تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: استعينوا بالله واصبروا

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي استعينوا بالله واصبروا

    استعينوا بالله واصبروا (1-2)






    ياسر برهامي

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
    فقد قضى الله -عز وجل- بعدله وحكمته أن جعل الأيام بين الناس دولاً (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) (آل عمران:140- 141).
    فجعل الله -عز وجل- الأيام يتناوب الناس فيها اليسر والعسر، والعز والذل، والتمكين والاستضعاف، وقدر الله -سبحانه وتعالى- لأنبيائه ورسله -وهم صفوته من خلقه- وقدر أيضاً على أوليائه أن تمر عليهم فترات من المحن والشدائد، وأن تمر عليهم فترات يُستضعفون فيها في الأرض، وأن يكونوا قلة أذلة (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(الأنفال:26).
    قدر الله -عز وجل- مع كونه لا يحب الظالمين ولا يحب الكافرين، وإنما سلطهم مدة وجيزة من الزمن على عباده المؤمنين ليستخرج من عبده المؤمن أنواعاً من العبودية يحبها، ولا يمكن أن توجد هذه الأنواع لو أنه هدى الناس جميعاً، وهو -عز وجل- لو شاء لهدى الناس جميعاً، وأمره -سبحانه وتعالى- لا يحتاج إلى تكرار وتثنية (وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (القمر:50).
    يقع ما أمر -سبحانه وتعالى-، وهو -عز وجل- لا يعجزه أن يجعل الناس أمة واحدة على الإيمان، حتى أعدى أعداء الدين هو قادر -عز وجل- أن يقلب قلوبهم على الهدى، ولو شاء لجعل الناس أمة واحدة، لكنه قدر ذلك للحكم البالغة، حكمة بالغة له الحمد -سبحانه وتعالى- عليها، لذلك عندما يجد المؤمن المسلمين يصابون بأنواع المصائب والمحن، ويضطهدون بأنواع الاضطهاد، ويجد الفساد ينتشر في مشارق الأرض ومغاربها، ويرى البلاء والمحن، ويرى أنواع الشدائد يحمد الله -سبحانه وتعالى-.
    ولابد أن يقع في قلبه معانٍ إيمانية ضرورية لكي يستفيد من هذه المرحلة التي قدرها الله -عز وجل- في الحقيقة ليظهر فيه الخير، ليخرج -سبحانه وتعالى- من قلوب أوليائه ما يحب من الاستعانة به والصبر على طاعته -سبحانه وتعالى-، وعلى ما يصيب الإنسان بسبب مخالفته لأهل الفساد والكفر والنفاق.
    وكذلك ليوقن المؤمن بوعد الله -سبحانه وتعالى-، ويستحضر أن الله الذي أعطى، وأن الله الذي مَنَّ، وأن الله الذي آوى، لأنه سوف تأتي عليهم فترات يكونون هم ملوك الدنيا فوق الخلق يتحكمون فيهم فيما يبدو لهم، فهل يكونون في ذلك كملوك الدنيا وأهل الدنيا؟! يتحكمون فيهم لأنفسهم ولهواهم ويقولون صنعنا وانتصرنا وغلبنا وقهرنا و(إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) (القصص: 78)، (هَذَا لِي) (فصلت:50)، ونحو ذلك مما قصَّ الله علينا من كلام الكفرة والفسقة والفاجرين؟ أم يعلمون أن الله -سبحانه- الذي أورثهم الأرض بمشيئته -سبحانه وتعالى- لا بقدرتهم ولا بتخبطهم ولا بأعدادهم.
    هناك معان إيمانية لابد أن يستحضرها المؤمن عندما يمر بظروف تشبه الظروف التي مر بها أنبياء الله -سبحانه وتعالى- من قبل:
    أول هذه المعاني أن يشهد المؤمن قضاء الله -عز وجل- وقدرته، وحكمته وعدله -سبحانه وتعالى-، ويشهد أن الأمور كلها بقضاء (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر:49)، ذلك من أعظم ثمرات الإيمان، وأن يشهد خلق الله -عز وجل- لأفعال العباد، وأنه هو -سبحانه وتعالى- الذي جعلهم كذلك، ليستحضر ملك الله وليستحضر عزته وقهره -عز وجل-.
    انظر وتأمل في قول موسى -صلى الله عليه وسلم- وهو يدعو ربه -عز وجل-: (رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ) (يونس:88).
    وموسى -عليه الصلاة والسلام- لم يستحضر في هذه اللحظة أن فرعون عنده ما عنده من المال والجنود والملك والسلطان، لم يستحضر هذا المعنى، وإنما استحضر أن الله آتاه فقال: (رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ)، لم يستحضر إلا أن فرعون آلة لنفوذ قضاء الله وقدره، وهذا والله من أعظم الأمور أهمية، حين يرى العبد أن من يواجههم من الكفرة والظالمين أعداء الإسلام أضعف وأذل من أن يرجوهم أو يخالفهم أو أن يظن أن الأمور بأيديهم، لماذا يسير الناس في ركب الظالمين؟ ولماذا يداهنون الكافرين؟ لماذا يوالونهم؟
    ذكر الله -عز وجل- عن المنافقين ذلك بأنهم يخشون أن تكون الدولة والغلبة لهم، يخشون أن تكون هناك مرحلة أخرى، فهم يعدون العدة لذلك، وحينما يكون الأمر بالفعل للكفرة والظلمة فإن أكثر الناس تبعاً لهم، لأنهم استحضروا أن الملك لهؤلاء كما قال الله -عز وجل- عن المنافقين (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) (النساء:138).
