خطبة الحرم المكي - الشيخ ابن حميد:
الأعمال الجليلة والفعال الحميدة تُخلّد ذكر صاحبها وتورثه حياة بعد الممات


مجلة الفرقان

جاءت خطبة الحرم المكي بتاريخ 20 من ذي الحجة 1442هـ - الموافق 30 / 7 /2021م، لإمام الحرم المكي الشيخ: صالح بن حميد متحدثًا فيها عن الذكر الحسن والسمعة الطيبة والسيرة الحسنة والذكر الكريم، وبين الشيخ أن الناس وهم في توديع عام واستقبال آخر يحسن بهم الوقوف لمحاسبة النفس، قال -تعالى-: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.

كيف تُخلد ذكرك بعد مماتك؟

وبين الشيخ ابن حميد أن الأعمال الجليلة والآثار الجميلة والفعال الحميدة هي التي تُخلّد ذكر صاحبها، وتورثه حياة بعد الممات، وتُبقي له ذكرا وثناءً وحمدًا ودعاءً، كم من الرجال حلّت آجالهم وطويت أيامهم ثم بقيت آثارهم، وحُفِظت مآثرهم ولازالت مفاخرهم تبعث في المجالس طيبا، وتنثر في الآفاق عرفا وأريجا، عاشوا في الناس أحياءً وأجسادهم في الأجداث رميم.

رأس مال المرء

وأضاف، رأس مال المرء السمعة الحسنة والذكر الطيب، وهي عمره الثاني يبنيه في حياته القصيرة ليكون عمره المديد، لسان الصدق في الآخرين نعمة من الله عظيمة، ومنّة من المولى كبيرة يختص بها من يشاء من عباده ممن آمنوا وصدقوا وأخلصوا وبذلوا ونفعوا ونثروا الإحسان في العالمين، والسمعة الحسنة نعمة يضعها الله للعبد في نفوس الناس، ويجريها على ألسنة الخلق، والذكر الطيب من معايير القيم والأخلاق يرجع إليه الناس، ويزينون به أقدار الرجال.

إذا أراد الله بعبد خيرا عسّله

وبين الشيخ ابن حميد أن لسان الصدق في الآخرين هو -بعد فضل الله- من ثمرة عمل المرء وحسن تصرفاته وكريم سلوكه، والناس شهداء الله في أرضه، عن عمرو الخزاعي - رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أراد الله بعبد خيرا عسّله، قيل يا رسول الله: وما عسّله؟ قال: فتح له عملا صالحًا بين يدي موته حتى يرضى عنه من حوله»، ومعنى عسّله مأخوذ من العسل فكأنه شبّه العمل الصالح الذي يُفتح للعبد حتى يرى الناس عنه ويطيب ذكره فيهم، ويكثر ثناؤهم عليه، شبّهه بالعسل لحلاوته وحسن مذاقه ومحبة الناس له.

حرص الأنبياء على الذكر الحسن

وأكد الشيخ ابن حميد أن أنبياء الله ورسله -عليهم الصلاة والسلام وهم أفضل البشر- حرصوا على السمعة الطيبة والسيرة الحسنة والذكر الكريم، فقد سألوا ربهم أن يهبهم الذكر الحسن، ولسان الصدق في الآخرين؛ فقال الخليل -عليه السلام-: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ}، وهو الإمام الذي سأل الإمامة لذريته من بعده، {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي}، ولحقت دعوته المباركة ذريته من بعده؛ فكانوا ألسن صدق وأئمة هدى، يتتابعون عبر قرون من إسماعيل وإسحق إلى نبينا محمد -عليهم جميعا صلوات الله وسلامه- جموعا بعد جموع من الأنبياء والصديقين والصالحين إلى آخر لسان صدق من هذه الأمة المباركة (الأمة المحمدية)، {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

خير أمة أُخرجت للناس

وأشار الشيخ ابن حميد أن هذه الأمة خير أمة أُخرجت للناس من ذريته، وفيهم ما لا يُحصى من ألسن صدق الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، فأتباع الرسل لهم ميراث لسان الصدق بحسب إيمانهم وطاعتهم وخدمتهم لدين الله، وينقص حظهم بقدر تقصيرهم وبُعدهم عن نهج الخليل وذريته، نهج الملة الحنيفية.

دعوة إبراهيم

لقد أجاب الله دعاء الخليل -عليه السلام-؛ فجعل الإمامة فيه وفي ذريته {وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا}. وقال -سبحانه-: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنَ الْأَخْيَارِ}.

نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم

ويأتي في الذروة وأعلى المقام أرفع الناس قدرا، وأرفعهم ذكرا، وأعظمهم شرفا، وأكثرهم للخلق نفعا سيدنا ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي قال فيه ربه: {ورفعنا لك ذكرك}. إنه محمد - صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم - لا يخزيه الله أبدا، يصل الرحم، ويصدق الحديث، ويحمل الكَل، ويُقري الضيف، ويُعين على نوائب الدهر. لا يخزيه الله أبدا وهو الصادق في الجاهلية والإسلام.

حرص النبي على السمعة الحسنة

ولقد حرص نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - على تربية أصحابه على الحفاظ على السمعة الحسنة، والبعد عن كل ما يخدشها في حق الإسلام وأهله، فقال لهم حين أشار بعضهم بقتل أحد المنافقين قال: «لا، حتى لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» متفق عليه. حرصًا منه - صلى الله عليه وسلم - على سمعة الدعوة وسمعة الدين الذي أشرقت بنوره مشارق الأرض ومغاربها.

الاحتراز من سوء الظن

وفي قصة زوجه أم المؤمنين صفية -رضي الله عنها- قال لرجلين: «على رسلكما إنها صفية بنت حيي، فقالا: سبحان الله يا رسول الله! قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرا، أو قال شيئا» متفق عليه. قال أهل العلم: وفيه التحرز من التعرض لسوء الظن والاحتفاظ من كيد الشيطان والاعتذار. وقال أهل العلم: وهذا متأكد في حق كل من يُقتدى به من أهل العلم والفضل والجاه، فلا ينبغي أن يفعلوا فعلا يدعو إلى سوء الظن بهم وإن كان لهم فيه مَخْلص؛ لأن ذلك سبب لإبطال الانتفاع بهم.

رموز الناس ورؤوسهم

ويأتي من بعد الأنبياء من رموز الناس ورؤوسهم، مما يعم نفعهم ويعظم أثرهم من أهل الذكر والشرف وحسن السمعة وطيب الذكر، فهذا حاكمٌ يبسط العدل، ويقيم القسط، ويقاوم الفساد، ويحمي النزاهة، ويمنع الظلم والجور، ويحفظ حقوق الرعية ويحوطهم برعايته وحفظه، يحمي البلاد، وينتصر لدين الله، فتراه في الناس معظما، وفي المجالس مهيبا، وفي أعين الناس كبيرا، وعند أهل الإسلام جليلا، وسِجِلّه في التاريخ حافل محفوظ.

عالم تقي وغني جواد



وهذا عالم تقي متواضع، ينفع الناس بعلمه وخلقه وإحسانه، يعلو في الناس ذكره، ويرتفع في الناس قدره، ويبقى في الخلق أثره، وهذا غني جواد، سخي معطاء، يُحسن للفقراء، ويكفل الأيتام، ويشفق على المساكين. ينفق في ميادين الخير والبر، يدعم المشروعات، ويُفرج الكربات، ويبذل ماله في سبيل الله لإعلاء كلمة الله فيكتب الله له القبول التام والجاه العريض وحسن الذكر، وهذا وجيه ذو جاه، يشفع ويُصلح، ويجمع الكلمة، وينشر الخير والبر والمعروف.

آخرون كُثُر

وآخرون كُثُر، لا يحصيهم عد ولا يقعون تحت حصر ممن يبذل الندى ويكف الأذى، ويتحمل المشاق في سلامة دين ورجاحة عقل وعفة نفس وسلامة قلب، ممن يُقرئون القرآن، وينشرون السنة، ويعمرون المساجد والمدارس والمعاهد والمشافي، ويحفرون الآبار ويكثرون الصدقات، ويسددون الديون، ويقضون الحوائج، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويدعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والنصح لأئمة المسلمين وعامتهم، والإصلاح بين الناس، وجمع الكلمة على الخير والهدى والتقى والصلاح، كل هؤلاء تقدرهم الرجال، ويبقى ذكرهم في الأجيال، يُغيّب الموت أجسادهم، ويحفظ الله لهم أعمالهم وآثارهم، ويبقى ذكرهم ويمتد الدعاء لهم.

النية الخالصة والمقصد الحسن

المؤمن لا يبذل الخير للمدح، ولا رغبة في الثناء، ولا طمعا في السمعة، ولكن يبذله بنية خالصة ومقصد حسن فيقبل الله سعيه، ويضع له القبول بين العباد، فينشر له الذكر الحسن والثناء والدعاء. روى أشهب عن مالك -رحمهما الله- في قول الله -عز وجل-: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} قال: لا بأس أن يحب الرجل أن يُثنى عليه صالحا ويُرى في عمل الصالحين إذا قصد وجه الله. وقد قال -سبحانه-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} أي حبا في قلوب عباده وثناءً حسنا.

تفاوت الناس في هممهم وسمعتهم

ثم بين الشيخ ابن حميد أن هناك تفاوتا بين الناس وتباعدا بينهم كما بين السماء والأرض، أقوام طَهُرَت قلوبهم وسَمَت هممهم، وعَلَت سمعتهم، فهم كالنحل لا يأكل إلا طيبا ولا يُخرج إلا طيبا، وآخرون أظلمت قلوبهم فضعفت هممهم، وانتكست إراداتهم، وصغرت نفوسهم، فضعفت أعمالهم، وخبا ذكرهم، بل فيهم من ساءت سمعتهم فما بكت عليهم السماء والأرض. يموت أناس فلا يؤسى لفراقهم، ولا يُشعر بفقدهم، فليس لهم آثار صالحة، ولا أعمال نافعة، ولا إحسان إلى الخلق. لا يُرى لهم شاكر، ولا يذكرهم بالخير ذاكر، وكأنهم لا كانوا ولا وجدوا. ناهيكم بمن يفرح الناس لموتهم ويتنفسون الصعداء عند فقدهم من حقود حسود، وجموع منوع، وفاحش سليط اللسان، متكبر صاحب هوى، معاملته غِلظة، وخلطته شدة، وحديثه ثقيل.


وختم الشيخ ابن حميد خطبته بتأكيد أنَّ الإنسان لابد أن يحتاط لنفسه، ويحترز لسمعته، ويحفظ كرامته، ويُكرم اسمه واسم أهله وعشيرته ودينه وبلده ووطنه، {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا}. ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه.