انتشار الدعوة الإسلامية في بلاد السودان الإسلامي
(السودان الأوسط "تشاد" نموذجًا)
محمد صالح يونس ضوّاي
المقدمة:
بدأت الدعوة الإسلامية في الجزيرة العربية في السابع عشر من رمضان في الأربعين من مولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - الموافق السادس من أغسطس سنة ست مئة وعشرة ميلادية. ولم تمض فترة طويلة حتى عمت هذه الدعوة جميع أقطار العالم إما بفتح مبين وإما بحسن المعاملة والمعاشرة.
إن الدعوة الإسلامية ليست ككل الدعوات السابقة التي غالبا ما تختص بأمة واحدة فقط، ولهذا فإن الفارق الجوهري بينها وبين الدعوات الأخرى هو العالمية التي اختصت بها دون غيرها، لمواكبتها لجميع مستويات الظروف الإنسانية.
وقد وجد بعض المدعوون إليها هذه السمة المتميزة، فمالت قلوبهم ومن ثم دخلوا فيها باختيار وحرية تامة. ومن أولئك الذين نظروا في الإسلام ووجدوا فيه ما يسرهم ملوك "الكانميين" الذين كانوا سببًا مباشرًا في نشر الدعوة الإسلامية في تشاد وأفريقيا بصفة عامة.
ولما جاء الإسلام إلى هذا المجتمع لم يفكر في سوء نية دعاته بقدر ما تأملوا سلوكهم وتصرفاتهم النبيلة. وقد ساعد هؤلاء الدعاة عوامل عديدة في نجاح دعوتهم منها نظافة البيئة التشادية من أي طرح أيديولوجي واستقرار الدولة وثقافة حكامها إلى غير ذلك من الإرهاصات التي رافقت الدعوة الإسلامية ولا شك أنها من رعاية الله - عز وجل - وسوف نتطرق لكل هذه المسائل بالتدريج في هذا البحث الصغير أن شاء الله.
وقد اشتملت هذا الدراسة على مبحثين رئيسيين وفي كل مبحث ثلاثة مطالب ثانوية ونقاط أخرى فرعية.
المبحث الأول: تحديد المفاهيم والإطار المكاني للبحث
لعل من المفيد في مجال البحوث العلمية يجب علينا أولا تحديد مفاهيم البحث واحتواء إطاره المكاني، حتى تكون معالمه واضحة جلية أمام القارئ. لأجل ذلك حاولنا أن نمهد للموضوع - وهو انتشار الدعوة الإسلامية في بلاد السودان - بمبحث يحدد مفهوم الدعوة الإسلامية، ويصف الإطار المكاني الذي يهدف البحث إلى دراسته. ولتبيين ذلك لابد من تجزئة الموضوع إلى عدة مطالب:
المطلب الأول: مفهوم الدعوة والدعوة الإسلامية:
المفهوم اللغوي للكلمة: في المصباح المنير، الدَّعْوَةُ بالفتح من دَعَوْتُ الناس إذا طلبتهم ليأكلوا عندك طعاما، فيقال: نحن في (دَعْوَةِ) فلان و(مَدْعَاتِهِ). ومن هنا قال طرفة بن العبد:
نحن في المشتات ندعو الجفلى *** لا ترى الآدب فينا ينتقر
وتأتي كلمة دعوة بمعنى الصياح أو النداء، دعا فلانا أي صاح به، ومنه قول الشاعر:
وَداعٍ دَعا يا مَنْ يُجيبُ إِلى النَّدَى *** فلم يَسْتَجِبْه عِنْدَ ذاكَ مُجِيبُ
وقد يتعدى الفعل دعا بحرف الجر إلى فيراد بها الحث على فعل شي، فيقال: دعاه إلى الطعام، ودعاه إلى الله. قال - تعالى -: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[فصلت: 33].
وتأت بمعنى التسمية، قال - تعالى -: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا)[الإسراء: 110].
وتطلق ويراد بها التبليغ والاستغاثة، إلى غير ذلك من المعاني ذات الدلالات المتقاربة.
