الحملات الصليبية قديمة متجددة - تقرير
أحمد الشجاع
الإسلام وحملات الأعداء لم تتوقف ضده بشتى الطرق والوسائل.. إما عبر إثارة الفتن بين المسلمين، أو الحملات العسكرية المباشرة، أو غرس الثقافات الهدامة في عقول ونفوس المسلمين، أو الهيمنة الاقتصادية ونهب ثروات العالم الإسلامي، وإفقار أهله.
وتعتبر الحملات الصليبية ضد العالم الإسلامي ضمن أشد وسائل العنف والإرهاب والتدمير والإبادة الجماعية، وهي البداية العملية التي مهدت لمرحلة الاستعمار.. وما يعانيه العالم الإسلامي اليوم من مآسي وأزمات هو امتداد لتلك الصليبية الدموية.
وفي التقرير التالي ملامح من الحملات الصليبية بدوافعها وأسبابها ومظاهرها وظروفها.
الحملات الصليبية
الحملات الصليبية أو الحروب الصليبية بصفة عامة اسم يطلق على مجموعة من الحملات والحروب التي قام بها أوروبيون في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي إلى الثلث الأخير من القرن الثالث عشر (1096 - 1291م)، كانت بشكل رئيسي حروب فرسان، وأسميت بهذا الاسم؛ لأن الذين اشتركوا فيها كانوا يخيطون على ألبستهم على الصدر والكتف علامة الصليب من قماش أحمر.
كانت السبب الرئيس في سقوط البيزنطيين بسبب الدمار الذي كانت تخلفه الحملات الأولى المارة في بيزنطة (مدينة القسطنطينية) عاصمة الإمبراطورية البيزنطية وتحول حملات لاحقة نحوها.
وقد خاض الحروب الصليبية ضد المسلمين وثنية من السلاف، والمسيحية الروسية، والأرثوذكسية اليونانية، والمغول، والأعداء السياسيين للباباوات.
سمي الصليبيون في النصوص العربية بالفرنجة أو الإفرنج وسميت الحملات الصليبية بحروب الفرنجة، أما في الغرب فقد سمي الصليبيون بتسميات متعددة كـ"مؤمني القديس بطرس" أو جنود المسيح.
ورأى من كان مندفعاً بدافع الدين من الصليبيين أنفسهم على أنهم حجاج، واستخدم اسم "الحجاج المسلحين" لوصفهم في إشارة إلى أن الحجيج لا يحمل السلاح في العادة.
وكان الصليبيون ينذرون أو يقسمون أن يصلوا إلى القدس ويحصلوا على صليب من قماش يخاط إلى ملابسهم، وأصبح أخذ هذا الصليب إشارة إلى مجمل الرحلة التي يقوم بها كل صليبي.
وفي العصور الوسطى كان يشار إلى هذه الحروب عند الأوروبيين بمصطلحات تقابل الترحال والطواف والتجوب والطريق إلى الأرض المقدسة.
وظهر مصطلح "الحرب الصليبية" أو "الحملة الصليبية" على ما يبدو أول ما ظهر في بحث لمؤرخ بلاط لويس التاسع عشر، لويس ممبور سنة 1675م.
دوافع ومطامع
أصل الحروب الصليبية تكمن في التطورات في أوروبا الغربية في وقت سابق في العصور الوسطى، فضلاً عن تدهور حالة الإمبراطورية البيزنطية في الشرق الناجمة عن موجة جديدة من الهجمات التركية المسلمة.
جاءت بداية الحروب الصليبية في فترة كانت فيها أوروبا قد تنصرت بالكامل تقريباً بعد اعتناق الفايكينج والسلاف والمجر للمسيحية.
فكانت طبقة المحاربين الأوروبيين قد أصبحوا بلا عدو لقتاله، فأصبحوا ينشرون الرعب بين السكان، وتحولوا إلى السرقة وقطع الطرق والقتال في ما بينهم، فكان من الكنيسة أن حاولت التخفيف بمنع ذلك ضد جماعات معينة في فترات معينة من أجل السيطرة على حالة الفوضى القائمة.