    انظر... فضحهم الله -عز وجل- وبيّن حقيقة ما في قلوبهم، يتولون الذين كفروا لأنهم يبتغون عندهم العزة، يعاونون على الفساد لأنهم يريدون من المفسد مكانة ومنزلة، لو استحضروا أن المُلْكَ لله، وأن الله الذي آتى فرعون وملأه زينة وأموالاً في الحياة الدنيا، وأنه -سبحانه- الذي قدر أن يوجد من يضل عن سبيله، وفى قدرته أن يمحوهم في لحظة، وفي قدرته -سبحانه وتعالى- أن يزيلهم من على وجه الأرض، ومع ذلك قدر ربنا أن يضلوا عن سبيله.
    ولماذا قدر الله ذلك؟! لأن هناك قلوباً خبيثة، وهناك ما يشبه المغناطيس يجذبها له، كما قال -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَ هَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (الأنفال:36-37).
    انظر، الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله، وذلك يكون عليهم بعد ذلك (فَسَيُينفقونها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) يتحسرون لماذا؟! لأنهم لا يجدون ثمرة لما يفعلون، يجدون عكس ما يريدون من صد الناس عن سبيل الله، وفى نهاية الأمر (ثُمَّ يُغْلَبُونَ) وتأمل ذكر (ثُمَّ) في هذا الموضع، وهى للتراخي، لكي تطمئن، لكي يسكن قلبك، لأن الأمور كلها بمقادير، وأن لها موعداً محدداً، ولا تقل: لماذا لم يأخذهم الله الآن؟ لماذا تركهم يفسدون في الأرض ثم يغلبون؟ ثم سوف يأتي ذلك الزمان.
    ولذلك قال الله -عز وجل- لنبيه: (وَلاَ تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) (الأحقاف:35)، فإياك أن تستعجل، واعلم أن كل شيء بحكمة وبقدر من الله -عز وجل- الملك المليك المقتدر فهو -عز وجل- الذي آتى فرعون وأمثاله في كل زمان هذه القوة والزينة.
    وقال -عز وجل-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ . وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُو ا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ)(الأنعام:112-113).
    تأمل والله هذه الكنوز القرآنية، تأمل أن الله الذي جعل، هذا أول ما ينبغي أن تلحظه: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا)، لم يقل كذلك كان لكل نبي وإنما قال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا)،الله الذي خلق في قلوبهم ذلك كما قال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ)، وبدأ بشياطين الإنس أكثر (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ) يشير بعضهم على بعض، ويأمر بعضهم على بعض، وينصح بعضهم على الفساد والكفر والنفاق (زُخْرُفَ الْقَوْلِ) أي القول المزخرف الذي يحسبه سامعه حقاً وهو باطل، وأكثر الناس ليس عندهم من التمييز والقدرة على معرفة النافع من الضار (غُرُورًا) أي ليغروهم به.
    (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) استحضر هذا جيداً، كل الأمور بمشيئته -سبحانه-، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ)، ثم إذا تم ذلك بإذنه وبحكمته وقع ما أراد -سبحانه وتعالى-، وهو الذي قدر -عز وجل- وجود الأعداء وكيد الأعداء، وكل ذلك لهوانهم عليه، ولذلك قال لنبيه -عليه الصلاة والسلام- (فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) وهذا نوع من الاحتقار، لا تعبأ بهم، لا تقلق، لا تضطرب من ذلك، والخطاب في حقيقة الأمر لكل مؤمن كما قال: (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادْ) (آل عمران:196).
    هم أهون على الله -سبحانه وتعالى- من أن يجعل لهم منزلة وقدراً، لو كانت الدنيا بأسرها تساوى عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء، لو أن الدنيا بأسرها كانت تساوى عند الله شيئاً ما مد عمر إبليس ليطول عمره في الدنيا منذ خلق الله آدم وأمر ملائكته بالسجود وأبى إبليس، -مخلوق قبل آدم- إلى قيام الساعة عمر إبليس، سألها إبليس فأعطاها له.
    انظر لتعرف هذه الدنيا، ما أشد تفاهتها وحقارتها فإن الله أعطاها لعدوه إبليس اللعين حين سألها، لأنها أتفه ما يكون، لذلك استحضر أن ذلك بمشيئة الله -سبحانه وتعالى-: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:112)، هم يكيدون كيداً والله -عز وجل- يكيد كيداً (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) (الطارق:17)، وكذلك قال -سبحانه-: (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُه ُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ) (القلم:40)، يمد لهم -عز وجل- ولكنهم مربوطون فيما أراد -عز وجل- أن يكونوا فيها (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) لمتانة كيده -عز وجل- أملي لهم، وفتح عليهم أبواب كل شيء، قال -سبحانه وتعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ . فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ . فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:42-45).
