فصل
ويبقى النظر في مسألة لها تعلق بهذا الموضع ، وهي مسألة هبة الثواب ، وفيها نظر .
[ ص: 401 ] فللمانع أن يمنع ذلك من وجهين :
أحدهما : أن الهبة إنما صحت في الشريعة في شيء مخصوص ، وهو المال ، وأما في ثواب الأعمال ; فلا ، وإذا لم يكن لها دليل ; فلا يصح القول بها .
والثاني : أن الثواب والعقاب من جهة وضع الشارع كالمسببات بالنسبة إلى الأسباب ، وقد نطق بذلك القرآن ; كقوله تعالى : تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات [ النساء : 13 ] .
ثم قال : ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين [ النساء : 14 ] ، وقوله : جزاء بما كانوا يعملون [ الأحقاف : 14 ] .
[ ص: 402 ] ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون [ النحل : 32 ] .
وهو كثير .
وهذا أيضا كالتوابع بالنسبة إلى المتبوعات ; كاستباحة الانتفاع بالمبيع مع عقد البيع ، واستباحة البضع مع عقد النكاح ; فلا خيرة للمكلف فيه ، هذا مع أنه مجرد تفضل من الله تعالى على العامل ، وإذا كان كذلك ; اقتضى أن الثواب والعقاب ليس للعامل فيه نظر ولا اختيار ، ولا في يده منه شيء ، فإذا لا يصح فيه تصرف ; لأن التصرف من توابع الملك الاختياري ، وليس في الجزاء ذلك ; فلا يصح للعامل تصرف فيما لا يملك ، كما لا يصح لغيره .
وللمجيز أن يستدل أيضا من وجهين :
أحدهما : أن أدلته من الشرع هي الأدلة على جواز الهبة في الأموال وتوابعها ; إما أن تدخل تحت عمومها أو إطلاقها ، وإما بالقياس عليها ; لأن كل واحد من المال والثواب عوض مقدر ، فكما جاز في أحدهما جاز في الآخر ، وقد تقدم في الصدقة عن الغير أنها هبة الثواب ، لا يصح فيها غير ذلك ، فإذا كان كذلك ; صح وجود الدليل ، فلم يبق للمنع وجه .
والثاني : أن كون الجزاء مع الأعمال كالمسببات مع الأسباب ، وكالتوابع مع المتبوعات ، يقضي بصحة الملك لهذا العامل ; كما يصح في الأمور الدنيوية ، وإذا ثبت الملك صح التصرف بالهبة .
لا يقال : إن الثواب لا يملك كما يملك المال ; لأنه إما أن يكون في الدار [ ص: 403 ] الآخرة فقط ، وهو النعيم الحاصل هنالك والآن لم يملك منه شيئا ، وإما أن يملك هنا منه شيئا حسبما اقتضاه قوله تعالى : من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة [ النحل : 97 ] الآية ; فذلك بمعنى الجزاء في الآخرة ، أي أنه ينال في الدنيا طيب عيش من غير كدر مؤثر في طيب عيشه ، كما ينال في الآخرة أيضا النعيم الدائم ، فليس له أمر يملكه الآن حتى تصح هبته ، وإنما ذلك في الأموال التي يصح حوزها وملكها الآن .
لأنا نقول : هو وإن لم يملك نفس الجزاء ; فقد كتب له في غالب الظن عند الله تعالى ، واستقر له ملكا بالتمليك ، وإن لم يحزه الآن ، ولا يلزم من الملك الحوز ، وإذا صح مثل هذا في المال ، وصح التصرف فيه بالهبة وغيرها ; صح فيما نحن فيه ; فقد يقول القائل : ما ورثته من فلان فقد وهبته لفلان ، ويقول : إن اشترى لي وكيلي عبدا ، فهو حر أو هبة لأخي ، وما أشبه ذلك وإن لم يحصل شيء من ذلك ، في حوزه وكما يصح هذا التصرف فيما بيد الوكيل فعله ، وإن لم يعلم به الموكل ، فضلا عن أن يحوزه من يد الوكيل ; يصح أيضا التصرف بمثله فيما هو بيد الله الذي هو على كل شيء وكيل ; فقد وضح إذا مغزى النظر في هبة الثواب ، والله الموفق للصواب .
[ ص: 404 ] المسألة الثامنة
من مقصود الشارع في الأعمال دوام المكلف عليها ، والدليل على ذلك واضح ؛ كقوله تعالى : إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون [ المعارج : 22 - 23 ] .
وقوله : يقيمون الصلاة [ البقرة : 3 ] .
وإقام الصلاة بمعنى الدوام عليها بهذا فسرت الإقامة حيث ذكرت مضافة إلى الصلاة ، وجاء هذا كله في معرض المدح ، وهو دليل على قصد الشارع إليه ، وجاء الأمر به صريحا في مواضع كثيرة ; كقوله : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [ البقرة : 83 ] .
وفي الحديث : أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل .
وقال : خذوا من العمل ما تطيقون ; فإن الله لن يمل حتى تملوا .
[ ص: 405 ] وكان عليه الصلاة والسلام إذا عمل عملا أثبته ، وكان عمله ديمة .
وأيضا ; فإن في توقيت الشارع وظائف العبادات ; من مفروضات ومسنونات ، ومستحبات في أوقات معلومة الأسباب ظاهرة ولغير أسباب ; ما يكفي في حصول القطع بقصد الشارع إلى إدامة الأعمال ، وقد قيل في قوله تعالى في الذين ترهبوا : فما رعوها حق رعايتها [ الحديد : 27 ] ، إن عدم مراعاتهم لها هو تركها بعد الدخول فيها والاستمرار .
فصل
فمن هنا يؤخذ حكم ما ألزمه الصوفية أنفسهم من الأوراد في الأوقات ، وأمروا بالمحافظة عليها بإطلاق ، لكنهم قاموا بأمور لا يقوم بها غيرهم ; فالمكلف إذا أراد الدخول في عمل غير واجب ، فمن حقه أن لا ينظر إلى سهولة الدخول فيه ابتداء حتى ينظر في مآله فيه ، وهل يقدر على الوفاء به طول عمره أم لا ؟ فإن المشقة التي تدخل على المكلف من وجهين :
أحدهما : من جهة شدة التكليف في نفسه ، بكثرته أو ثقله في نفسه .
والثاني : من جهة المداومة عليه وإن كان في نفسه خفيفا .
وحسبك من ذلك الصلاة ; فإنها من جهة حقيقتها خفيفة ، فإذا انضم إليها معنى المداومة ثقلت ، والشاهد لذلك قوله تعالى : [ ص: 406 ] واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين [ البقرة : 45 ] ; فجعلها كبيرة حتى قرن بها الأمر بالصبر ، واستثني الخاشعين فلم تكن عليهم كبيرة ; لأجل ما وصفهم به من الخوف الذي هو سائق ، والرجاء الذي هو حاد ، وذلك ما تضمنه قوله : الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم [ البقرة : 46 ] الآية ، فإن الخوف والرجاء يسهلان الصعب ، فإن الخائف من الأسد يسهل عليه تعب الفرار ، والراجي لنيل مرغوبه يقصر عليه الطويل من المسافة ، ولأجل الدخول في الفعل على قصد الاستمرار وضعت التكاليف على التوسط وأسقط الحرج ، ونهي عن التشديد ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : إن هذا الدين متين ; فأوغل فيه برفق ، ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله ; فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ، وقال : من يشاد هذا الدين يغلبه ، وهذا يشمل التشديد بالدوام ، كما يشمل التشديد بأنفس الأعمال ، والأدلة على هذا المعنى كثيرة .
المسألة التاسعة
الشريعة بحسب المكلفين كلية عامة ، بمعنى أنه لا يختص بالخطاب بحكم من أحكامها الطلبية بعض دون بعض ، ولا يحاشى من الدخول تحت أحكامها مكلف البتة ، والدليل على ذلك - مع أنه واضح - أمور :
أحدها : النصوص المتضافرة ; كقوله تعالى : وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا [ سبأ : 28 ] .
وقوله : قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا [ الأعراف : 158 ] .
وقوله عليه الصلاة والسلام : بعثت إلى الأحمر والأسود .