لقد كان المجتمع الأوروبي الغربي في هذه الفترة تسوده المنازعات والحروب المحلية بين الأمراء الإقطاعيين؛ مما ساعد على ازدياد سوء الأحوال الاقتصادية والاجتماعية في الغرب الأوروبي، كما كان للصراعات القائمة بين رأسي العالم المسيحي الغربي حينذاك، وهما البابا والإمبراطور أثر كبير في مجريات الأحداث الأوروبية، فلقد بلغت البابوية درجة عظيمة من القوة واتساع النفوذ في هذه الفترة؛ مما فتح أمامهما المجال لكي تصبح القوة العالمية بمعنى أن يكون البابا هو الزعيم الروحي لجميع المسيحيين في الشرق والغرب على حد سواء، بجانب الخلافات المستمرة الموجودة بين الكنيستين الأرثوذكسية الشرقية والكاثوليكية الغربية، إذ أصرت كل منهما على أن تسود وجهة نظرها وأن تكون لها الأولوية على الأخرى.
ولهذا السبب عندما عرضت فكرة الحرب المقدسة على البابا أوربان الثاني (471 - 491هـ) (1078 - 1097م) وجد في تنفيذها فرصة كبيرة لإنهاء الخلاف بين الكنيستين والسيطرة على الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية وإدماجها في الكنيسة الغربية تحت زعامته، على أن يتم ذلك كله تحت ستار محاربة المسلمين وحماية البيزنطيين واسترداد الأراضي المقدسة في فلسطين، هذا بالإضافة إلى أغراض أخرى عديدة كانت البابوية ترغب في تحقيقها من وراء تمسكها بفكرة الحرب المقدسة، منها التخلص من نفوذ كبار رجال الإقطاع في الغرب، وإنهاء الحروب المستمرة عن طريق توجيه هذه الطاقات واستغلالها في الحرب المقدسة، علها تفتح لهم بذلك منفذاً لحياة أفضل في الشرق بدون منازعات.
وقد اختلفت الآراء في تفسير طبيعة الحركة الصليبية والدوافع الكامنة وراءها فمنها ما هو مادي والبعض يرى أنها وليدة الحماس أو التعصب الديني التي عرفت بها أوروبا في العصور الوسطى، وأن الباعث الحقيقي لتلك الحروب كان في الواقع هو الهوس الديني الممزوج بأغراض أخرى كالميل إلى تأسيس ممالك جديدة والحصول على الثروات الطائلة.
وقد اعتبر غالبية المؤرخين القدامى والحديثين تلك الحروب أنها حروب دينية، وأن العامل الديني كان الدافع الأساسي وراءها من أجل استعادة قبر المسيح على حد زعمهم والأراضي المقدسة من أيدي المسلمين، وهناك آخرون يعتبروها أحد مظاهر التوسع الاقتصادي الاستعماري في العصور الوسطى.
ويؤكد الفيلسوف البريطاني برتراند رسل أن الحماس الديني كان أحد الأسباب الأصلية التي أسهمت في الحركة الصليبية، إلى جانب الدوافع الاقتصادية؛ "فقد كان الشرق يبشر بأن يكون مصدراً ضخماً للغنائم، والأهم من ذلك أنها غنائم تكتسب في سبيل قضية فاضلة مقدسة"، حسب قوله.
ويرجح أن الحروب الصليبية كانت نتيجة لتفاعل هذه العوامل مجتمعة؛ لأنها قامـت لأسـباب سياسية واقتصـادية واجتماعية، واتخذت الدين وقوداً أو وسيلة لإخفاء أغراضها المذكورة، ولا يمكن التقليل من الدافع الديني في تلك الحروب بأي وجه من الوجوه
بدأت ولم تتوقف
إن مما يجدر ذكره أن الحرب الصليبية بين المسلمين والنصارى الغربيين وغيرهم، لم تبدأ في نهاية القرن الخامس الهجري، ولم تنته في القرن السابع الهجري، بل هذه الحملات هي سلسلة في هذا الصراع الطويل، الذي بدأ بظهور الإسلام، واستمر بصيغ دورية متعاقبة كادت تغطي المدى الزمني لظهور الإسلام والعصر الحديث.
