المجمع.
جاء في نظام المجمع أن أبرز أهدافه بيان الأحكام الشرعية فيما يواجه المسلمين في أنحاء العالم من مشكلات ونوازل وقضايا مستجدة استنادا إلى مصادر التشريع المعتبرة، وقد كانت بداية تأسيسه أن أوصت به الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي في نظامها الصادر عام 1383 للهجرة، وفي عام 1384 قرر المؤتمر الثاني للأمانة تأسيس المجمع الفقهي الإسلامي، وفي عام 1385 قرر المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي تشكيل هيئة علمية من أعضاء المجلس التأسيسي للرابطة، لدراسة مشروع المجمع الفقهي الإسلامي، وكان ذلك برئاسة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله - يعني كانت بداية فكرة المجمع وقت الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - وكان على رأس الهيئة العلمية لدراسة مشروع المجمع.
وفي عام 1393 رفعت الأمانة العامة للرابطة ما توصلت إليه الهيئة المذكورة في دراستها لمشروع المجمع إلى المجلس التأسيسي للرابطة، فاتخذ المجلس قرارا جديدا بتأليف مجلس المجمع من عشرة أعضاء، وفي شهر محرم عام 1396 أصدرت الأمانة العامة للرابطة قرارها بتأسيس إدارة خاصة باسم المجمع الفقهي الإسلامي، في عام 1397 أقر المجلس التأسيسي للرابطة نظام المجمع، وتوفي ثلاثة من أعضاء المجمع العشرة قبل انعقاد الدورة الأولى، ثم زيد في عدد أعضاء المجلس إلى اثنين وعشرين عضوا من ثنتي عشرة دولة إسلامية، وعقد المجلس أول دورة، وبدأ نشاطه في شهر شعبان عام 1398.
لاحظ الآن كم بين فكرة تأسيسه وبين انعقاد أول دورة يعني كانت فكرة التأسيس 1383، انعقاد أول دورة 1397 كم بينهما من سنة، خمسة عشرة سنة تقريبا، ولكن يعني رغم أن هذه البداية أخذت وقتا إلا أنه لما انعقدت الدورة الأولى انتظمت دورات المجمع إلى وقتنا هذا، لكن بداية الأمر أخذت وقتا طويلا، حتى تبلورت الفكرة، وحتى تأسس هذا المجمع، فبدأت الدورة الأولى عام 1398 وكان رئيس المجمع الفقهي الشيخ عبد الله بن حميد - رحمه الله - وبقي رئيسا له إلى أن توفي عام 1402 للهجرة.
ثم رأسه سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - إلى أن توفي عام 1420 للهجرة، ويرأسه الآن سماحة مفتي عام المملكة الشيخ عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله -، وفي عام 1422 زيد في عدد أعضائه إلى ثلاثين عضوا، وقد عقد المجمع ثماني عشرة دورة، كانت الدورة الثامنة عشرة قبل شهرين تقريبا، وناقش فيها الكثير من القضايا والنوازل وأصدر بشأنها مائة قرار، أصدر بشأن هذه النوازل والقضايا إلى نهاية الدورة الثامنة عشرة مائة قرار، وكان يعني هي مائة وواحد لكن هذا القرار الزائد على المائة أرجئ كان عن حول اختيار جنس الجنين، وأرجئ إلى الدورة القادمة، فكانت القرارات التي أصدرها المجمع إلى هذا الوقت مائة قرار.
ويستكتب المجمع عددا من الباحثين والمختصين، ويستعين بعدد من الخبراء في النوازل المراد دراستها وبحثها، وفي الدورة الأخيرة رأيت أن المجمع استعان بعدد من الاقتصاديين وعدد من الأطباء، فكان مثلا بالنسبة للمسألة التي أشرت إليها مسألة اختيار جنس الجنين استعان بعدد من الأطباء الذين كتبوا بحوثا، ثم أتوا وأدلوا بدلوهم في المناقشات التي دارت حول هذا الموضوع وهذه النازلة.