فيلاحظ أن الكلمة العربية تأخذ شكلها من ثقافة البيئة المحيطة بها ثم تتطور بتطور المعرفة الإنسانية، فبدلا من أن كانت يعبر بها في بدئ الأمر على شيء حسي وهو الطعام الذي يدل على الكرم، أصبحت فيما بعد تطلق على عدة معان معنوية، ولكن هذه المعني المعنوية متضمنة لتلك المعاني الحسية، فإذا كان الآدب يقدم للجفلى غذاءً روحيًا فإن الداعية أو المنادي للصلاة أو...يقدم لمن يدعوه غذاءً روحيًا.
أما إذا جمعنا كل المعاني التي تدور حول كلمة دعا فإننا نجدها تتمثل في اللين والتلطف والرقة. بعكس التنصير بتضعيف العين الذي يحمل معاني القوة والشدة، ولهذا فإن بعض الممارسات تستمد قوتها من المصطلحات أحيانا. قال - تعالى -في صفات الدعاة المخلصين: ? وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ? [فصلت: 33]. فالآية ركزت على خصلتين أساسيتين في الداعية هما: القول الحسن والعمل الصالح، وبدون هاتين الخصلتين لا يحقق الداعية من دعوته إلا نتائج غير محمودة.
المفهوم الاصطلاحي للكلمة: لقد حظيت الدعوة الإسلامية بتعريفات لا تحصى ولا تعد من قبل البحاث والمختصين في شتى المجالات التربوية منها والاجتماعية والنفسية والدينية والإعلامية، حتى أصبحت حقلًا معرفيًا له وزنه في مناهج الجامعات ومقاعد الدراسات العليا.
وقد اختلف هؤلاء الباحثين جميعا في تعريف الدعوة ولم يجمعوا على تعريف جامع مانع لها، وذلك لتباعد مشاربهم في حقول المعرفة العلمية، وتطور أساليب الدعوة وتباين أنماط المدعوين واختلاف ظروفهم المكانية والزمنية.
فالدعوة الإسلامية بدأت سرية على يد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم بدأت تتسع دائرتها وتتطور وسائلها حتى عم نسيمها الأرجاء، ولا زال الدعاة يقودون قافلتها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لأن الدعوة تختص بغير المسلمين فقط، قال - تعالى -: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات: 55-56]. لهذا فإن الدعوة تنقسم إلى دعوة خارجية ودعوة داخلية، وفي كليهما يجب أن يراعي الداعية أولويات الدعوة، ونظرًا لوجود دراسات متخصصة وعميقة في هذا الموضوع آثرنا أن نكتفي بهذا القدر ونترك الاستطرادات التي لا تمت إلى الموضوع بصلة.
فالدعوة الإسلامية هي: "تبليغ الناس جميعا دعوة الإسلام، وهدايتهم إليها قولا وعملا في كل زمان ومكان، بأساليب خاصة تناسب مع المدعوين على مختلف أصنافهم وعصورهم "[1].
هذا التعريف في نظري انه قريب من الحقيقة لأنه اشتمل على عدة أشياء منها:
1- عالمية الدعوة الإسلامية ووجوب تبليغها لكافة الناس أينما وجدوا.
2- وجوب اختيار الأساليب التي تناسب المدعو.
3- مراعاة الزمان والمكان والأشخاص الذين تنقل إليهم الدعوة[2].
4- التسليم التام بان الدعوة تتواكب مع العصر ومجريات الأحداث.
5- يشترط أن تكون أساليبها مشروعة وأن لا تخدش مصلحة أو تجلب مفسدة.
المطلب الثاني: الإطار المكاني لبلاد السودان الإسلامي:
كانت علاقة الجزيرة العربية بأفريقيا علاقة قديمة قدم التاريخ، لا يمكن لمثل هذا البحث أن يلم ببعض أطرافها، فهناك بحوث كثيرة أنجزت في هذا الموضوع، ولكن لعل من نافلة القول أن أمهد لموضوع هذه الفقرة بعبارات عابرة عن تلك العلاقات القائمة عبر حقب التاريخ.
جاء في بعض الكتابات العربية المتقدمة أن علاقة أفريقيا كانت ماثلة وبدأت تشتد منذ غزو الملك أبرهة الحبشي للكعبة المشرفة، وقد أكد تلك الحقيقة التاريخية الضاربة في القدم أولئك المسلمين الأوائل الذين لجؤا إلى الحبشة أيام النجاشي فرارا من البطش والتنكيل والتعنيف الذي لحقهم من قبل أقاربهم وذويهم القرشيين. وقد عجت كتب السيرة والتاريخ بهذا الحث وتواترت الروايات عليه بما يجعل لهذا الاهتمام طعما خاصا لدى الباحثين من العالمين الشرقي والغربي.
