الإيمان.. أعظم رابطة تجمع قلوب المسلمين


الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر





الإسلام ألَّف بين القلوب، وجمع الناس على تباعد البلدان واختلاف الألوان وتباين الألسن، جمعهم على كلمةٍ واحدة ورابطةٍ واحدة، وأعظم ميثاق رابطة الإسلام التي لا يوجد في الروابط كلها في قديم الزمان وحديثه مثلها ولا قريبًا منها، وهي رابطة باقية لهم في دنياهم وأخراهم؛ فإن كل رابطة مهما قويت مآلها إلى انفصال ونهايتها إلى انحلال إلا الرابطة الدينية {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}(ا لزخرف:67)، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه، وأعاذنا من كل ما يتنافى مع التقوى من الخصال الذمية والخلال المشينة.

الرابطة الحقيقية

{إِلَّا الْمُتَّقِينَ} تلك هي الرابطة الحقيقية واللحمة الحقيقية، حتى إن هذه الرابطة -رابطة الإيمان والدين- من قوتها وعظم شأنها أنها ألَّفت وجمعت بين الملائكة وصالحي البشر مع اختلاف الجنس، الملائكة خُلقوا من نور، وبنو آدم خُلقوا من طين، والإيمان أوجد بين هذين الجنسين رابطة عظيمة جدًا اقرأها وتأملها في قول الله -سبحانه وتعالى-: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُو نَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}(غافر :7)؛ فانظر هذه الدعوات المتتابعات وهذا الاستغفار وهذا العطف والرحمة، لترى شاهدًا عظيمًا وبرهانًا جليًا على عظم شأن الإيمان في الربط وقوة شأنه.

الرابطة العظيمة

وهذا الإيمان الذي من ثمراته هذه اللحمة والرابطة العظيمة، مثله كمثل شجرةٍ مباركةٍ طيبة، تثمر الثمار النافعات، والخيرات المتواليات، والأُكل الدائم، كما قال الله -سبحانه وتعالى-: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (إبراهيم:24-25)، وهو مثل حثَّ الله -سبحانه وتعالى- العباد على تأمله لعظيم فائدته وكبير عائدته وكبر أثره، ولا يخفى على الإخوة الكرام ما للأمثال المضروبة في القرآن من أثر عميق في بيان أمور الدين وحقائق الإيمان وإيضاحها؛ إذ إنَّ من شأن النقل أن يجعل الأمور المعنوية بمثابة الأمور الحسية المشاهدة.

لطيفة جميلة

ولنقف هنا على لطيفة جميلة تتمم ما يتعلق بهذا المثل ألا وهي: الحديث المخرج في الصحيحين وغيرهما عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بجمَّار نخلة، فأكل منه ووضعه أمامه، وقال -عليه الصلاة والسلام-: «أَخْبِرُونِي بِشَجَرَةٍ تُشْبِهُ أَوْ كَالرَّجُلِ المُسْلِمِ لاَ يَتَحَاتُّ وَرَقُهَا، وَلاَ وَلاَ وَلاَ»، أي ذكر صفاتٍ لها تدل على قوتها وتماسكها وثباتها، وأمام الصحابة -رضي الله عنهم- وبين ناظريهم جمَّار النخلة أكل منه قبل هذا السؤال بلحظة؛ فخاض الصحابة في شجر البوادي -رضي الله عنهم وأرضاهم-، قال ابن عمر راوي الحديث: «فَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، وَرَأَيْتُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ لَا يَتَكَلَّمَانِ؛ فَكَرِهْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ أَوْ أَقُولَ شَيْئًا»؛ فلما سكت القوم قال النبي صلى الله عليه وسلم : «هِيَ النَّخْلَةُ».