    قال الله -سبحانه وتعالى-: (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ) أي إلى الزخرف من القول الغرور (أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ) من حكمته -سبحانه وتعالى- أنه جعل قلوباً تميل إلى هذا الباطل وتقبله وتحبه وترضاه، وتعين عليه وتدعو له وتسعى إلى نشره في الأرض، وهذا باطل وأمر قبيح، ولكن كثيراً جداً من النفوس تميل إليه بسبب ماذا؟ بسبب انعدام الإيمان (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُو ا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ) (الأنعام: 113)، ليكسبوا ما هم مكتسبون، لتكون نهايتهم ولتكون عاقبتهم كما كان عاقبة من قبلهم.
    كذلك إذا استحضر أن الله الذي يجعل هذا في النهاية لا شيء، يجعله مطموساً عليه، لا يثمر الثمرة التي رجاها أصحابه منه، هان علينا أمرهم، ولذا دعا موسى -عليه السلام- ربه أن يطمس على أموال آل فرعون، قال: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ) (يونس:88)، ومضى زمن، بعض أهل العلم من أهل التفسير يقول: "بين الدعوة وبين الإجابة أربعون سنة"، الله أعلم كم كان؟! ولكن الدعوة أجيبت، ولكن لا يعني ذلك أن تجاب في نفس اللحظة، الدعوة المجابة يمكن أن تبقى مدة لا يرى الناس إجابتها في الواقع إلى أن يأذن الله -سبحانه وتعالى-، لأن كل شيء بمقدار (قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) (يونس:89).
    كذلك الاستقامة على أمر الله من أعظم ما يعين على الثبات على دين الله، وعدم متابعة سبيل الذين لا يعلمون، عدم متابعة الكفرة والظلمة والمنافقين والفسقة، فكل هؤلاء لا يعلمون، وبالأولى أنك لا تكون من الذين لا يعلمون، إذا كنت قد نهيت عن اتباع سبيلهم فمن باب أولى ألا تكون منهم، فذلك العلم من أعظم ما يعين على الثبات على دين الله -سبحانه وتعالى-، أن تكون على علم، لأنك إذا علمت الحق وأيقنت بوعد الله -سبحانه وتعالى- فإنك لن تعبأ بما تراه من مقدمات وبدايات.
    هذا هو الدرس الأول والفائدة الأولى، أن تستحضر أن الأمور بمقادير، شهود قضاء الله -عز وجل- وقدره، وأن الملك لله -سبحانه-، وأنه يفعل ما يشاء، وأن الأمور بيده (هُوَ الَّذِي جَعَلَ) تكرر هذا في القرآن كثيراً، قال -تعالى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) (الفرقان:31)، الله -عز وجل- جعل المجرمين يدبرون الإضلال، ومع ذلك فكفى بالله هادياً، والمؤمنون لا يجدون أي سبيل للنصرة من الناس في الأرض، والله كفى به نصيراً (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا).
    كما أنه -سبحانه وتعالى- الذي يجعل أئمة الهدى، فأنت إذا نظرت إلى منة الله -عز وجل- عليك أن جعلك مؤمناً مسلماً وترجو أن تكون محسناً في ظروف وفى أحوال أكثر أهل الأرض قد ضلوا عن سبيل الله، فذلك منة من الله -سبحانه وتعالى- عليك، هو الذي جعلك كذلك، فاشهد منته وفضله العظيم.
    والله إنه لفضل عظيم أن يصطفيك الله -سبحانه وتعالى- لدينه وسط هذا الركام الهائل، وسط هذه الضلالات والمنكرات والمفاسد، يجعلك ملتزماً بطاعته اختارك الله من بين ملايين البشر لتكون مسلماً، وقد جعل غيرك يعبدون البقر، ويعبدون الشياطين، ويعبدون الأوثان، ويعبدون البشر، وينسبون إلى الله الصاحبة والولد، ويفعلون ويفعلون، انظر إلى ما اجتباك الله به: (هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ) (الحج:78).
    منة من الله أن سماك مسلماً قبل أن تولد، وكتبك في اللوح المحفوظ مؤمناً مسلماً متابعاً لنبيه-عليه الصلاة والسلام- قبل أن يصدر منك شيء، وقبل أن توجد في الأرض بمن فيها، فإن الله كتب في الذكر كل شيء، وكتب مقادير الخلائق قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، فإذا نظرت إلى هذا رأيت منة الله عليك.
    وإذا كنت ممن رفع الله همته أكثر فجعله يعمل من أجل الإسلام فهذا والله لهو الشرف فإذا كنت تعمل بالإسلام فذلك شرف لك، وإذا كنت ملتزماً بالدين في وسط الكفرة والمنافقين في الملايين بل آلاف الملايين من البشر، أنت واحد في فئة غير ملتزمة، فإذا أضفت إلى ذلك -وهى في الحقيقة من ضمن العمل بالإسلام- أن تعمل من أجل إعلاء كلمة الله وتدعو إليه وتسعى لتكون كلمة الله هي العليا فهذا شرف وكرم من الله -تعالى- عليك أعظم.