وقد قسمت محاور الصراع إلى عدد من المحاور التي استمر عليها، ولم يكن أدوار الصراع على كل واحد من هذه المحاور يفتر قليل حتى يشب ثانية في محور جديد لا يقل عنه ضراوة وعنفاً، واستنزافاً للطاقات الإسلامية في مساحات واسعة من الأرض، وهذه المحاور هي:
أولاً: البيزنطيون:
ترجع بدايات التحرك البيزنطي المضاد للإسلام إلى عصر الرسالة نفسه، فمنذ العام الخامس للهجرة وعبر معارك دومة الجندل، وذات السلاسل، ومؤتة، وتبوك، وانتهاء بحملة أسامة بن زيد رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين، كان المعسكر البيزنطي يتحسس الخطر الإسلامي الجديد القادم من الجنوب، لاسيما بعدما تمكنت الدولة الناشئة من فك ارتباط العديد من القبائل العربية شمالي الجزيرة من سادتهم القدماء الروم، وسواء أكان البيزنطيون يتحركون ضد القوات الإسلامية بفعلهم ابتداء أو كرد فعل للتحرك الإسلامي، فإن المحصلة الأخيرة هي أن هذا المعسكر بدأ يدرك أكثر فأكثر حجم التحدي الجديد ويعد العدة لوقفه، صحيح أن هذه العدة لم تكن - أحياناً - بالحجم المطلوب، ربما بسبب عدم دقة المعلومات التي كانت القيادة البيزنطية تبني عليها مواقفها إلا أن النتيجة هي أن النار اشتعلت عبر هذا المحور، وازدادت اشتعالاً بُعيد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتدفق القوات الإسلامية في البلاد التي يسيطر عليها البيزنطيون، وبعد إخراج البيزنطيين من ممتلكاتهم في آسيا وأجزاء من إفريقيا على أيدي القيادة الراشدة، التي شهدت المراحل التالية منها محاولات التفاف وردود أفعال عديدة وهجمات مضادة نفذها هذا المعسكر في البّر والبحر، ولكنها آلت في معظمها إلى الخسران، تم ما لبث البيزنطيون أن انحسروا عبر العقود التالية، وبفضل الملاحقة الدؤوبة التي قام بها الأمويون ابتداء من معاوية رضي الله عنه مؤسس الدولـة الأمـوية، وعهد عبد الملك بن مروان وبنيه خصوصاً الوليد وسليمان.. واستمرت الملاحقة النشطة للبيزنطيين بعد الأمويين في الشام ومصر وشمال إفريقيا، وانحسروا بالكلية عن الشمال الإفريقي ومساحات واسعة من البحر المتوسط، وانزووا هناك في شبة جزيرة الأناضول، فضلاً عن ممتلكاتهم في أوروبا نفسها، وهكذا وبمرور الوقت، أصبح خطر هجماتهم المضادة محدوداً؛ لأنها تركزت عند خط الثغور في الأناضول والجزيرة الفراتية دون أن تتعداه إلى العمق إلا نادراً بسبب يقظة القيادات الإسلامية، وتحصينها لخط الحدود من جهة، وقيامها بهجمات مستمرة ضد الدولة البيزنطية، وتوغلها بعمق باتجاه القسطنطينية نفسها من جهة أخرى؛ الأمر الذي لم يدع الإمبراطور البيزنطي - في معظم الأحيان - أن يأخذ زمام المبادرة، وأن يوسع نطاق هجومه المضاد اللهم إلا عند مطلع القرن الرابع الهجري حيث كانت الدولة العباسية قد ضعفت.
إلا أن ظهور السلاجقة أعطى دفعة قوية لحركة الجهاد الإسلامي، وقد استطاعوا في عهد السلطان السلجوقي ألب أرسلان أن يحققوا نجاحاً ساحقاً ضد العمود الفقري للقوات البيزنطية في معركة ملاذكرد عام 463هـ، وكان هذا الانتصار بمثابة نهاية لتحديات الدولة البيزنطية وهجومها المضاد، واستمر على تلك الحال حتى سقوطها بعد عدة قرون على يد العثمانيين.
ثانياً: الأسبان:
شهدت الساحة الأندلسية، منذ بدايات مبكرة هجمات مضادة متواصلة قادمة من الشمال حيث يتحصن الأسبان في المناطق الأشد وعورة، ولقد تمخضت هذه الهجمات عن صراع مرير قدرت القيادة الأموية عبره أن تجابه الهجوم المضاد لمدى ما يقرب من القرون الثلاثة، وأن تحتويه وترغمه على الانحسار في الجيوب الشمالية لشبه الجزيرة الإيبرية، ثم جاءت دفقة الحيوية الإسلامية الجديدة مرتين إحداهما على يد المرابطين القادمين من المغرب، الذين سجلوا لنا في صفحات المجد انتصارهم العظيم في معركة الزلاقة على النصارى الإسبان في عام 479هـ، والأخرى على أيدي الموحدين الذين جاءوا من بعدهم الذين حققوا انتصاراً ساحقاً على النصارى في معركة الأرَك عام 591هـ.