ومن هنا يتبين أهمية هذه المجامع والهيئات العلمية، لأنه يؤتى بالمختصين في النوازل المراد دراستها وبحثها ويستمع لهم، وتحصل مناقشات ومداولات حتى تتضح المسألة للفقيه ويتصورها تصورا كاملا، ثم يبدأ النقاش بين الفقهاء في التكييف الفقهي لتلك النازلة، ثم يصدر في هذه النازلة قرار إن كان هناك خلاف يكون هناك تصويت بالأغلبية، ثم يصدر قرار في تلك النازلة، وتنعقد دورات المجمع كل سنتين.
المجمع الثاني: مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي، والدولي هذه أضيفت مؤخرا كان يطلق عليه في السابق مجمع الفقه الإسلامي لمنظمة المؤتمر الإسلامي، لكن في الآونة الأخيرة أضيفت كلمة الدولي، وبدأ تأسيسه بقرار من مؤتمر القمة الإسلامي الثالث، المنعقد في مكة المكرمة في التاسع عشر إلى الثاني والعشرين من ربيع الأول عام 1401 للهجرة، وكان من توصيات المؤتمر تأسيس مجمع فقهي إسلامي، وانعقد المؤتمر التأسيسي للمجمع في السادس والعشرين من شهر شعبان عام 1403 للهجرة وانتخب الشيخ محمد بن جبير - رحمه الله - رئيسا له، والمقر الرسمي للمجمع هو جدة، ولكن تنعقد دورات المجمع في عدد من الدول، تتنقل دورات المجمع وتنعقد في عدد من الدول، لكن المقر الرئيسي له هو مدينة جدة، وهو كمجمع الرابطة يستعين بعدد من الخبراء والمختصين.
ثم انعقدت الدورة الثانية عام 1406 ورأس المجمع الشيخ بكر أبو زيد - رحمه الله -، وسوف ينتخب في الدورة التي ستعقد قريبا، سينتخب رئيسٌ جديدٌ للمجمع، هذا المجمع أصدر عددا من القرارات، وله مجلة ضخمة تقع في أكثر من أربعين مجلدا تباع في المكتبات، ودون في هذه المجلة جميع مناقشات الأعضاء، وجميع البحوث المطروحة في المجمع، ويمكن أن يستفيد منها طالب العلم.
أبرز الهيئات العلمية المعنية بفقه النوازل:
هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، وقد صدر الأمر الملكي بإنشائها في الثامن من شهر رجب عام 1391 للهجرة، ويتفرع عنها لجنة دائمة يختار أعضائها من أعضاء هيئة كبار العلماء، وينعقد مجلس هيئة كبار العلماء كل ستة أشهر، ويبحث النوازل والمسائل والقضايا المستجدة، وقد نشرت بعض بحوث الهيئة وقراراتها. ونكتفي بهذا القدر بالنسبة للهيئات والمجامع العلمية، لكن ما ذكرت هو أبرز الهيئات والمجامع التي تعنى بدراسة فقه النوازل.
أنتقل بعد ذلك إلى المناهج المعاصرة في النظر في النوازل، هناك ثلاثة مناهج في النظر في النوازل والمسائل المستجدة:
المنهج الأول: منهج التضييق والتشديد، وهذا المنهج منهجٌ غير سديد، ولا يتوافق مع هذه الشريعة السمحة التي رفع الله - تعالى -فيها الحرج عن المكلفين "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا" ولكن تجد بعض المفتين يسلك هذا المسلك، فعندما يسأل عن مسألة من المسائل المعاصرة والمستجدة يفتي بالتحريم في أكثر أجوبته، وكما يقول سفيان: التشديد كلٌّ يحسنه، وإنما العلم الرخص عن الثقات، من السهل على الإنسان أن يقول هذا حرام، ولكن إذا قال هذا حرام أو هذا حلال هذا قول على الله - تعالى -: "وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ".
فهذا المنهج إذا منهجٌ غير سليم، يقابله
المنهج الثاني، وهو منهج التساهل، منهج التساهل والانحلال كما يعبر عن ذلك الشاطبي التساهل والانحلال، والتوسع الزائد. وهذا نلحظه مع الأسف في بعض المفتين، تجد بعض المفتين يتساهل تساهلا كبيرا في كثير من المسائل وأمور الفتيا.