  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    47,898

    افتراضي رد: استعينوا بالله واصبروا


    استعينوا بالله واصبروا (2-2)






    ياسر برهامي



    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

    أمر هام ينبغي أن نتفكر فيه، هل الذي جعله الله -سبحانه وتعالى- ينصر الدين في وسط إشراقه وانتصاره أفضل، أمّن جعله الله -سبحانه وتعالى- ينصر الدين في وسط إظلام الدنيا وإدبارها وابتعاد الناس عن الدين؟؟ لماذا سبق السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار؟ لأنهم التزموا حينما كانت الدنيا ظلاماً. لأنهم التزموا حينما كان أكثر أهل الأرض ليسوا على الإيمان ولا يعمل أحد لأجل إعلاء كلمة الله في الأرض، وإنما بقي على دين الأنبياء قلة، لكنها اكتفت أن تعبد الله في الصوامع والبيع.

    انظر... شرف عظيم للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، لأنهم سبقوا إلى الله في الدلجة، عندما كانت الدنيا مظلمة، فسبقهم لا يصل إليه أحد، لأن الله -سبحانه وتعالى- جعلهم هم على الإسلام في وقت كانت الأرض فيه كلها ظلام، وكل من شابههم في جزء من صفاتهم كان له نصيب من ثوابهم.

    فعندما يتسمى الناس بالإسلام -والحمد لله على ذلك- دون أن يعمل به أكثرهم أو من أجله، ثم يجعلك الله -سبحانه وتعالى- تلتزم به وتدعو إليه في هذه الظروف، فذلك لأن الله ـسبحانه وتعالى- اجتباك لذلك واصطفاك وشرفك بأن تعمل للدين في أحلك الظروف، فإذا شاهدت قضاء الله وقدره وشهدت منته وفضله لم تعجب بنفسك، ولم تصب بالكبر والغرور، ولم تنسب الفضل إلى نفس جاهلة ظالمة، بل إن الله -سبحانه وتعالى- هو الذي منَّ عليك بالإسلام والإيمان، إن كنت صادقاً فلا تمنّ على أحد بطاعتك وعملك وإسلامك (بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات:17).

    فإذا شهدت قضاء الله وقدره فيمن يخالف الإسلام، وشهدت قضاء الله وقدره فيمن يطيع الله -سبحانه وتعالى-، وتعبدت الله بمقتضى ذلك من شهود فضله وشهود ملكه، وأنه -سبحانه وتعالى- هو الذي بيده الأمر كله، وله الحمد كله وبيده الخير كله -سبحانه وتعالى-، وإذا علمت أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، وشهدت ذلك شكرت نعمة الله -سبحانه وتعالى- عليك.

