الانشطارات في الخلافة العباسية - تقرير
أحمد الشجاع
خلافاً لما دعا إليها الإسلام وحث عليها، بل وأوجبها، ألا وهي الوحدة الإسلامية، نجد أن التاريخ الإسلامي قد شهد وقائع انفصالية في جسد الأمة، لا زالت تداعياتها السلبية قائمة إلى اليوم.
ففي فترة حرجة من تاريخ الخلافة العباسية ظهرت بادرة جديدة لم تظهر من قبل، وهي استقلال بعض الدول عن الخلافة، وانفراد أصحابها بالحكم وبمناسبة هذا الشهر الكريم الذي جاء بكل معاني الوحدة والتماسك والتكاتف والتآلف نخصص هذا التقرير للحديث عن بعض مشاهد الانقسامات في عصر الخلافة العباسية - وهي مرحلة مهمة من مراحل التاريخ الإسلامي - لمعرفة الأسباب والدوافع والتداعيات.
الدولة الطولونية
قامت الدولة الطولونية المستقلة عن الخلافة العباسية في مصر والشام والحجاز، وهي أول دولة تستقل بالحكم عن حكومة الخلافة المركزية.
وتنسب هذه إلى الدولة إلى مؤسسها أحمد بن طولون الذي كان جنديّاً تركيّاً، جاء إلى مصر نائباً للحاكم العباسي فيها، لكنه استأثر بالحكم، ثم بسط سلطانه على الشام، حين كان العباسيون مشغولين بمقاومة ثورة الزنج.
أظهر أحمد بن طولون براعة وحسن إدارة في حكمه، ومن ثَمَّ استطاع النهوض بمصر؛ إذ أخذ في بناء مؤسسات الدولة ومرافقها الأساسية، وكوَّن جيشاً وأسطولاً قويّاً للدفاع عن ملكه، وتغلب على الصعاب التي واجهته حيث كانت الفتن والثورات مشتعلة في عهده بمصر من قِبل الخوارج والعلويين وغيرهم.
بعد وفاة أحمد بن طولون خَلَفه ابنه خمارويه، الذي استطاع أن يستعيد سيطرة الطولونيين على البلاد الشامية حتى الموصل والجزيرة الفراتية، وذلك بعد قيام الخليفة العباسي بالإغارة على الشام للقضاء على الدولة الطولونية.
واستطاع أيضاً أن ينتزع من الخلافة العباسية اعترافاً له بحكم مصر - هو وأولاده - لمدة ثلاثين سنة عند عقد معاهدة صلح سنة 273هـ - 886م.
فكَّر خمارويه في تدعيم عَلاقاته مع الخلافة العباسية عن طريق المصاهرة، فعرض على الخليفة المعتضد زواج قطر الندى ابنته من ابن الخليفة العباسي، غير أن الخليفة المعتضد - وكان قد سمع عن محاسن وجمال قطر الندى - طلبها لنفسه بدلاً من ابنه.
وقد بالغ خمارويه في جهاز ابنته، وتكلف في ذلك ما يقصر دونه الوصف، وكان جهازها الذي أعدَّه أبوها أسطوريّاً بالغاً في الإسراف إلى حدٍّ يفوق الخيال.
ولم يُحسِن خمارويه الاستفادة من الأموال الجمَّة التي تركها له أبوه، فأخذ يسرف في البناء وأنواع الترف. وكان هذا الإسراف من قِبَل خمارويه سبباً في إفلاس مالية البلاد، وكانت مصر من أغنى الدول وأكثرها ثراءً.
وبعد قتل خمارويه على يد بعض جواريه، لم تستطع مصر الاحتفاظ باستقلالها الذي تعب أحمد بن طولون في تحقيق وجوده؛ إذ أصبحت مصر ميداناً للضعف والفوضى من ناحية، ومسرحاً لأحداث دامية أطاحت بوحدة الطولونيين، وعجَّلت بزوال نفوذهم، حيث استطاع الخليفة العباسي أن يعيد مصر والشام إلى نفوذ الدولة العباسية مرة أخرى.
وأخيراً فإن هذه الدولة التي ظلت مدة ثمانية وثلاثين عاماً عندما سقطت، شعر المصريون بالحزن والحسرة؛ وذلك لأن الطولونيين قد كرَّسوا معظم جهودهم للنهوض بمصر، وارتبطوا بها، وتقربوا إلى المصريين، وأحاطوهم برعايتهم، حتى إن أحد المؤرخين يذكر أن تلك الدولة كانت من "غُرَر الدول، وأيامهم من محاسن الأيام".