حتى إنه في بعض البنوك يمارس الربا باسم الهيئات الشرعية، ويسمون الربا بغير اسمه، يسمى الربا بدل غرامة تأخير، إذا ماطل المدين يحسبون عليه غرامة يسمونها غرامة تأخير، يقولون هذا بدل عن غرامة التأخير عن مماطلة المدين، وهذا هو ربا الجاهلية بعينه، هذا هو ربا الجاهلية بعينه، فإن ربا الجاهلية عندما يحل الدين يأتي الدائن المدين ويقول: إما أن تقضي وإما أن تربي، فإن قضى وإلا أخره نظير الزيادة عليه، وهذا يمارس في بعض البنوك باسم بعض الهيئات الشرعية، ويعتبرونه بدلا عن ضرر المماطلة، ولكنه في الحقيقة هو من الربا.
أو ما يمارس أيضا في بعض البنوك باسم رسوم إدارية، وهي في الحقيقة فوائد ربوية، يسمونها رسوما إدارية، وهي في الحقيقة فوائد ربوية، كالرسوم الشهرية التي تؤخذ على بعض البطاقات، رسوم كبيرة يأخذون من العميل مائة وخمسين ريالا، أو مائتي ريال كل شهر، ويسمونها رسوما إدارية.
وهذه في الحقيقة من الربا الصريح، وإن سمي رسوما إدارية، ولكن يعني مع الأسف يمارس هذا باسم الهيئات الشرعية، هذا مثال للتساهل في الفتيا، وهذا أيضا منهجٌ غير سديد، كما أن التشدد في الفتيا التشدد والتضييق منهجٌ غير سديد، فكذلك أيضا التساهل في الفتيا منهجٌ غير سديد.
المنهج الثالث: الاعتدال فلا تشديد ولا تساهل، الاعتدال فلا تشديد ولا تساهل، مع النظر في الأصول والقواعد الشرعية، والنظر كذلك في مقاصد الشريعة، قال الشاطبي - رحمه الله - المفتي البالغ ذروة الاجتهاد هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال، قال: والدليل على صحة هذا أن هذا هو الصراط المستقيم، فإن الصراط المستقيم وسط بين طرفين، فإن هذا هو الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة.
فإن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، قال: أما طرف التشديد فإنه مهلكة، وأما طرف الانحلال فكذلك، لأن المستفتي إذا ذهب به مذهب العنت والحرج بغض إليه الدين، وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة وهو مشاهد، وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال كان مظنة للمشي على الهوى والشهوة، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى واتباع الهوى مهلك إلى آخر ما قال.
فالشاطبي - رحمه الله - ينصر هذا المنهج، يقول: إنه هو الطريق المستقيم، الاعتدال، فلا تشدد ولا تساهل، ولكن هذا المنهج هو وإن كان هو المنهج السديد إلا أن العلماء أجازوا للمفتي أن يتشدد في الفتيا على سبيل السياسة، على سبيل السياسة لمن هو مقدم على المعاصي متساهل فيها، فإذا رأى المفتي شخصا متساهلا في هذه المعاصي فهنا يسلك معه مسلك التشديد، وكذلك أن يبحث عن التيسير والتسهيل على ما تقتضيه الأدلة لمن هو مشدد على نفسه أو على غيره، ليكون مآل الفتوى أن يعود المستفتي إلى الطريق الوسط.
إذا عرفنا أن المنهج السديد في دراسة النوازل هو أن يسلك طالب العلم مسلك الاعتدال، فلا تشديد ولا تساهل وانحلال، هذا هو المنهج السديد في دراسة النوازل، وأحسب أن هذا المنهج هو الذي تسلكه المجامع الفقهية والهيئات العلمية، فإنها تضم نخبة من الفقهاء، وهم يسلكون هذا المسلك مسلك الاعتدال فلا تشديد على الناس، ولا أيضا تساهل وانحلال في الفتيا.
وهناك أمر مهم ينبغي التنبه له عند دراسة النوازل، وهو النظر إلى مقاصد الشريعة، وهو ملحظ مهم جدا، لا بد من النظر إلى مقاصد الشريعة، فعندما تكون النازلة مثلا متعلقة بأمرٍ متعلق بالربا، فننظر إلى مقصد الشريعة، نجد أن الشريعة فيما يتعلق بالربا شددت فيه تشديدا عظيما، حتى إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن آكل الربا ومؤكله، وكاتبه وشاهديه، وقد أذن الله - تعالى -آكل الربا بالحرب حتى إن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن بيع الرطب بالتمر، كما في حديث سعد بن أبي وقاص عند أصحاب السنن، سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال - عليه الصلاة والسلام -: أينقص الرطب إذا يبس؟ قالوا: نعم، قال: فلا إذن يعني إذا أردت أن تبيع كيلو تمر بكيلو رطب مع التقابض لا يجوز، لماذا؟ لأن هذا الرطب سوف ينقص إذا يبس مع أن الفارق يسير جدا، ومع ذلك منع منه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحرم النبي - صلى الله عليه وسلم - بيع العينة لأنه ذريعة للربا، وسدت الذرائع الموصلة للربا، فنجد أنه في باب الربا شددت الشريعة فيه، فننظر إلى هذا المقصد ونشدد فيما كان متعلقا بأمر الربا.
لكن لو مثلا يعني نظرنا إلى المسائل التي يلحق الناس فيها حرج ومشقة مثل مسائل مثلا الرمي في الحج يلحق الناس حرج كبير ومشقة، وهنا يسلك مسلك التيسير على الناس، لأن هذا مقصد شرعي، وما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء قدم ولا أخر يوم النحر إلا قال: افعل ولا حرج، ولهذا أجاز العلماء في الوقت الحاضر الرمي بالليل، ومع أن هذا لم يكن موجودا من قبل، لكن اعتبروا أن هذه نازلة، لما كثر الناس وكثر الحجاج، وأصبحوا بالملايين، يعني فاقوا المليون، وهنا نظر الفقهاء في هذا، ونظروا إلى المقاصد الشرعية، وأفتى عامة العلماء في الوقت الحاضر بجواز الرمي ليلا، فإذا لا بد من العناية بالنظر إلى مقاصد الشريعة فيما يتعلق بدراسة النوازل.
مدارك الحكم على النوازل
قال ابن القيم - رحمه الله - لا يتمكن المفتي ولا الحاكم بالحق إلا بنوعين من الفهم، لا يتمكن المفتي ولا الحاكم بالحق إلا بنوعين من الفهم، الأول: فهم الواقع والفقه فيه، الثاني: فهم حكم الله ورسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، نعم قال ابن القيم: إنه لا يتمكن المفتي ولا الحاكم بالحق إلا بنوعين من الفهم، الأول: فهم الواقع والفقه فيه، الثاني: فهم حكم الله ورسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر.
فلا بد إذا من هذين الفهمين، فلا بد عند النظر للنوازل:
أولا: التصور الصحيح والدقيق للمسألة، وهذا له أثر في الحكم على تلك النازلة، وكما ذكرت إن هذا التصور ربما يكون يشكل على بعض العلماء المعاصرين بسبب تعقد بعض المسائل وتشابكها وتداخلها، ومن هنا فنحن نحتاج إلى الاجتهاد الجماعي عند دراسة النوازل، وذلك حتى يستعان بالمختصين في تلك المسائل وفي تلك النوازل، وحتى لو لم يعني يكن هناك اجتهاد جماعي في بعض المسائل، فلا بد أن يسأل الدارس لتلك النازلة يسأل المختصين عنها حتى يتصورها تصورا صحيحا، وهذا إن شاء الله - تعالى -سيأتي له أمثلة عند دراسة بعض النوازل.