    ثم هذا الشهود لقضاء الله وقدره وملكه وسلطانه وربوبيته هو الذي يجعلك تنتقل إلى مشهد الاستعانة، حيث طلب العون من الله وحده لا شريك له، وهو من أشرف المقامات في مراتب العبودية، وهى إحدى العبادات، ولكن ذكرت هذه العبادة مؤكدة بعد دخولها في عموم (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فأمرنا الله -سبحانه وتعالى- أن نقول: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) مع أن الاستعانة عبادة لله -سبحانه وتعالى-؛ لأنه بدونها لا تتم العبادة، لأنه بدون الاستعانة بالله وبدون توفيقه لا تكون العبودية له -سبحانه-، استعينوا بالله... ومن أين تحصل هذه الاستعانة؟ من شهود أن الأمر بيد الله، وأن الملك ملكه، وأن الخلق كلهم نواصيهم بيده.

    اسمع إلى قول المستعين حقاً بالله -سبحانه وتعالى- من أنبياء الله -عز وجل- وكيف كان موقفهم ممن يمكرون بهم؟ اسمع إلى قول الله -عز وجل- عن نوح -عليه السلام- فيما ذكر عنه فيما قال لقومه أنه قال: (يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنْظِرُونِ) (يونس:71)، لا يقول لهم: كفوا عنى أو ابتعدوا عنى، ولا تؤذوني، وإنما يقول لهم: اجمعوا كل ما عندكم أنتم وشركاؤكم وكيدوني بكل ما تقدرون عليه من كيد ولا تؤخروني لحظة، فاجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن عليكم أمركم غمة، لا تترددوا (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلاَ تُنْظِرُونِ) لأنه توكل على الله -عز وجل، سبحانه وتعالى-.

    وقال هود -عليه السلام- مثلها حين قال قومه له: (إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ) (هود:54-55)، (كِيدُونِي) أي اجتمعوا على كيدي (ثُمَّ لاَ تُنْظِرُونِ) أي لا تؤخروني ولا تعطوني مهلة، لماذا؟ (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (هود:56)، سبحان الله... هذا القدر العظيم من التوكل على الله والاستعانة بالله جعله يحثهم -استهتاراً بمكرهم واستهانة بملكهم وتخطيطهم- يحثهم على أن يكيدوا له وأن يجتمعوا على ذلك، لأنه متوكل على من خلق كلهم نواصيهم بيده (مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا).

    كان يدعو النبي -صلى الله عليه وسلم- بمثل ذلك كل ليلة، عندما يقول قبل أن ينام: (اللهم رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى منزل التوراة والإنجيل والفرقان أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها)(رواه مسلم)، -وفى الرواية الأخرى: (أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنى الدين وأغنني من الفقر)(رواه أبو داود، وصححه الألباني).

    وبذلك نقول أن الاستعانة تحصل في قلب العبد إذا استشعر أن الله هو الذي بيده نواصي الخلق، أمورهم كلها بيده، وكذلك إذا استحضر أنه ملك لله يفعل به ما يريد، وهو مطلوب منه أن يفعل ما أمر به من العبادة.

    قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ -رضي الله عنه-: (والله إني لأحبك فلا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) (رواه أبو داود، وصححه الألباني)، فأنت تستعين بالله على أن تظل ثابتاً وعلى أن تظل عابداً شاكراً (أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).

    قد طلب موسى -عليه السلام- المؤازرة بهارون، لكي يسبحا كثيراً قال: (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي. هَارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي. كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا. وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا. إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا. قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) (طه: 29: 36).

    فالاستعانة بالله -عز وجل- تنبع من شهود أن الأمر بيده، من شهود القضاء والقدر، ومرتبة الاستعانة -أي طلب العون من الله- إنما هي استعانة على عبادته -سبحانه وتعالى-، والله -عز وجل- جعل الناس في هذه المنزلة مراتب وأنواعاً، فمنهم من يستعين بالله -سبحانه وتعالى- على قضاء مصالحه الدنيوية فهو يتوكل على الله في أمر الرزق، وفى أمر الأولاد، وفى أمر الوظيفة، وفى أمر العمل وغير ذلك، وهذا وإن كان حسناً إلا أنه ليس فقط هو المطلوب.

    وكثير من الناس يستعين بالله -عز وجل- ويدعوه لنيل المحرم والعياذ بالله، فهو يتوجه إلى الله وليس في باله أن يطيع الله -عز وجل-، ربما وجدت من يخرج لأكل الربا يقول توكلت على الله ونجده فعلاً يسأل الله التوفيق في هذا العمل، لأنه حصل له الجهل المركب والعياذ بالله، ولم يعبأ بأن يبحث عن الشرع، ولم يتعلم شرع الله -سبحانه وتعالى-، ولذلك ظن الجاهل أنه يتوكل على الله لنيل معصية وربما حصل له ذلك.