وبذلك تمكن الإسلام في الأندلس من الصمود بمواجهة التحدي ومقارعة الهجوم الإسباني المضاد سلاح شبه متكافئ لمدى يقرب من القرون الأربعة.
لكن المسلمين هناك ما لبثوا أخيراً أن استنزفوا، وزادهم ضعفاً انقسامهم على أنفسهم وصراعهم الدموي الطاحن فيما بينهم؛ الأمر الذي حول ميزان القوى لصالح القيادة النصرانية التي تمكنت في نهاية المطاف من إسقاط آخر كيان إسلامي هناك (مملكة غرناطـة 897هـ).
ثالثاً: الحركة الصليبية:
إن الحركة الصليبية هي رد الفعل المسيحي تجاه الإسلام، تمتد جذورها إلى بداية ظهوره، وخروج المسلمين من جزيرتهم العربية واصطدامهم بالدولة البيزنطية، وأن هذه الحركة تطورت كالكائن الحي على مدى القرون ما تكاد تخرج من طور إلا لتدخل في طور جديد، وما كانت الفترة الزمنية الممتدة بين سنتي (488هـ - 690هـ - 1095م - 1291م) إلا أحد أطوارها فقط، وأن بروز هذا الطور بهذا الشكل الذي كان يطغى على باقي أطوارها يعود إلى عوامل عديدة معقدة ومتشابكة يستطيع الباحث أن يتلمسها في الدوافع والأسباب التي أدت إلى إطلاق الموجة الصليبية العاتية من عقالها في هذه الفترة.
وقد تصالح المؤرخون على إطلاق الحروب الصليبية على الحركة الاستعمارية الصليبية التي ولدت في غرب أوروبا واتخذت شكل هجوم مسلح على بلاد المسلمين في الشام والعراق والأناضول، ومصر وتونس؛ لاستئصال شأفة الإسلام والمسلمين والقضاء عليهم واسترجاع بيت المقدس وجذور هذه الحركة نابع من الأوضاع الدينية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية والسياسية التي سرت في غرب أوروبا في القرن الحادي عشر، واتخذت من الدين وقوداً لتحقيق أهدافها.
فالغزو الصليبي ليس أمراً جديداً ولا ظاهرة غريبة أو استثنائية وإنما هو القاعدة وغيره الاستثناء، إن التحديد الزمني للحركة الصليبية بين سنتي 588هـ - 690هـ، هو تحديد خاطئ، ونقل عن الدكتور سعيد عاشور قوله: لا يقوم على أساس سليم ولا يعتمد على دراسة الحركة الصليبية دراسة شاملة، وإنما يكتفي بعلاج مبتور يشمل جزءاً من تلك الحركة ولا يعبر عن جذورها وأصولها من ناحية، ولا عن ذيولها وبقاياها من ناحية أخرى. لقد كانت المقاومة الإسلامية لهذا الغزو تعبيراً فذاً عن استمرار تيار العقيدة في نفوس المسلمين، على مستوى القمة حيناً، وعلى مستوى القواعد معظم الأحيان، لقد صنعت تلك الحقبة مجاهدين على درجة كبيرة من الفاعلية والقدرة، وقد انتشر هؤلاء المجاهدون في كل الجبهات وقاموا بمقاومة الغزاة في كل الفترات، وعلى مدى قرنين من الزمن لم يتخلوا عن المقاومة ولم يستكينوا أو يضعوا السلاح، كانوا على استعداد في كل لحظة لركوب خيولهم والانطلاق سراعاً إلى الأهداف، والجهاد لا تضعه النظريات والأماني، والمجاهد لا يتحرك في الفراغ، ولكنها التحديات التاريخية الكبيرة هي التي تضع الجهاد وتبعث المجاهدين، وتنفخ في المقاتل المسلم روح البطولة والتضحية والاستشهاد.