ونظرا لشهرة هذا الخبر وذيوعه بين الأوساط العلمية والأكاديمية فإننا لسنا بحاجة إلى تفصيل القصة أو سردها كاملة، ولكن ما يجول في خلدي ومن ثم شكل تساؤلات عديدة هو: لم لمْ يتجه أولئك الفارين أو المهاجرين من مكة إلى بلاد فارس، أو مصر، أو على الأقل إلى إخوانهم في المدينة أو البحرين... إلى غير ذلك من المناطق العربية المجاورة؟ بالرغم من قربها من جهة والقرابة التي تربطهم من جهة ثانية. هذا ما نحاول التعليل عليه بقدر الطاقة البشرية وبما تمدنا به المعطيات التاريخية.
أولًا: لعل السبب في ذلك يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - باعتباره موجهًا ومرشدًا ومشرعًا بإذن من المولى - عز وجل -، ومن ثم يوجه قومه إلى محطة اللجوء الآمنة. ومن المعروف أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقطعون رأيًا ولا يقصدون مقصدًا إلا بعد استشارته واستطلاعه على ذلك الأمر، "وفي هذه الظروف نزلت سورة الزمر تشير إلى اتخاذ سبيل الهجرة، وتعلن بأن أرض الله ليست بضيقة"[3] (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزمر: 10].
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد علم أن أصْحَمَة النجاشى ملك الحبشة ملك عادل لا يظلم عنده أحد، فأمر المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة فرارًا بدينهم من الفتن. وفي رجب سنة خمس من النبوة هاجر أول فوج من الصحابة إلى الحبشة وكان مكونًا من اثني عشر رجلًا وأربع نسوة، رئيسهم عثمان بن عفان، ومعه زوجته رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[4].
ثانيًا: إذا أمعنا النظر في الحديث الذي رواه ابن هشام عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما اشتد البلاء والتنكيل بالمسلمين "إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه"[5]، إذا أمعنا النظر فيه فإنه يشعر بأنه عبارة عن جواب على استفسار في نفس المشورة، فلعل العدل الذي تميز به النجاشي كان هو الحافر الأول في اللجوء إلى الحبشة.
ثالثًا: التفسير الأخير لهذه الحادثة، والذي نعلله بحسب المعطيات التاريخية للظروف السياسية الدبلوماسية والاجتماعية، فلعل هؤلاء المهاجرين إنما ذهبوا إلى الحبشية لخلفية معرفية مسبقة تقوم على التعامل التجاري الاحتكاك الحضاري بين أفريقيا والجزيرة العربية.
وإلى جانب تلك العلاقة الضاربة في القدم بين مكة وأفريقيا، فإن كتب التراث الإسلامي[6] لم تهمل هذه القارة ما دام أنها اندرجت تحت دار الإسلام، لهذا فقد حظيت بالوصف الجغرافي والتاريخي في كثير من المخطوطات العربية والإسلامية فشكلت هذه المخطوطات ضروبا من التفاعل الثقافي والحضاري بين الجزيرة وأفريقيا. ولهذا فقد أطلق بعض المؤرخين العرب المعاصرين على الجزء الأفريقي الواقع جنوب الصحراء وشمال الغابات المطيرة بلاد السودان وزاد بعضهم الإسلامية، والبعض الآخر اكتفي بتسمية أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ويقصدون بذلك الحزام الإسلامي الممتد بين المحيطين الأطلسي والهندي، أي من نهر السنغال غربا إلى سواحل البحر الأحمر شرقا، ثم يقسمون هذا النطاق الواسع إلى ثلاثة أقسام: السودان الشرقي، والسودان الأوسط، والسودان الغربي[7].
فالمقصود ببلاد السودان الإسلامي في اصطلاح علماء التاريخ وعلم الانتربولوجيا هو: ذلك الفضاء الممتد بين المحيط الأطلسي والمحيط الهندي، والذي يفصل بين أفريقيا الشمالية العربية وأفريقيا الغابية أو الوثنية.