    وإبليس لم يتوجه لغير الله لطلب المد في عمره، قال: (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(ص: 79)، من سأل؟ ربنا -سبحانه وتعالى-، وأعطاه الله ما سأل والعياذ بالله، لماذا؟ لكي يستعين بهذا العمر الطويل على إضلال الناس، على محاربة الله، يا للعجب!! أيظن أن الله لا يدرى ولا يعلم ما في نفسه حتى كتم هذا الأمر إلى أن تأكد أن الله أنظره فقال: (فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُم ْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)(ص:82-83)، لكنها نوعية عجيبة، ونوعية من المخلوقات غريبة، تستعين بالله على الكفر به ومعاداته ومعصيته وتطلب منه وتستعين به على ذلك، نوعية غريبة، لكنها موجودة بالفعل ولا تسغربها.

    وأعلى الناس قدراً في أمر الاستعانة هو من يستعين بالله على عبادته... على طاعته... لأنه يعلم أنه لا يقدر على الطاعة إلا بتوفيق الله -سبحانه وتعالى-.

    فالله -سبحانه وتعالى- يحب من يذكره فهذا الأمر الأول: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ)(الأعراف:128)، أما الأمر الثاني: (وَاصْبِرُوا)(الأعراف:128).

    فتأمل معي في استفسار من يحاربون المسلمين بالفعل في كل المشارق والمغارب ألا يصيبهم من الجراح والقتل والمتاعب والشقاء؟ يصيبهم كثيراً وأمراض وبلاء، ومع ذلك هم على ما هم عليه صابرون، فهناك من يصيبه ذلك وهو في إثم عاقبه، وهناك من تسلب صحته جزاء إفراطه في ظلم الناس ويبدل بها ضعفاً.

    أخ من الأخوة بالأمس يحكى لي يقول: أجل كان من شهرين أو من شهر ونصف في كمال القوة والعافية، وكان من عادته أن يظلم كثيراً من الناس، فيقول: مررت به الأسبوع الماضي وقد أصيب بورم -يعنى سرطاني- فأخذت حنجرته كلها وأصبح في هزال شديد، من شهر ونصف فقط.

    وهناك من يجيء له الألم بسبب طاعة الله -سبحانه وتعالى- وهذا في الحقيقة ألم له مرارة، ولكن حلاوة الطاعة أذابته.

    نقول أن أنواع الصبر الثلاثة: الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على أقدار الله المؤلمة، مجتمعة فيمن يطيع الله -سبحانه وتعالى- في وقت الشدة، لماذا؟ لأنك أثناء الشدة تحتاج إلى صبر شديد، الكل يريد أن يبعدك عن الطاعة، ابعد عن هذه الطاعة كي تسير حياتك بسهولة، لا والله الحياة لا تسير بسهولة بغير طاعة، وإن ظن الناس أنهم يعيشون حياة سهلة، فانظر والله على متاعب الناس الذين ابتعدوا عن الإسلام وابتعدوا عن الدين، هل يعيشون حياة سهلة أم ضنكاً؟!

    والله إنها حياة ضنكٍ وشقاء بأنواعه، حتى الأغنياء وحتى الملوك والرؤساء والكبراء، وحتى السادة المبرزون المشهورون فإن حياة الضنك تحيط بهم كما توعد الله فقال: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى. قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا. قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (طه:123-126)، ولو لم يكونوا في ضنك فلماذا يشربون الخمر؟! ولماذا يستعملون المخدرات؟! ولماذا يريدون أن يسيحوا في الأرض وينطلقوا بحثاً عن اللذات؟ لو أن الإنسان كان سعيداًً فلماذا يبحث عن أسباب أقوى للمتعة؟ لماذا يغيب عقله؟!

    ثم ننتقل بعد ذلك إلى مقام الصبر، الصبر بأنواعه الثلاثة: وهى مجتمعة في من يطيع الله، في فترات الشدة والمحن، هي مجتمعة بالفعل، لأن الصبر صبر على الطاعات: وهو أعلى أنواع الصبر، وصبر عن المعاصي: وهو حبس النفس عنها، وصبر على أقدار الله المؤلمة، والإنسان تصيبه أشياء مؤلمة. على أي الأحوال لا تخلو الحياة من ألم، منذ نزل آدم -عليه السلام- والإنسان يشقى، الدنيا فيها ضنك، لا بد من وجود ألم في الدنيا، ولكن من الناس من يجرى عليه الألم وهو في معصية الله، وهناك من يجرى عليه الألم بغير طاعة ولا معصية، بل مصيبة تصيبه، وهناك من يجري عليه الألم من الكفار وهم في الكفر -والعياذ بالله-.