مثل للمؤمن

وهذه النخلة من شرفها وتميزها عن غيرها من الشجر أن جعلها الله -سبحانه وتعالى- مثلًا للمؤمن، وإذا كانت الشجرة مثلًا للمؤمن؛ فإنَّ مثل أهل الإيمان عمومًا في أوطانهم وديارهم وبلدانهم، كبستان جميل من أجمل بساتين الدنيا وأحسنها، وبداخله نخل كثير يزين به ويجمل؛ فهذا مثل لحال أهل الإيمان، وإذا نظرت إلى بستانٍ فيه هذا النخل مع جمال منظره وجودة ترتيبه وبهائه وحُسنه، تدرك بشيء من العمق مدى هذا المثل في دلالته على هذا المعنى، أقصد إذا كان هذا المثل يوضح لنا حال المؤمن؛ فإن النخيل في البستان يوضح لنا حال أهل الإيمان في مجتمعاتهم.

تفاوت أهل الإيمان

ثم إذا نظرت في بستانٍ فيه نخل، لن تراه على درجة واحدة، ولا على مستوى واحد؛ لا من حيث الثمر، ولا من حيث النماء، ولا من حيث الثمر تجد نخلة مثمرة وإلى جوارها غير مثمرة، ونخلة مثمرة ثمرًا كثيرًا ونخلة فيها ثمر ضعيف، وكلها في بستان واحد وفي مكان واحد وعلى أرض واحدة! وهذا تفاوت أهل الإيمان وأنهم ليسو فيه على درجة واحدة؛ هذا ضعيف الإيمان وهذا قوي الإيمان، وهذا ثمراته لأمته وفي مجتمعه كثيرة وخيرات متعددة وهذا دون ذلك.

هذا شأن الدعاة

وإذا كان الأمر كذلك، فما شأن الدعاة؟! ونبقى مع المثل نفسه ما شأن الدعاة؟ وما الذي ينبغي أن يفعلوه في مجتمعاتهم؟ ونحن تصوَّرنا البستان كيف حاله وأوضاع النخل؛ لأن بعض النخل وإن كان ضعيفا مشكلته ليست كبيرة جدا، يعني يحتاج إلى تنظيم لحوضه وإزالة بعض الأشياء التي علقت في الحوض من النباتات التي تؤذي هذه النخلة في عروقها، تحتاج إلى بعض المعالجة، تحتاج إلى تفقد في الماء قد يكون وصول الماء إليه ضعيفا، يعني يحتاج إلى قضايا تُتابع في هذا الباب، حتى يعود نماؤه إلى مثل النخل الآخر أو أحسن منه؛ فإذا كان هذا وضع النخل؛ فإن حال الدعاة في مجتمعاتهم أشبه بحال الفلاح في بستانه.

أمثلة من الواقع

وليتضح الأمر أكثر لنتصور حال ثلاثة فلاحين، وكل واحد منهم عنده بستان فيه نخل، والنخل كما عرفنا فيه تفاوت ليس على مستوى واحد.

- أحد هؤلاء الفلاحين يميل إلى الشدة والرعونة والقسوة والقرارات السريعة من غير ترو ودون تأن؛ فمثل هذا إذا رأى في النخل نخلة فيها شيء من المرض اقتلعها من أصلها ورماها خارج بستانه؛ لأنه لا يرى أن النخلة يليق أن تكون نخلة إلا إذا كانت سالمة؛ فإذا أصابها شيء من ذلك، لا يعالجها، وإنما يقتلعها ويرمي بها خارج بستانه، ومثل هذا سيتناقص بستانه سريعًا، ويرى العاقبة المؤسفة لمثل هذه التصرفات ويندم؛ حيث لا ينفع الندم، وعمله يظنه إصلاحا في بستانه بينما هو نوع من الإفساد والإضرار .

- والفلاح الآخر نظرته تختلف عن نظرة الأول، يرى أن النخلة نخلة تامة وكاملة، حتى وإن مرضت وإن ضعفت، فهي نخلة ولا يضرها أن تضعف، أو ألا تثمر، أو أن يضعف الثمر، كلها عنده سواء؛ فمثل هذا يورثه مثل هذه النظرة لنخله ضعف العناية به؛ مما يترتب عليه مرض النخل وضعفه وقلة ثمرته وقلة فائدته .