المطلب الثالث: وصف تشاد (الحدود - الأرض - الشعب):
سلفت الإشارة إلى أن المنطقة الفاصلة بين الشمال الصحراوي والجنوب الغابي - إذا صح التعبير - تسمى بلاد السودان الإسلامي، لأسباب وعوامل سبقت الإشارة إلى ذكرها.
وهذه المنطقة لم تشهد توزيعا جغرافيا قبل أن تطل عليها سفن الاستعمار الغربي، ولا شك أن هذا التقسيم في أصله مغرضة سياسية استعمارية بحتة.
حدود تشاد الجغرافية:
• في عام 1884م بعد مغادرة مقاعد مؤتمر برلين، حرصت كل من بريطانيا وفرنسا على السعي بقوة لحيازة أكبر قسط ممكن من أراضي أفريقيا الشاسعة، وذلك تحت مبرر السباق من أجل أفريقيا. وكانت مناطق غرب أفريقيا من حظ بريطانيا وفرنسا، خاصة المناطق الواقعة شرق نهر النيجر وغربه[8].
• وفي عام 1898م تم الاتفاق بين فرنسا وبريطانيا بموجب المادة الرابعة على أن "تعترف حكومة الجمهورية الفرنسية بان الإقليم الواقع في شرقي النيجر... يندرج في نطاق النفوذ البريطاني، وبالمقابل اعترفت حكومة صاحبة الجلالة البريطانية بأن الإقليم الواقع إلى الشمال والشرق والجنوب من شواطئ بحيرة تشاد... يندرج في نطاق النفوذ الفرنسي"[9].
• ومن ذلك العام أي 1898م ظلت حدود منطقة تشاد مضطربة، لتعرضها لعدة تعديلات في حدودها مع جيرانها، ولم تتحدد معالمها الحدودية بصورة كاملة ونهائية إلا في عام 1936م بصدور قرار يضم مقاطعات (مايوكيبي، ولوغون، وشاري الأوسط) ومن هنا رسمت الحدود النهائية للدولة التشادية من كل الجهات[10].
تمتد حدود دولة تشاد الحالية بين درجتي خط عرض 8، 23ْ شمالًا، وبين درجتي خط طول 14، 24ْ شرقًا[11].
وتصنف تشاد في قائمة الدول المغلغة حيث تحيط بها ست دول عربية وأفريقية، فيحدها من الشرق جمهورية السودان الحالية، ومن الشمال الجماهيرية الليبية، ومن الغرب النيجر ونيجيريا، ومن الجنوب أفريقيا الوسطى، والكمرون من الجنوب الغربي.
وتبلغ المساحة الكاملة للدولة 1، 284، 000 كلم، "وتختلف فيها الفصول اختلافا بينا، وهي تتقلب بين رطبة ممطرة إلى معتدلة فحارة منعشة إلى حارة في الصيف، لأن فصول السنة ثلاثة فقط: الخريف، والشتاء، والصيف"[12].
مناخ تشاد:
تعتبر دولة تشاد قلعة محصنة بالجبال من الشمال وبالغابات من الجنوب، فشمالها يتكون من جبال ذات أجزاء مرتفعة وسلاسل متراصة في شكل حلزوني، وجنوبها ملتف بالغابات الكثيفة والحشائش الغزيرة. أما من حيث المنخفضات، فأمهما نهري شاري ولوغون اللذان يشكلان المجرى الأساسي للدولة، إضافة إلى الوديان والجداول الموسمية.
وعمومًا فإن تشاد تنقسم من حيث المناخ إلى ثلاثة أقسام: إقليم صحراوي، وهو ثلث البلاد وتتضاعف فيه الجبال والرمال، وتنعدم فيه الأمطار والغابات، وإقليم شبه الصحراوي، وهو إقليم غني بالمزارع وصالح للرعي، وأمطاره موسمية، أما الإقليم الثالث فهو الذي تميل إليه أرض تشاد، الواقع في الجنوب الغربي "ويدل على ذلك اتجاه المياه من مختلف الجهات نحو بحيرة تشاد التي تقع في الجنوب الغربي"[13].