    أما الصبر عن المعاصي فالكل يدعوك إلى المعاصي، وانتشار الفساد يجعل المعصية سهلة، يجعل المعاصي في متناول كل إنسان، إذا أراد شاب مثلاً: أن ينال من فتاة شيئاً أيصعب عليه ذلك في وسط هذا الكم الهائل من التسيب والانحلال والإباحية؟ ولذلك فالصبر في هذا المقام أعظم من الصبر عن هذه المعصية في مجتمع مسلم كل الفتيات فيه محجبات، والرجال فيه -رجال- يمنعون نساءهم من الاختلاط المحرم الفاسد، ويمنعون بناتهم وأخوتهم ذلك، المجتمع كله يذم من يزني ويذم من ينظر ويذم من يعاكس، ويتوعده بالعقاب، أي الصبرين أعظم؟!

    مع ما يوجد في المجتمع المسلم وهو مأمور بالصبر وكان ثوابه عظيماً، فكيف في وسط الفساد المنتشر في الأرض المبثوث في كل مكان، الذي يسهل معه أن ينال ما يريد إذا لم يكن يتقي الله -سبحانه وتعالى-.

    أما الصبر على أقدار الله المؤلمة فإنما يصيبه بسبب طاعته، لأنه يتوعد ويخوف (وَيُخَوفونك بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) (الزمر:36)، وقد يصيبه في ذلك فيحتسب عند الله -سبحانه وتعالى-، ويصبر ويكون بذلك قد حصل أعظم أنواع الصبر.

    استعينوا بالله واصبروا: هذه الكلمة الخالدة التي يحتاجها كل مسلم عبر التاريخ ثم يورث الله -سبحانه وتعالى- الأرض لعباده المتقين، قال -تعالى-: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24).

    اليقين بوعد الله -سبحانه وتعالى- والصبر على دينه في فترات الشدائد، كل ذلك من أعظم الواجبات، عندما يقال لك ما قيل للرسل من قبل، عندما تقبل على الالتزام بطاعة الله -سبحانه وتعالى- يكون اليقين بوعد الله من أعظم مقامات العبادة، والإيمان أن توقن أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، توقن أن العاقبة للمتقين، لا تغتر بما يرى من بداية: ترى فيها الموازين لصالح الكفر، وترى القوى في العالم بأسره بأيدي المشركين، والله إن ذلك اختبار لك لكي تستحضر ما أخبر الله -سبحانه وتعالى- به من أن المؤمنين هم المنتصرون، وتتذكر ذلك لتزداد يقيناً بوعد الله، هذه الآية الكريمة من المبشرات: (إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (الأعراف:128).

    قال -عز وجل- في معنى هذه الآية آيات كثيرة لكي نستيقن بوعد الله -سبحانه وتعالى-، قال -عز وجل-: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ) (الأنبياء:105- 106)، (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ) أي في جنس الكتب المنزلة على الأنبياء وهي: الكتب التي تزبر -أي تكتب- (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) أي من بعد كتابه ذلك في اللوح المحفوظ (أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)، العبادة والصلاح وصف الوارثين للأرض.

    إذاً حقق الصلاح واجتهد في العبودية لكي تكون ممن يرث الأرض كما قال بعدها: (إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ)، إذاً نحتاج في هذا المقام إلى الاجتهاد في العبادة، وإلى أن نكثر من الصلاة والصيام والدعاء والتضرع إلى الله -سبحانه وتعالى- وخصوصاً إذا خوفت كما قال -عز وجل-: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:173- 175).

    لذلك أنت تحتاج إلى تتبع رضوان الله، افعل ما يرضي الله... أكثر من الطاعة... أكثر من العبادة، ومن الذكر ومن الدعاء... فإن ذلك من أعظم ما يعينك على الثبات على دين الله -سبحانه وتعالى.

    ومن أعظم ما يحتاج إليه المؤمن أن يكون مع إخوانه في الله، يوثق علاقته بهم، ويتعاون معهم على نصرة الدين وإقامة شرع الله، ولا يبتعد عنهم.

    فمجتمعنا الذي كان في يوم من الأيام مجتمعاً مثالياً يعيش الناس فيه بالإسلام وللإسلام ينجو بأفراده وجماعاته لا يعبأ بالفتن، ولا تنال منه المحن، ولا تستميله الشهوات، ولا تضله الشبهات، ابتَعد شيئاً فشيئاً عن حقيقة الالتزام بدين الله ولم يبق منه على الخير إلا بقية قليلة لاذوا بقوارب النجاة وتحصنوا بالدعوة على الله وملازمة المساجد ومصاحبة أهل الخير ممن يدعون إلى إقامة دين الله، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بحكمة وبصيرة، وهؤلاء هم الأحياء -أحياء القلوب- الذين نجوا بسفينة السنة، وفطنوا لشراك البدعة فأفلتوا منها.