- بينما الفلاح الثالث له محبة لنخله وعناية به وتفقد له، ومعالجة دقيقة لما يمرض منه، وعمل على إزالة العوالق أو الأشياء التي تنبت حول النخل ويتفقد النخل .

فساد منهج الخوارج

فلو تصورنا هذا النخل في هؤلاء الفلاحين الثلاثة، نعرف الفساد الذي يترتب على منهج الخوارج في مجتمعاتهم؛ فإن مثلهم مثل الأول، ويظنون أنهم يصلحون في مجتمعاتهم، والحق أنهم يفسدون ولا يصلحون، حتى وإن كانوا أهل عبادة وصلاة وقراءة للقرآن، مع أن العبادة وقراءة القرآن وكثرة الذكر في الغالب كانت في الخوارج الذين في الزمن الأول الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة: «تَحْقِرُونَ صَلاَتَكُمْ مَعَ صَلاَتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ، وَيَقْرَءُونَ القُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ»؛ فكانوا فعلًا عندهم عبادة عجيبة، قراءة للقرآن عجيبة وذكر، حتى في قتال علي للخوارج، حذيفة في بداية الأمر توقف لما رأى من شمائلهم، فيهم عبادة وذكر وصلاة، لكن لم يبق الأمر على هذه الحال من هذا الجانب، بل شرهم في الخروج صار أعظم وأشد، وأمرهم في العبادة صار أضعف، وابن تيمية -رحمه الله- تحدث في أحد كتبه عن بعض الخوارج في زمانه الذين أمكن الله السلطان منهم، وكانوا في الجبل؛ فذكر -رحمه الله تعالى- أنهم لما تمكنوا منهم، ما وجدوا فيهم من هو صاحب عبادة، هكذا ذكر -رحمه الله- ما وجدوا فيهم صاحب صلاة وعبادة، حتى قال -رحمه الله تعالى-: «ما وجدنا فيهم قارئًا للقرآن»، هذا في زمان ابن تيمية؛ فكيف بالأزمنة التي بعده!! والخوارج قرون تطلع في الأمة بين وقت وآخر، وكلما خرج قرن منها قُطع، ولا يحصل لهم صلاح في مجتمعاتهم أبدًا، مع أنهم يخرجون نصرة بزعمهم للدين، أمرًا بالمعروف، وقضاءً على المنكرات، وعملًا على تطبيق شرع الله، ويرفعون راية الحكم لله وغير ذلك .

فساد منهج الإرجاء

والمثل الآخر يوضح لنا حال من يسلك في دعوته مسلك المرجئة، وهو مذهب فاسد وعلى النقيض من مذهب الخوارج والإرجاء، هو إخراج العمل من مسمى الإيمان، ويتفاوت من هو على هذا المذهب، فيهم غلاة في هذا المذهب غلوا شديدًا، وفيهم من هو دون ذلك، ومن كان في دعوته على مذهب الإرجاء؛ فإن مآله أيضًا في دعوته إلى الإضرار بالمجتمع وضعف الدين ورقة الإيمان، والاستهانة بالصلاة والعبادة، وطاعة الله، والاستهانة بالمنكرات والمحرمات، والبعد عن المنهيات .

المسلك الوسط


والمثل الثالث يوضح المنهج القويم والمسلك الوسط لدين الله -سبحانه وتعالى- منهج أهل السنة والجماعة، وهو في هذا الباب وسط بين الخوارج والمرجئة، كما أنه في أمور الاعتقاد، بل أمور الدين كلها وسط بين ضلالات المضلين الضالين من غلاة أو جفاة، من أهل التفريط أو الإفراط، والحق قوامٌ بين ذلك، الحق حسنة بين سيئتين ووسط بين ضلالتين؛ وليسأل العبد ربه -تبارك وتعالى- أن يوفقه للحق، وأن يجعله من أهله، وأن يعيذه من الشر والباطل، وأن يهدي ضال المسلمين، وأن يردهم إلى الحق ردًا جميلا، وأن يصدق مع الله في الدعاء لنفسه ولإخوانه، والدعاء مفتاح كل خير في الدنيا والآخرة .