رابعاً: حركة التفاف الصليبيين:
ما لبثت أوروبا بعد سحق الوجود الإسلامي في إسبانيا أن بدأت بقيادة إسبانيا والبرتغال، ومن بعدهما بريطانيا وهولندا وفرنسا، عملية الالتفاف التاريخية المعروفة على عالم الإسلام عبر خطوطه الخلفية في إفريقيا وآسيا، والتي كانت بمثابة حركة الاستعمار القديم التي ابتلي بها العالم الإسلامي فيما بعد، والتي استمرت حتى العقود التي أعقبت سقوط الخلافة العثمانية، كان المماليك في مصر والشام قد بلغوا مرحلة الإعياء، وكان اكتشاف الطريق البحري الجديد حول رأس الرجاء الصالح قد وجّه لتجارتهم - التي هي بمثابة العمود الفقري لمقدرتهم المادية - ضربة قاصمة، أما العثمانيون فكان جهدهم منصباً على اختراق أوروبا من الشرق، ولم تكن لديهم الجسور الجغرافية التي تمكنهم من وقف محاولة الالتفاف تلك في بداياتها الأولى، ولكنهم ما لبثوا بعد عدة عقود أن تحركوا لمجابهة الموقف، ومع ذلك فقد دافعت الشعوب والقيادات الإسلامية المحلية في المناطق التي ابتليت بالغزو دفاعاً مستميتاً، وضربت مثلاً صلباً في مقاومتها المتطاولة للعدوان، وألحقت بالغزاة خسائر فادحة على طول الجهات والمواقع الساحلية التي سعى هؤلاء إلى أن يجدوا فيها موطئ قدم.
وقد استطاع العثمانيون إنقاذ العالم الإسلامي من الغزو البرتغالي الإسباني الذي استهدف خنق التجارة الإسلامية، وحين حاولوا السيطرة على ساحل المغرب الإسلامي للإغارة عليه وضربه سارع العثمانيون بالسيطرة على المغرب كله ماعدا مراكش واستطاعوا مواجهة الإسبان في حوض المتوسط وجزائره وسواحله وأدالوا منهم، وبذلك استطاعت القوة البحرية العثمانية أن تحفظ شاطئ البحر المتوسط للإسلام والمسلمين، واستطاع العثمانيون أن يسيطروا على ساحل شرق إفريقيا وشمال المحيط الهندي في مطلع القرن الثامن عشر فأرهب ذلك الأوربيين، واستطاع أحمد بن سعيد 1740م أن يقف في وجههم في عمان حيث فقد البرتغاليون الأمل في استرداد هذه المنطقة، وقد كانت عمان بعد سقوط الأندلس أكبر قوة عربية ودامت نهضتها من عام 1000هـ إلى 1250هـ. وقد استولت على ثغور البحر الأحمر والمحيط الهندي والخليج.. فإفريقيا الشرقية إلى رأس الرجاء الصالح، وفي بضعة أجيال صار أهل عمان سادة هذه البحار العظمى الثلاثة وصار لهم أسطول ضخم هاجم الأسطول البرتغالي وأجلاه عن جميع الثغور الهندية والفارسية والإفريقية.. ولم يصبر الإنجليز على هذه الدولة البحرية التي كانت تهددهم في أملاكهم في آسيا وإفريقيا، فعملوا على مدى ثمانين عاماً على إضعافها والقضاء عليها وضرب الأسطول البريطاني مدنها بالقنابل.
خامساً: الاستعمار:
وجاءت الموجه الأوروبية المضادة التالية على يد القوات الاستعمارية التي دفعتها الثورة الصناعية إلى البحث عن مجالاتها الحيوية في القارات القديمة لتعريف بضائعها والحصول على الخامات الضرورية، وتسخير الطاقات البشرية (الرخيصة المستعبدة في إفريقيا عن طريق نقلها بالقوة فيما يعرف بحركة تهجير العبيد التي كانت بمثابة إحدى العلامات السوداء في تاريخ الصراع بين أوروبا والشرق، والتي ذهب ضحيتها عدد كبير من أبناء الشعوب الإسلامية في إفريقيا، واستمرت هذه الموجة التي قادتها بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا وإيطاليا وألمانيا إلى حد ماء، حتى العقود الأولى من القرن العشرين، وكان العالم الإسلامي فريستها الأولى، بل إنه كان فريستها الوحيدة، إذا استثنينا مساحات محدودة قطنتها أكثرية غير إسلامية.
وكانت أهدافها الاقتصادية تتحرك على خلفية صليبية عبّرت عن نفسها في أكثر من واقعة، وقدمت عبر التاريخ أكثر من دليل، إن غلاد ستون رئيس الوزراء البريطاني يقولها بصراحة أمام مجلس العموم البريطاني، وهـو يمسـك بالمصحف الشريف: ما دام هذا في عقول المصريين وقلوبهم فلن نقدر عليهم أبداً.
وعندما دخل القائد البريطاني الصليبي القدس بعد الحرب العالمية منتشياً وحلفاء بريطانيا يستقبلونه بحفاوة وتكريم إلا أنه لم يخف حقده الصليبي على الإسلام والمسلمين، وأظهر سروره وحبوره كقائد صليبي منتصر فتح القدس وفلسطين وجعلها تحت الانتداب البريطاني الصليبي، فقال: الآن انتهت الحروب الصليبية، يزعم بهذه العبارة أن هدف الحروب الصليبية باحتلال القدس وفرض السيادة الصليبية عليها وعلى فلسطين قد تحقق، وهو بهذا يشير إلى أن الحروب الصليبية التي استمرت قرنين من الزمان واحتلت القدس وفلسطين سنة 492هـ وحررها المسلمون في عام 583هـ لم تحقق هدفها، أما الحرب العالمية الأولى فقد حققت فيها الصليبية هدفها واستولت على فلسطين والقدس وكانت السيادة لها.
وأما القائد الصليبي الفرنسي فقد ذهب إلى قبر صلاح الدين في دمشق وقال عند القبر: ها نحن عدنا يا صلاح الدين.
واستمرت الحرب الصليبية، فلم تتوقف فقامت بريطانيا بإعطاء وطن لليهود على أرض فلسطين وإقامة دولة يهودية، واتخذت من القرارات والإجراءات الإدارية والعسكرية ما تقيم هذه الدولة، بتدريب اليهود على السلاح وفنون القتال وتوفير السلاح لهم، بل إعطاء بعض أسلحة الجيش البريطاني لهم، وبخاصة عندما أعلنت بريطانيا انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين في 15/05/1948م بل سلمت كثيراً من المدن والقرى الفلسطينية إلى اليهود ليعلنوا إقامة دولة يهودية عليها، وفي الوقت ذاته قد حرمت على الفلسطينيين المسلمين التدريب على السلاح واقتناء السلاح، وشنت عقوبات ظالمة على كل فلسطيني يقتني السلاح أو العتاد، فكانت عقوبة الإعدام هي الشائعة، ولقد علق من المجاهدين المسلمين على أعواد مشانق الصليبيين الإنجليز في تلك الفترة آلاف الشهداء، وزج في غياهب السجون عشرات الألوف.
وقد تزامنت الحركة الاستعمارية وارتبطت عضوياً بحركة التبشير النصرانية، بجانبيها الكاثوليكي والبروتستانتي، والتي انتشرت مراكزها في طول بلاد الإسلام وعرضها تمهد للاستعمار بأنشطتها المختلفة، وتفتح أمامه الطريق وتحظى تحت سلطانه بالكثير من المساعدات والميزات.
إلا أن هذا الهجوم الاستعماري الصليبي المضاد لم يمض بسلام ولم تركع الشعوب الإسلامية أمام إرادة القوة التي اعتمدها الغزاة، بل شمروا عن ساعد الجد واستجاشوا قدرات الإيمان الدافقة ووازنوا بتضحياتهم وعشقهم الموت، وركضهم إلى الشهادة، رغم نقص إمكانياتهم العسكرية والمادية وصنعوا بذلك الأعاجيب التي أذهلت الغربيين وعرقلة استمرارية حركتهم، ألحقت بهم الهزائم والويلات ووضعت في طريقهم الأسلاك الشائكة والألغام، ليس هذا فحسب، بل إن الاستجابة للتحدي الاستعماري النصراني بعث حركات إسلامية أصيلة تخلّقت في مناخ جهادي قاس، واستهدفت مقارعة العدوان وتحرير الأرض والعقيدة والإنسان، وقدمت نماذج من أعمال المقاومة تحدث بها الغربيون قبل الشرقيين وملأت صفحات ناصعة بيضاء في معطيات التاريخ.