    نحن كنا كركاب سفينة كبيرة، ولكنها غرقت وبقيت لنا قوارب نجاة يجتمع فيها بعض من يلتمس النجاة وأسماك القرش في البحر المتلاطم الأمواج تحيط بقوارب النجاة من كل جانب وتنهش في جوانبه، وهى ليست كالسفينة شديدة محكمة، بل هي مطاطية، أسماك القرش ربما تأخذها من جوانبه وتفزع كل من فيها، ومع ذلك أتظنون عاقلاً يقول: أسماك القرش تحيط بالقارب وأنا أريد إنقاذ نفسي، سوف ألقي بنفسي في البحر، أيكون عاقلاً هذا الذي يلقي بنفسه وسط الأسماك ويترك قارب النجاة الوحيد؟؟!!

    لا شك أنه هالك قبلهم، وأسماك القرش تفعل ذلك لكي يلقي الناس أنفسهم إليها لكي يأكلوهم أكلاً، وأما العاقل فهو يسعى إلى سد ثغرات القارب ونزح المياه التي تأتي عليه من البحر. لا شك أن أمواج الفتن عالية ورياحها عاتية والأخطار محدقة ونذر الهلاك كثيرة.

    لكن لا بد أن نتعاون على حفظ هذا القارب، المجتمع الذي كان في يوم من الأيام مجتمعاً مثالياً يعيش الناس فيه بالإسلام وللإسلام منذ مئات السنين غرق تدريجياً إلى أن صار بعيداً عن حقيقة الالتزام بالإسلام، وبقيت فيه قوارب النجاة وهى من يدعو إلى الله -عز وجل- ويلتزم من أهل المساجد ومن أهل الخير وممن يدعون إلى إقامة دين الله، فهذه قوارب النجاة، أما أسماك القرش حولك -وهي أهل الفتن- الذين يقولون لك:

    "ابتعد عن هؤلاء لكي تطمئن"، لماذا هم المقصودون؟ لأنهم هم الباقون لأن الآخرين قد غرقوا، لا يريد أحد أن يبحث عن هؤلاء الموتى وإنما يريدون هؤلاء الأحياء -أحياء القلوب- لذلك الخطر كل الخطر أن تذهب بنفسك إلى أمواج الفتن، وأن تبتعد عن أسباب طاعة الله -سبحانه وتعالى-.

    هذه أمور لا بد أن تكون على بينة منها لكي تثبت على دين الله -سبحانه وتعالى-، وكي تستمر على طريق الهداية رغم كل أنواع المعوقات والعقبات التي تموج بنا في الطريق.

    وكذلك وصية أخرى نختم بها كلامنا، أعظم ما يحيى القلب هو ما أنزله الله روحاً من عنده: "كتاب الله -سبحانه وتعالى-"، لا بد أن نستمد منه الحياة: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ) (الشورى:52-53).

    ولا أعني بذلك مجرد تصحيح اللسان وحفظ الحروف والكلمات -وإن كان ذلك هو الخطوة الأولى اللازمة-، ولكن لا بد بعدها من التدبر وإمرار الآيات على القلوب (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ) (ص:29)، وليكن تصحيحك للحروف والكلمات وسيلة إلى تدبر قلبك لها، كما قال أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- للنبي -صلى الله عليه وسلم-: (لو علمت أنك تستمع لحبرت لك تحبيراً)، أي لزينت لك القرآن بصوتي تزييناً، وأنت تريد بتصحيح الكلمات والحروف أن تتفهم القرآن أكثر، لأن من لا يحسن القراءة ربما يفوت على نفسه خيراً كثيراً من التدبر في القراءة بسبب عدم إتقانه للقراءة.

    فنصيحتي إلى إخواني وأبنائي الشباب: أن يستغلوا هذه الفرصة، فأنت في مرحلة يمكنك أن تحفظ، ولكن كما ذكرت لا يكون همك أنهم سيقولون عنك متقن أو ستعطى إجازة تفخر بها وتعلقها على الجدران، أو تعمل بها في أوقات تحتاج إلى العمل فيها.


    ولكن اجعل ذلك وسيلة إلى الغاية المقصودة فإنما أنزله الله للتدبير (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ).

    نسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا منهم، وأن يثبت قلوبنا على دينه، اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك واجعلنا من عبادك المخلصين.





الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •