غزوات منسية - فتح بلغراد؟!

ثائر إسلامي


ماذا يعرف المسلم المعاصر عن بلغراد المدينة الإسلامية عاصمة جمهورية الصرب حاليا ( يوغوسلافيا سابقا ) ؟
لقد فتح العثمانيون بلغراد في 26 رمضان 927 هـ الموافق 29 \8\1521 ولم تكن آنذاك غير قلعة ضخمة في قسمها المرتفع ، وعدة أحياء سكنية في القسم المنخفض ، بحيث كان من الصعب تقدير عدد سكانها بأكثر من عدة آلاف ، وبعد قرن واحد من الفتح الإسلامي كانت قد تطورت تطوراً مثيرا حيث أصبحت في بداية القرن السابع عشر - كما يقول المؤرخ المعاصر د . بوبو فيتش - تشبه دمشق أو غيرها من مدن الشرق ، بسكانها ومنشآتها وثقافتها وتقاليدها ، حتى إنها اشتهرت لدى الرحالين الأوربيين باسم بوابة "الشرق" ، وفي ظل الحكم العثماني كما يذكر الرحالة الإنكليزي " براون " أصبحت بلغراد جزءا من عالم يختلف تماما ًعن الغرب ، جزءا من ذلك العالم الآخر الذي يمتد إلى الصين وأعماق آسيا . ويقول الدكتور محمد الأرناؤط : إذا استثنينا استامبول وبالتحديد القسم الأوربي منها كانت بلغراد في تلك الفترة أكبر وأهم مركز للحضارة الإسلامية في أوربا الوسطى ، وكانت بالتالي نموذجا للمدينة الإسلامية بالمعنى الحضاري .
وبالإضافة إلى ما كانت تقوم به بلغراد من دور تجاري تبادلي مع مصر ودمشق وصيدا وبيروت في ظل الإسلام بلغ ذروته في القرن السابع عشر فقد كانت بوابة أيضا لهذه التجارة مع المجر وبولونيا وتشكوسلوفاكيا والسويد والبندقية ، وكان قسم كبير من الأقمشة يصل من البلاد العربية لحاجات السكان في بلغراد الذين بغالبيتهم الإسلامية كانوا يعيشون ويتزيون على النمط الإسلامي ، حتى إن المسيحيين من سكان بلغراد أصبحوا مع الزمن يقلدون المسلمين في حياتهم و لباسهم .
ومع اتساع المدينة وتطور المجتمع نشأت فيها حرف كثيرة جديدة لتلبية الحاجات الجديدة لسكان المجتمع ورفاهيتهم ، وكان ذلك كله يخضع للنظم والشريعة الإسلامية ، و للدلالة على ذلك يكفي أن نشير هنا إلى أن العالم منيريري البلغرادي المتوفى عام 1616 ألف لهذا الغرض كتابه بعنوان " نصاب الانتساب وأدب الاكتساب " يعرض فيه لموقف الشريعة من الاقتصاد على ضوء تجربة ما كان يسمى نظام الأصناف " في بلغراد : ويقصد به أصناف الحرفيين من الدباغين والسراجين إلخ
ومما ساعد على تطور التجارة والحرف في بلغراد المنشآت المختلفة التي كانت ترتبط بالطابع المميز للمدينة الشرقية الإسلامية والتي لم يكن لها مثيل في البلاد المجاورة ، ومن أهم هذه المنشآت كانت استراحات القوافل القادمة من الخارج ، والتي اشتهرت باسم " كارافان ساراي " وكانت على قسمين قسم منها يتبع الأوقاف الإسلامية ويقدم خدماته مجانا ،والقسم الآخر مقابل خدمات رمزية . وإلى جانب هذا كان في بلغراد أيضا " البزستان " وهو ما كان يثير إعجاب الأوربيين ، لكونه يجمع الأصناف الكثيرة من البضائع ، والخانات التي كانت تستخدم كاستراحة للمسافرين وكبيوت للتجارة ، وتجدر الإشارة إلى أن بلغراد كمدينة إسلامية تميزت بما يسمى " العمارة " التي هي عبارة عن مطعم شعبي مجاني تابع للأوقاف ، وفي هذه العمارة كان يمكن لأي إنسان أن يدخل ويأكل وجبة كاملة دون أن يدفع قرشا واحدا . ومن المنشآت الاجتماعية في المدينة كانت " دور العزاب " وهي دور كبيرة مجانية مخصصة للشباب الحرفيين الذين كانوا يعيشون حياة العزوبية بانتظار الزواج والانتقال إلى بيوت خاصة بهم .
وكان المسلمون في بلغراد متمسكين بالدين ، ويتبعون المذهب الحنفي ، وقد أشاد الرحالة بنسائهم ووصفوهن بالعفة والتدين كأن الواحدة منهن "رابعة العدوية " !.
ومن أهم المناسبات الإسلامية الاجتماعية التي كان يقام لها الاحتفال : المولد النبوي والعودة من حج ، وتشييد بيت ، والوفاء بنذر ، والشفاء من مرض ، وختن الأولاد .
وإذا كان من عادة العثمانيين حين يدخلون فاتحين إحدى المدن أن يحولوا إحدى الكنائس فيها إلى جامع ليقيموا به الصلاة فوراً رمزاً لانتصارهم ، فقد أدى ذلك إلى تشويه سلوكهم واتهامهم بأنهم قاموا فور دخولهم بهدم أو تحويل الكنائس إلى جوامع ، بينما الحقيقة أنه خلال الحكم العثماني زاد عدد الكنائس ووصل إلى ثمان في منتصف القرن السابع عشر ، وذلك في مقابل مائتين وسبعين جامعاً ومسجداً تقريبا ، تعكس تركيب السكان بين أغلبية مسلمة وأقلية مسيحية بلغ مجموعهم تقريبا مائة ألف نسمة ، وعلى كل حال فإن ما قام به العثمانيون من تحويل كنيستين إلى مسجدين يعتبر - كما يقول الدكتور محمد الأرناؤط - في قمة التسامح إذا ما قارناه بما حدث بعد ذلك لجوامع بلغراد خلال حرب الاسترداد .
وكان كل مسجد يشتمل على كتَّاب ، وفي هذه الكتاتيب كان الشيخ يعلم أطفال المسلمين اللغة العربية ليتمكنوا من قراءة القرآن الكريم ، وبالإضافة لهذه الكتاتيب كانت المدارس العامة العليا التي أنشئت لتوفير ما تحتاج إليه الجوامع من كوادر دينية ، وقد استمر عدد هذه المدارس حتى وصل في منتصف القرن السابع عشر إلى
ثمان مدارس . وفي إطار الجامع والمدرسة كانت المكتبة وما تشتمل عليه من مخطوطات للأساتذة والطلاب ، وفي النصف الثاني من القرن السابع عشر كان في بلغراد بالتأكيد آلاف المخطوطات في مكتبات الجوامع والتكايا والمكتبات الخاصة . وفي المدرسة العليا كان الطالب يتعمق في علوم اللغة العربية من النحو والصرف والعروض والبلاغة وعلوم الشريعة من الفقه والتفسير والحديث والعقائد ، وبالإضافة لذلك كان هناك ما يسمى "دار القراء " التي تتخصص في القرآن الكريم ، وكان بناء الواحدة منها يحتوي على عشرين قاعة للطلاب ، بالإضافة إلى قسم داخلي يتألف من أربع عشرة غرفة ، وكان لكل طالب غرفة ومصروف خاص ، وكانت هناك أيضا دار الحديث ،ووصل عددها إلى تسع دور ، وكان ينفق عليها من طرف الأوقاف . ومع تطور بلغراد وتضخم عدد السكان فيها انتشرت أبرز الطرق الصوفية وفروعها المعروفة في العالم العربي والإسلامي من مثل البكتاشية ، والرفاعية ، والقادرية ، والنقشبندية ، ألخ .
وتجدر الإشارة هنا إلى الشاعر حسين باشا البلغرادي الذي توجد له ترجمة وافية في " خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر " حيث يصفه المحبي بأنه " واحد الدهر على الإطلاق " ، والذي عين قاضيا ، ثم انتقل إلى القاهرة وقضى بها بقية حياته إلى أن توفي في شهر رجب ( 1023 - 1614 ) ، وكما يقول بعض الدارسين لشعره ( كان شاعرا جيدا في ذلك الوقت ) ،وبالإضافة إلى الشعر برز في بلغراد عدد من العلماء كالمؤرخ ورجل الدولة فريدون بك ، وشيخ الإسلام عبد الرحيم أفندي ، وعدد من كبار العلماء " لا يجاريهم أحد في الامبراطورية العثمانية " أنظر كتاب " الإسلام في يوغوسلافيا من بلغراد إلى سيراييفو" للدكتور محمد الأرناؤط نشر دار البشير بعمان الأردن ، الطبعة الأولى ص 23- 34- 37 ، 49- 51 - 54- 58 - 60 -62 وكان المسلمون الذين يشكلون أغلبية السكان .. من مناطق مختلفة ، وكان الأتراك يمثلون أقلية ، وفي مقابل هؤلاء كان السلاف الجنوبيون من البوسنة يمثلون العدد الأكثر من بين المسلمين ، ويأتي من بعدهم الألبانيون من حيث العدد ، ومن هذا يتضح أن أغلبية المسلمين في بلغراد كانوا من البلقان من البوسنيين والألبانيين ، ومع هذا فقد درجت العادة على وصف كل المسلمين في بلغراد بالأتراك لتبرير القضاء عليهم فيما جاء بعد ذلك من حرب الاسترداد .
وبهذا كانت بلغراد خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر مركزا من مراكز الثقافة الإسلامية .و نموذجا للمدينة الإسلامية .
وبعد حوادث قاسية جرت للمسلمين في عام 1862 أصبحت المدينة خالية من المسلمين بعد أن استمروا بها أكثر من ثلاثة قرون ، واستمرت عملية الاسترداد الحضاري الكامل حتى تمت بذلك حلقة كاملة من حلقات الإبادة البشرية للمسلمين المصدر السابق ص 44 ، 63 - 103
فهل عرفت أجيالنا المعاصرة شيئا عن ذلك ؟ ولم ؟
وما ذا يعرف العربي المعاصر عن فلسطين العربية منذ فجر التاريخ ؟ إنه لمن أخطر مواقع الغزو ذلك الذي استهدف محو ذاكرة العربي فيما يخص تاريخ فلسطين.