الكنيسة تشعل حملات الصليب
حسب قول الكاتب شريف عبد العزيز فإن فكرة الحروب ذات الطابع الديني الخالص ترجع لكرسي البابوية التي أضفت على الصراع الخالد بين المسلمين والنصارى صفة الصليبية المتعصبة، وخلال هذا الصراع الطويل برز العديد من الباباوات الذين كان لهم دور بارز في تأجيج المشاعر العدائية ضد الإسلام والمسلمين تمثلت في حملات صليبية عالمية على الأمة المحمدية، منهم:
البابا حنا العاشر:
يعتبر البابا حنا العاشر 914-928م أول من نادى بطرد المسلمين من الحوض الغربي للبحر المتوسط؛ بدءاً بجنوب إيطاليا وجزر البحر المتوسط وجنوب غربي فرنسا ثم إسبانيا، وهي الفترة التي كانت دولة الإسلام في الأندلس وقتها في أوج قوتها ومجدها تحت قيادة عبد الرحمن الناصر أول من تلقب بأمير المؤمنين في الأندلس. وكان البحارة المسلمون وقتها أيضاً مسيطرين على حوض البحر المتوسط وفتحوا الكثير من الجزر وهددوا روما نفسها بغارات قوية كادت واحدة منها أن تفتح روما، وذلك سنة 324 هجرية. وكانت البابوية وقتها في حالة صراع مرير ضد الإمبراطور أوتو الكبير عطلت دعوات حنا العاشر وخططه نحو شن حرب صليبية ضد المسلمين.
البابا إسكندر الثاني:
يعتبر إسكندر الثاني [1061-1073] أول من استخدم فكرة صكوك الغفران كورقة لتحميس الأوروبيين على حرب المسلمين، وذلك عندما دعاهم سنة 455هـ - 1063م لنجدة إخوانهم الإسبان في الأندلس من نير المسلمين، مع العلم أن المسلمين كانوا وقتها في أضعف حالاتهم تحت حكم ملوك الطوائف. وقد أسفرت هذه الدعوة عن واحدة من أشد المجازر البشرية بشاعة عندما شن نصارى أوروبا حرباً صليبية بقيادة قائد فرسان البابوية على مدينة بربشتر في شرق الأندلس سنة 456هـ - 1064م راح ضحيتها أربعون ألف مسلم ومسلمة غير آلاف الأسرى من البنات والصبيان.
البابا جريجوري السابع:
يعتبر البابا جريجوري السابع هو أكبر وأهم من تولى منصب البابوية في التاريخ الكنسي كله، وهو مؤسس فكرة الحملات الصليبية الشهيرة على العالم الإسلامي بالشام ومصر، وقد تولى البابوية خلفاً لإسكندر الثاني سنة 466هـ - 1073م، وكانت ولايته للبابوية نقطة تحول فاصلة في حياة البابوية، إذ أصبح البابا من عهده هو سيد العالم النصراني وسيد أوروبا المطلق وصاحب السلطة الأكبر والأهم على نصارى العالم القديم. وقد أثبت ذلك في صراعه ضد الإمبراطور هنري الرابع الذي اضطر للتوجه إلي قلعة كانوسا حيث مقر إقامة البابا جريجوري السابع طلباً لمغفرة البابا وصفحه بعد أن ثار عليه شعبه وقواده، وإمعاناً في إظهار السيادة والقوة تركه جريجوري ثلاثة أيام حافياً عاري الرأس على الجليد حتى يرضي عنه.
هذا البابا أول من أشعل الحملات الصليبية على الأمة الإسلامية، ولكن العمر لم يطل ليشهد انطلاق هذه الحملات حيث هلك سنة 1088م وترك ذلك لتلميذه النجيب أوربان الثاني.
البابا أوربان الثاني:
أخذ على عاتقه إدخال الحملات الصليبية موضع التنفيذ، وقد قام بجولة أوروبية واسعة لحشد الرأي العام واستثارة الهمم الصليبية من أجل ذلك، ثم دعا لمؤتمر مصيري في كليرمونت بفرنسا في 27 نوفمبر سنة 1095م، وفيه أطلق صيحته الشهيرة "إنها إرادة الرب".
وأمر كل مسيحي ومسيحية بالخروج لنجدة القبر المقدس من أيدي الكفرة (يعني المسلمين)، ثم أفاض في حديث مليء بالكذب والأباطيل عن الاضطهادات التي يتعرض لها النصارى والحجيج ببلاد المسلمين؛ فأدى ذلك لاشتعال روح حماسية عارمة بأوروبا نحو حرب المسلمين والخروج إلى بلادهم.