الدولة الحمدانية
الدولة الحمدانية هي دولة عربية قامت في الموصل وحلب، واستقلت عن الدولة العباسية في عصور ضعفها. وينتسب الحمدانيون إلى حمدان بن حمدون من قبيلة تغلب العربية الأصل التي قامت بضواحي مدينة الموصل.
وبنو تغلب ينتمون إلى آل ربيعة، وكانوا نصارى قبل الإسلام، غير أنَّا نجدهم في أواخر القرن الثالث للهجرة مسلمين. وقد كانت الحالة المادية سيئة، واضطُرَّ قسم كبير من بني تغلب إلى الهجرة، فهاجروا إلى البحرين، وبقي جزء منهم في الجزيرة وبلاد العراق، هذا القسم هو الذي قاد لواء اليقظة الفكرية والسياسية في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع، والذي ترأس هذه اليقظة هم بنو حمدان من تغلب.
كان حمدان بن حمدون عاملاً على الموصل للمعتضد بالله العباسي، ثم استقل الحمدانيون عن الدولة العباسية بقيادة ناصر الدولة الحسن في سوريا، وبقي ولاة الحمدانيين في الموصل موالين للخليفة في بغداد، وكان أشهر قادتهم سيف الدولة الحمداني، الذي ضم حلب وحمص إلى سلطانه عام 945م.
بدايةً ثار الحمدانيون على الدولة العباسية، ولكن عفت عنهم عندما انتصر الحسين بن حمدان على هارون الشاري الخارجي وأسره وجاء به إلى المعتضد.
وقد كان الحمدانيون يمثلون القوة التي تلجأ إليها الخلافة إذا ضاقت بها الأحوال في بغداد؛ فقد لجأ إليهم الخليفة المتقي فارّاً من قوات البريدي التي زحفت على العراق، وعجز أمير الأمراء ابن رائق عن الصمود لها، فناصر الحمدانيون الخلافة، وقتلوا ابن رائق وطردوا البريديين، وأعادوا الخليفة إلى عاصمته؛ مما جعل الخليفة المتقي يلقِّب الحسن بن حمدان (ناصرَ الدولة)، ولقَّب أخاه عليّاً (سيف الدولة)، وذلك في شهر شعبان سنة 330هـ، وتولى إمرة الأمراء في بغداد ناصر الدولة أمير الموصل.
لم يستقر الحمدانيون كثيراً ببغداد؛ لاضطراب أمورها بسبب الحروب الأهلية، وحنق الخليفة على ناصر الدولة لزيادة الضرائب؛ مما دفع الخليفة إلى انتهاز فرصة خروج ناصر الدولة إلى الموصل، فاستنجد بتوزون القائد التركي، ومهَّد له السبيل لدخول بغداد سنة 331هـ.
ولم يستطع زعماء الحمدانيين من العرب البقاء في بغداد أكثر من سنة، واضطروا إلى العودة إلى الموصل. ومع ذلك ظلت علاقة الحمدانيين حسنة بالخلافة على الرغم من محاولة البويهيين إزالتهم عن إمارتهم.
وفي حلب امتاز عهد سيف الدولة بكثرة حروبه مع البيزنطيين، وكان جهاد الحمدانيين ضد الروم من أبرز الأعمال التي خلدت ذكرى هذه الدولة. وكان ممن خلدوا ذكر الحمدانيين: أبو الطيب المتنبي، وأبو فراس الحمداني.
وعندما أراد سيف الدولة أن يوسّع ملكه بالشام ليتمكّن من تقوية جبهته أمام الروم، امتد بنفوذه إلى دمشق؛ الأمر الذي أدى إلى حرب مع الإخشيد، انتصر فيها الإخشيد. وتوصلا أخيراً إلى صلح يدفع بموجبه الإخشيد جزية سنوية للحمدانيين مقابل احتفاظه بدمشق. ولعل الإخشيد كان يرمي من وراء إبرام الصلح على هذه الصورة، أن يُبقي الدولة الحمدانية حصنًا منيعًا يكفيه مئونة محاربة البيزنطيين. وعندما مات الإخشيد نقض سيف الدولة الصلح، فتصدى له كافور وهزمه، وتم الصلح على بنود الصلح الأول ما عدا دفع الجزية السنوية.
بدأت الدولة الحمدانية في التفكك بعد سيف الدولة، ووقعت في صراعات داخلية أسرية أدت إلى أن يستعين بعضهم على بعض بالروم والعبيديين.
ثم سقطت أخيراً تحت الضغط العبيديّ المتعاظم في مصر، والنفوذ البويهيّ من جهة العراق، فورثها العبيديون في النهاية.