الأمر الثاني: التكييف الفقهي للنازلة، وذلك بأن تصنف النازلة وترد إلى أصل من الأصول الشرعية، تصنف النازلة وترد إلى أصل من الأصول الشرعية، فيعرف ما هو التكييف الفقهي لها، يعني على سبيل المثال ودائع البنوك ما التكييف الفقهي لها؟! هل هي فعلا وديعة كما تسمى؟ فعندما ننظر إلى هذه الوديعة ننظر أنها في التكييف الفقهي لها في قول أكثر العلماء المعاصرين أنها قرض وليست وديعة، لأن الإنسان عندما يعطي البنك هذا المبلغ يتصرف المصرف أو البنك في هذا المبلغ، ويضمنه بكل حال حتى لو تلف من غير تعد ولا تفريط، وهذا من شأن القرض وليس من شأن الوديعة، ولهذا فإن ما يسمى بودائع البنوك عندما تكيف تكييفا فقهيا فإنها قرض وليست وديعة، والعلاقة بين العميل والبنك هي علاقة مقرض بمقترض.
الأمر الثالث: تطبيق الحكم على النازلة، تطبيق الحكم على النازلة التطبيق الصحيح، التطبيق الصحيح، وهذا أمر في غاية الأهمية، أضرب لهذا مثالا ما يسمى بالشركات المساهمة المختلطة، اختلف فيها العلماء على قولين: سبق أن تكلمنا في الدورة الماضية عن تفاصيل هذا الخلاف، وأقوال العلماء، وأدلتهم فيها، لكن أشير هنا باختصار أقول: إن من أجاز الدخول في الشركات المختلطة، أو بعض من أجاز الدخول في الشركات المختلطة استدلوا بقواعد فقهية صحيحة، لكنها لا تنطبق على هذه المسألة.
ومن ذلك مثلا قالوا: إذا اختلط المال الحلال بالحرام غلب جانب الحلال، هذه قاعدة صحيحة، لكنها لا تنطبق على هذه المسألة، لأن من يدخل في الشركات المختلطة ويساهم فيها هو في الحقيقة يملك جزءا من هذه الشركة فتنسب له أعمال الشركة، ومنها التعاملات المحرمة، فهذه قواعد صحيحة يستدلون بها، وهي قواعد فقهية صحيحة، ومقررة عند العلماء، لكنها لا تنطبق على هذه المسألة، فلا بد أيضا عند دراسة النوازل تطبيق الحكم على النازلة التطبيق الصحيح.
تختلف الفتوى في مسألة معينة عن القواعد التي تكون، أو تراعى عند دراسة النوازل، الفتوى في مسألة معينة يراعى فيها حال المستفتي، وحال الزمان، وحال المكان، فلو أتى مثلا مستفتٍ عنده شيء من الوسوسة في الطهارة، أو في أمر معين، فينبغي أن يراعي المفتي حال هذا الإنسان، ولا يفتي هذا الإنسان الذي عنده وسوسة كغيره، وكذلك لو أتى إنسان عنده شيء من التساهل فيراعي حاله، ولكن عندما يقرر حكم شرعي في نازلة فإنها تراعى القواعد التي ذكرها العلماء في دراسة النوازل.
من المزالق عند دراسة النوازل:
أولا: تقسيم النازلة إلى أجزائها، تفكيك النازلة وتقسيمها إلى أجزاء، ومن ذلك على سبيل المثال، التورق المنظم الذي يجري في البنوك، فصورة التورق المنظم أن يأتي الإنسان إلى البنك يريد منه سيولة، فيقول البنك: أنا عندي حديد أو معادن أو غير ذلك من السلع، وأبيعها عليك بالتقسيط، ثم توكلني في بيعها على طرف ثالث، وبعد ساعة أو أقل أو أكثر ينزل في رصيدك ما تريد من السيولة النقدية.
هذه الصورة بعض العلماء أجازها؛ لأنه نظر إلى هذه الصورة، وهذه المسألة مفككة نظر للتورق قال: التورق جائز، التوكيل البنكي التوكيل جائز، فهذه وكالة وتورق، وقال بالجواز، لكن لا يصح هذا النظر بهذه الطريقة، بل لا بد أن ننظر إلى صورة المسألة كلية، فننظر إلى أن هذه في الحقيقة هي حيلة على الربا، فالتورق القول الصحيح أنه يجوز، لكن التورق الذي يمارس بهذه الطريقة لا يجوز؛ لأن ترتيب المسألة بهذه الطريقة أخرجها من دائرة الجواز إلى دائرة الحظر، فأصبحت المسألة ما هي إلا حيلة على الربا مجرد أن هذا العميل يعبأ له أوراق، ينزل في رصيده ما أراد من السيولة النقدية، فيعطيه البنك ما أراد من السيولة النقدية، ويثبت في ذمته مبلغا أكثر منه بإجراءات بسيطة بمجرد تعبئة هذه الأوراق ويتولى البنك، كما أنه يبيع عليه هذه السلعة يتولى بيعها على طرف ثالث، هذه النظرة غير صحيحة، وغير مستقيمة، تفكيك المسألة بهذه الطريقة غير مستقيم، فهذا من المزالق في دراسة النوازل.