وقد أرسل أوربان أحد الرهبان المتعصبين واسمه بطرس الناسك، وكان ذا موهبة خطابية فائقة، فطاف أوروبا بأسرها يدعو النصارى لمحاربة المسلمين، ونتيجة لخطب ومواعظ بطرس الناسك الحماسية والمليئة بالمؤثرات من بكاء وعويل وأكاذيب خرج مئات الآلاف من نصارى أوروبا استجابة لنداء البابا ورغبة في المغفرة ودخول الجنة بزعمهم، وذلك بلا نظام ولا ترتيب ولا قيادة، وهي الحملة المعروفة باسم حملة الرعاع والتي أبادها السلاجقة، ومؤرخو أوروبا يغفلون ذكر هذه الحملة ولا يعدونها من ضمن الحملات الصليبية.
ثم تلت هذه الحملة الفاشلة حملة الأمراء، وكان معظمهم من فرنسا وقدرت بمليون مقاتل صليبي وذلك سنة 490هـ - 1099م، وهي الحملة التي نجحت في إقامة أربع إمارات صليبية بالشام وذلك بطرابلس وأنطاكية وبيت المقدس والرها، وذلك بعد سفك دم قرابة المليون مسلم ومسلمة، والجدير بالذكر أن أوربان الثاني قد هلك قبل أن يفرح بنجاحات الحملة بأرض الشام.
البابا أوجينيوس الثالث:
كان يعتلي كرسي البابوية سنة 539 هـ - 1144م عندما استطاع الأمير المجاهد عماد الدين زنكي أن يفتح الرها، فأصدر أوجينيوس الثالث مرسوماً داعياً أوروبا لحملة صليبية جديدة على بلاد الإسلام للثأر للدين "الحق" بزعمه.
وقد أطلق على هذا المرسوم عنوان (قدر الأسلاف)، وبالفعل استجاب لويس السابع وكويزاد الثالث ملكا فرنس وألمانيا لنداء البابا وشنا الحملة الصليبية الثانية والتي تحطمت على أبواب دمشق سنة 543 هـ ـ 1148م.
البابا باسكوال الثاني:
هو الذي أنشأ جماعة فرسان المستشفى، والمعروفة في المراجع العربية بالإسبتارية، وذلك سنة 509 هـ - 1113م وكانت في البداية رعاية مرضى حجاج بيت المقدس وخدمتهم ثم تحولت لجماعة حربية شديدة البأس والتعصب تحت قيادة الراهب الإيطالي جيرار الملقب بحامي فقراء المسيح.
البابا كالكتس الثاني:
هو الذي أنشأ جماعة فرسان معبد سليمان أو الداوية كما هو معروف في المراجع العربية، وكانت مهمتهما حماية طريق الحجاج، وهذه الجماعة من أشد الجماعات الصليبية تعصباً وحقداً على المسلمين وحماسة في قتالهم، وهذه الجماعة وسابقتها عملت على تنمية الروح الصليبية الخالصة ونشر فكرة التطوع ونذر النفس لمحاربة المسلمين، وكانت تقوم على فكرة المزج بين الرهبنة والجندية، ومعظم فرسانها من الرهبان والقساوسة.
وكان المسلمون إذا ظفروا بأي أسير من هاتين الجماعتين قتلوه فوراً لكثرة جرائمهم ووحشيتهم ضد المسلمين، وكانت هاتان الجماعتان تحت الإشراف المباشر لبابا روما، ولهما من الامتيازات والإقطاعات ما يكفيهم عن العمل والتفرغ لقتال المسلمين.
البابا جريجوري الثامن:
بعد أن حقق المسلمون بقيادة صلاح الدين انتصارهم العالمي وحرروا بيت المقدس سنة 583هـ - 1187م، خرّ ميتاً من هول الصدمة البابا أوربان الثالث، وخلفه البابا جريجوري الثامن وكان شيخاً كبيراً، ولكنه سعى بكل جهده لشن حملة صليبية ثالثة على العالم الإسلامي، فأرسل خطاباً عاماً لنصارى أوروبا ووعدهم فيه بالمغفرة الكاملة لجميع خطاياهم، وفرض عليهم صياماً في كل يوم جمعة على مدى خمس سنوات قادمة، وفرض عليهم ضريبة تقدر بـ10% من دخولهم عرفت باسم ضريبة صلاح الدين، والامتناع عن أكل اللحوم في أيام السبت والأربعاء من كل أسبوع، وقد أدى هذا الخطاب لحماسة جارفة عمت أنحاء أوروبا أسفرت عن الحملة الصليبية الثالثة والمعروفة باسم حملة الملوك.
يتبع