[ ص: 408 ] وأشباه هذه النصوص مما يدل على أن البعثة عامة لا خاصة ، ولو كان بعض الناس مختصا بما لم يخص به غيره ; لم يكن مرسلا للناس جميعا ; إذ يصدق على من لم يكلف بذلك الحكم الخاص أنه لم يرسل إليه به ; فلا يكون مرسلا بذلك الحكم الخاص إلى الناس جميعا ، وذلك باطل ، فما أدى إليه مثله بخلاف الصبيان والمجانين ونحوهم ممن ليس بمكلف ، فإنه لم يرسل إليه بإطلاق ، ولا هو داخل تحت الناس المذكورين في القرآن ، فلا اعتراض به ، وما تعلق بأفعالهم من الأحكام المنسوبة إلى خطاب الوضع ; فظاهر الأمر فيه .
والثاني : أن الأحكام إذا كانت موضوعة لمصالح العباد ; فالعباد بالنسبة إلى ما تقتضيه من المصالح مرآة ، فلو وضعت على الخصوص ; لم تكن موضوعة لمصالح العباد بإطلاق ، لكنها كذلك حسبما تقدم في موضعه ; فثبت أن أحكامها على العموم لا على الخصوص ، وإنما يستثنى من هذا ما كان اختصاصا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ; كقوله : وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي ، إلى قوله : خالصة لك من دون المؤمنين [ الأحزاب : 50 ] .
[ ص: 409 ] وقوله : ترجي من تشاء منهن [ الأحزاب : 51 ] الآية .
وما أشبه ذلك مما ثبت فيه الاختصاص به بالدليل ، ويرجع إلى هذا ما خص هو به بعض أصحابه كشهادة خزيمة ; فإنه راجع إليه عليه الصلاة والسلام أو غير راجع إليه ; كاختصاص أبي بردة بن نيار بالتضحية بالعناق [ ص: 410 ] الجذعة ، وخصه بذلك بقوله : ولن تجزئ عن أحد بعدك ; فهذا لا نظر فيه ، إذ هو راجع إلى جهة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولأجله وقع النص على الاختصاص في مواضعه إعلاما بأن الأحكام الشرعية خارجة عن قانون الاختصاص .
والثالث : إجماع العلماء المتقدمين على ذلك من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، ولذلك صيروا أفعال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة للجميع في أمثالها ، وحاولوا فيما وقع من الأحكام على قضايا معينة وليس لها صيغ عامة أن تجري على العموم ; إما بالقياس ، أو بالرد إلى الصيغة أن تجري على العموم المعنوي ، أو غير ذلك من المحاولات ، بحيث لا يكون الحكم على الخصوص في النازلة الأولى مختصا به ، وقد قال تعالى : فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج الآية [ الأحزاب : 37 ] ; [ ص: 411 ] فقرر الحكم في مخصوص ليكون عاما في الناس ، وتقرر صحة الإجماع لا يحتاج إلى مزيد ، لوضوحه عند من زاول أحكام الشريعة .
والرابع : أنه لو جاز خطاب البعض ببعض الأحكام حتى يخص بالخروج عنه بعض الناس ; لجاز مثل ذلك في قواعد الإسلام أن لا يخاطب بها بعض من كملت فيه شروط التكليف بها ، وكذلك في الإيمان الذي هو رأس الأمر ، وهذا باطل ، فما لزم عنه مثله ، ولا أعني بذلك ما كان نحو الولايات وأشباهها ; من القضاء ، والإمامة ، والشهادة ، والفتيا في النوازل ، والعرافة ، والنقابة ، والكتابة ، والتعليم للعلوم وغيرها ; فإن هذه الأشياء راجعة إلى النظر في شرط التكليف بها ، وجامع الشروط في التكليف القدرة على المكلف به ; فالقادر على القيام بهذه الوظائف مكلف بها على الإطلاق والعموم ، ومن لا يقدر على ذلك سقط التكليف عنه بإطلاق ، كالأطفال والمجانين بالنسبة إلى الطهارة والصلاة ونحوها ; فالتكليف عام لا خاص ، [ ص: 412 ] [ وبسقوطه أيضا عام لا خاص ] من جهة القدرة أو عدمها لا من جهة أخرى ، بناء على منع التكليف بما لا يطاق ، وكذلك الأمر في كل ما كان موهما للخطاب الخاص ; كمراتب الإيغال في الأعمال ، ومراتب الاحتياط على الدين ، وغير ذلك .