ومن ذلك أيضا التأثر بضغط الواقع، التأثر بضغط الواقع، فيتأثر بعض الناس عندما يدرس نازلة من النوازل بضغط الواقع، فيفتي بالجواز مثلا في هذه المسألة بسبب ضغط الواقع، وهذا منهج غير سديد، بل ينبغي أن يبين حكم الله ورسوله، سواء وافق هوى الناس أو خالف هوى الناس، بل ينبغي أن يخضع واقع الناس لحكم الله ورسوله، ولو كان هذا الحكم فيه شدة، فشرع الله - تعالى -لا يخضع لأهواء الناس، بل ينبغي أن تخضع أهواء الناس لشرع الله - تعالى -.
ولهذا في الشركات المختلطة لما تأثر بعض الناس بضغط الواقع، يمكن كان قبل سنوات لا يكاد يوجد شركة مساهمة تخلو من التعاملات الربوية، فقال بعض الناس كيف نحرم الأمة من هذه الشركات إذا كان هذا هو واقع الشركات في العالم الإسلامي، فكيف نحرم الأمة من هذه الشركات، فتأثروا بضغط الواقع وأفتوا بالجواز، بجواز الدخول في هذه الشركات مع التطهير.
والواقع أننا نقول: إذا كانت هذه الشركات متورطة في الربا، فنقول: الدخول فيها حرام، ولو حرمنا الدخول في جميع الشركات، إذا كانت متورطة في الربا، فالدخول فيها حرام، فلماذا نتأثر بضغط الواقع؟! ينبغي لطالب العلم أن ينظر إلى المسألة بغض النظر عن ضغط الواقع، فلا يؤثر ضغط الواقع عليه لكي يفتي بحكم معين، بل ينبغي أن يجتهد في معرفة حكم الله ورسوله، سواء وافق هوى الناس أو لم يوافق هوى الناس.
وأما المنهج الذي نسير عليه إن شاء الله - تعالى -في هذه السلسلة من الدروس فنذكر النازلة ونصورها أولا تصويرا دقيقا حتى يتضح المقصود بها، ثم نبين آراء العلماء المعاصرين فيها، ونذكر أدلتهم، ونناقش تلك الأدلة، ونبين القول الراجح فيها، وننقل آراء المجامع الفقهية والهيئات العلمية في تلك النازلة إن وجد فيها شيء من ذلك، على أننا لن نذكر إن شاء الله - تعالى -في هذه الدروس نازلة إلا وقد سبق أن تكلم فيها أحد العلماء، أو أنه صدر فيها قرار مجمع فقهي أو من هيئة علمية، فلن أتكلم في مسألة لم أسبق إليها؛ لأنني أرى أيضا أن هذا من المنهج السديد عدم التسرع في الحكم على النوازل، عدم التسرع في الحكم على النوازل، لأن هذه النوازل تحتاج إلى تأنٍ وإلى تقليب النظر، وإلى مناقشة، وحتى يتجلى ويتضح الحكم الشرعي فيها.
وسوف نذكر إن شاء الله - تعالى -أبرز النوازل التي يحتاج إليها الناس في واقعهم سوف نبدأ اعتبارا من الدرس القادم إن شاء الله - تعالى -بذكر النازلة الأولى، ثم نسير على هذا النهج لنكون مع نهاية هذه السلسلة من الدروس، قد ذكرنا عددا من النوازل التي يحتاج إليها الناس في واقعهم، وأسأل الله - عز وجل - أن يرزقنا العلم النافع، ويوفقنا للعمل الصالح، ويوفقنا لما يحبه ويرضاه وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.