ويرى الدكتور عبد الحليم عويس أن قوة الدولة الحمدانية تمثلت في شخص، وكعادة الدول التي ترتبط بأشخاص تسقط بسقوطهم. وكان أكبر عامل حضاري زحزح الدولة الحمدانية عن مكانتها في التاريخ أنها فشلت في الاستجابة للتحدي الذي كان أقوى منها، ولم تنهج النهج السليم في مقاومته عن طريق إيجاد وحدة إسلامية تتجاوز الصراعات الجزئية لتواجه الخطر الحضاري الكبير. وعندما تفشل دولة في الاستجابة للتحدي الذي يفرضه القدر عليها فإنها، وإن قاومت قليلاً، لا بد أن تسقط.
إنجازات الدولة الحمدانية
الحياة الاقتصادية
وشهدت الحياة الاقتصادية ازدهاراً ملحوظاً في العديد من المجالات؛ فمن ناحية الزراعة كَثُرَت المزروعات، وتنوَّعت المحاصيل من الحبوب والفاكهة والثمار والأزهار، فظهر البُرُّ والشعير والذرة والأرز والبسلة وغيرها، كما ظهرت أنواع عديدة من الفاكهة كالتين والعنب والرمان والبرقوق والمشمش والخوخ والتوت والتفاح والجوز والبندق والحِمضيات، ومن الرياحين والأزهار كالورد والآس والنرجس والبنفسج والياسمين، كما جادت زراعة الأقطان والزيتون والنخيل.
وقامت صناعات عديدة على تلك المزروعات مثل زيت الزيتون، والزبيب. كما ظهرت صناعات أخرى كالحديد والرخام والصابون والكبريت والزجاج والسيوف والميناء.
وقد نشطت التجارة، وظهر العديد من المراكز التجارية المهمَّة في حلب والموصل والرَّقَّة وحرَّان وغيرها.
الحياة الفكرية
شهدت الحياة الفكرية والثقافية نهضة كبيرة ونشاطًا ملحوظًا في ظلِّ الحمدانيين؛ فظهر الكثير من العلماء والأطباء والفقهاء والفلاسفة والأدباء والشعراء.
وقد أرسى سيف الدولة الحمداني دعائم دولته في حلب، فاستقطب بلاطه مشاهير العلماء والأدباء والشعراء أمثال المتنبي وأبي الفتح عثمان النحوي، وقد أجزل سيف الدولة العطاء للشعراء بسبب محبته للشعراء وإجادته نظمه، وبادله الشعراء شعرًا حسنًا، وفنًّا جيدًا.
كما اشتُهِر جماعة من أهل بيته في نظم الشعر كابن عمِّه أبي فراس الحمداني، وهو حينما وقع في أسر الروم في إحدى غزواته، كتب أحسن شعره طالباً من سيف الدولة بحلب أن يفديه؛ لأنه نشأ في رعايته، ومن شعره في الأَسْر:
ولا تقعـدن عنِّي وقـد سيـم فديتي *** فلست عـن الفعل الكريم بمُقْعَـدِ
فكم لك عنـدي من أيــــادٍ وأنعـــمٍ *** رفعت بها قدري وأكثرتَ حُسَّدي
وقد اجتمع في بلاط سيف الدولة أشهر اللغويين والنحويين في زمانه مثل أبي علي الفارسي، وابن خالويه، وابن جني، فضلاً عن الفيلسوف الفارابي الذي كتب في الطب والمنطق والسياسة والرياضة والكيمياء والموسيقى. أمَّا الطبيب عيسى بن الرقي، فقد قال عنه ابن أبي أصيبعة في كتابه (طبقات الأطباء): "إن سيف الدولة كان يعطي عطاء لكل عمل، وكان عيسى الرَّقِّي يأخذ أربعة أرزاق: رزقًا بسبب الطب، ورزقًا بسبب ترجمة الكتب من السرياني إلى العربي، ورزقين بسبب علمين آخرين".
العمارة
بالرغم من الطابع العسكري والحربي لدولة الحمدانيين بصفة عامة، وإمارة سيف الدولة على نحو خاص؛ فإن ذلك لم يصرف الأمير سيف الدولة عن الاهتمام بالجوانب الحضارية والعمرانية.
فقد شيَّد سيف الدولة قصره الشهير بـ(قصر الحلبة) على سفح جبل الجوشن، والذي تميز بروعة بنائه وفخامته وجمال نقوشه وزخارفه، وكان آية من آيات الفن المعماري البديع، كما شيَّد العديد من المساجد، واهتم ببناء الحصون المنيعة والقلاع القوية.
شجرة الحكام
الدولة الحمدانية في الموصل:
1- ناصر الدولة أبو محمد الحسن (317هـ - 929م).
2- عدة الدولة أبو تغلب الغضنفر (358- 369هـ / 968- 979م).
3- أبو طاهر إبراهيم (371هـ - 981م).
4- أبو عبد الله الحسين (380هـ - 991م).
الدولة الحمدانية في حلب:
1- سيف الدولة أبو المحاسن علي (333هـ - 944م).
2- سعد الدولة أبو المعالي شريف (356هـ - 967م).
3- سعيد الدولة أبو الفضائل سعد (381هـ - 991م).
4- أبو الحسن علي (392هـ - 1001م).
5- أبو المعالي شريف (394هـ - 1003م).
الأدارسة في المغرب الأقصى
تُعَدّ دولة الأدارسة أول دولة علوية هاشمية تقوم في التاريخ الإسلامي. وتعود نسبتها إلى مؤسسها إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، الذي هرب مع مولاه راشد إلى مصر ثم إلى المغرب الأقصى بعيداً عن أيدي العباسيين؛ وذلك بعدما تمكّن العباسيون من القضاء على ثورة الحسين بن علي بن الحسن في معركة فخ.
ومذهبها هو الزيدية أقرب مذاهب الشيعة إلى أهل السنة.. ونقل موقع قصة الإسلام عن الدكتور حسين مؤنس نفيه ذلك، وأكد أنها دولة سنية، فيقول: "من الأخطاء الشائعة القول بأن دولة الأدارسة دولة شيعية؛ لأن مؤسسيها وأمراءها كانوا من آل البيت، والحقيقة أن الأدارسة رغم علويتهم لم يكونوا شيعيين، بل لم يكن أحد من رجال دولة الأدارسة أو أتباعهم شيعياً فقد كانوا سنيين، لا يعرفون الآراء الشيعية التي شاعت على أيام الفاطميين، ولم يعرفوا في بلادهم غير الفقه السني المالكي، ومن البديهي أن آل البيت لا يمكن أن يكونوا شيعة لأحد، أما الشيعة فهم أنصارهم، والوصف الصحيح لهذه الدولة هو أنها كانت دولة علوية هاشمية، وهي أول تجربة نجح فيها أهل البيت في إقامة دولة لأنفسهم".
لم تنقطع ثورات العلويين بعد تولي أبناء عمومتهم العباسيين الخلافة، وإعلانهم أنهم أحق بها منهم، وقابل العباسيون ثورات أبناء العمومة بكل شدة وقسوة، ونجح أبو جعفر المنصور في القضاء على ثورة محمد النفس الزكية، واستشهاده سنة (145هـ - 762م)، ولم تكن ثورة أخيه إبراهيم أفضل حالاً من ثورته، فلقي مصرعه في السنة نفسها، واطمأن أبو جعفر المنصور على سلطانه، واستتب له الأمر.
وبعد فشل هاتين الثورتين قامت حركات لبعض العلويين في اليمن وخراسان، لكنها لم تلقَ نجاحاً، وأصابها ما أصاب سالفاتها، وعاش من بقي من آل البيت العلوي في هدوء، وربما استخفوا حتى يتمكنوا من إعداد العُدَّة للخروج وهم مكتملو القوة والعدد. وظلت الأمور على هذا النحو من التربص والانتظار حتى حدث نزاع صغير بين والي المدينة المنورة وبعض رجال من آل البيت أساء التعامل معهم، وأهانهم وأغلظ القول لهم، فحرك ذلك مكامن الثورة في نفوسهم، وأشعل الحمية في قلوبهم، فثار العلويون في المدينة بقيادة الحسين بن علي بن الحسن، وانتقلت الثورة إلى مكة بعد أن أعلن الحسين البيعة لنفسه، وأقبل الناس عليه يبايعونه.
ولما انتهى خبر هذه الثورة إلى الخليفة العباسي موسى الهادي، أرسل جيشاً على وجه السرعة للقضاء على الثورة، قبل أن يمتد لهيبها إلى مناطق أخرى؛ فيعجز عن إيقافها، فتحرك الجيش العباسي إلى مكة، والتقى بالثائرين في (8 من ذي الحجة 169هـ -11 من يونيو 786م) في معركة عند مكان يسمى (فخ) يبعد عن مكة بثلاثة أميال، وانتهت المعركة بهزيمة جيش الحسين، ومقتله هو وجماعة من أصحابه.
يتبع