انطلاقًا من هذا البيان المناخي للمنطقة، فإن مثل هذه الأرضية المتنوعة المتسعة لكافة أشكال الحياة الزراعية والرعوية حُق لها أن تستقطب جميع العناصر الثقافية والحضارية المصاحبة الدعوة الإلهية الخاتمة.
شعب تشاد:
إن من أعقد الأمور تفسيرا ما نلمسه في لغز المجتمع التشادي الذي ضم عددا كبيرا من العناصر المتعددة، الزنجية، والنيلية، والعربية، ثم إن هذا المجتمع بفضل تعاليم الدعوة الإسلامية أنصبت كافة أشكال حياته - الثقافية والحضارية والاجتماعية - في بوتقة واحدة.
لقد عرف هذا المجتمع الاستقرار منذ قيام الممالك الثلاثة، خاصة عندما مدت أيديها لتصافح الدعوة الإسلامية، فساد النظام وعم الوئام بين الناس جميعا[14].
ومن فضول القول أن نتناول هذا الشعب العريق بكل تصنيفاته وجزئياته الدقيقة، فهناك دراسات قد أنجزت في هذه المواضيع، لذا فإني أكتفي هنا بهذه الإشارة العابرة، فضلا عن محدودية الدراسة، وأنها تميل إلى التحليل والتفسير لا إلى السرد التاريخي الممل.
ولعلنا ننهي هذه الفقرة بعدة تساؤلات تفتحنا على المباحث القادمة، ومن ثم تخلق إجابة شاملة، إذا فما السر الذي وراء انتشار الإسلام في منطقة بحيرة تشاد وسرعة ميوع آدابه وثقافته حلى حساب العديد من الثقافات والآداب المنتشرة من قبل؟ هذا السؤال سيجيب عليه المبحث التالي في تناوله لقضية[15] انتشار الدعوة الإسلامية.
المبحث الثاني: انتشار الدعوة الإسلامية في تشاد
تمهيد: عالمية الدعوة الإسلامية:
لا شك أن الدين الإسلامي إلهي المنبع عالمي التعليمات والأحكام، فهو صالح لكل عصر ومصر، أراده الله لجميع الناس، وليس مقصورا ببلد دون آخر، ولا مرسل لمجموعة دون أخرى، وإن شكك في ذلك بعض المستشرقين وأشباههم، إما لأغراض أيديولوجية، أو سياسية أو غير ذلك. وهناك أدلة لا حصر لها تنص على أن الإسلام من عند الله مصدرًا وإلى البشرية دينًا، قال - تعالى -: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)[الأعراف: 158]. وقال أيضًا: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الأنبياء: 107].
لقد تحققت عالمية الدعوة الإسلامية بأن عمت جميع قارات العالم، وأثبتت الدراسات العلمية أن الدين الإسلامي قادر على احتواء جميع نظم الحياة كلها. ومن تلك الأقطار التي ضمها شرع الله وترسخت فيه تعاليمه في فترة تاريخية مبكرة منطقة تشاد التي يتفق جل الباحثين المعاصرين على أن الدعوة الإسلامية قد انتشرت في تشاد وتغلغلت في جذورها وتجلّت تعاليمها في الأرضية التشادية منذ عام 46 هجرية/ 666م[16].
وقد تلقت الممالك القائمة في تلك المنطقة آنذاك هذه الدعوة بالترحاب والقبول، "وأنه قد لعب دورا مهما في المساعدة على قيام الدولة الأفريقية، بل هو العامل الوحيد الذي أفضى إلى تجاوز التنظيم البسيط للمجتمعات العشائرية"[17].
وتجدر بنا الإشارة إلى أن الدعاة المسلمين لم يألو جهدًا كبيرًا في نشر دعوتهم، بل وجدوا الأرضية خصبة صالحة مهيأة لدعوة الإسلام، "إن الإسلام قد شق طريقًا إلى وسط وجنوب القارة الأفريقية السمراء بجهود بسيطة وسهلة، اعتمدت على التجار المسلمين الذين أحوجتهم ظروف العيش إلى دخول هذه البلاد، وقد رأى الأفريقي الوثني أو المسيحي في تصرفات هؤلاء التجار وسلوكهم الشخصي القدوة الحسنة التي أقنعته بصحة هذه الرسالة التي لا تقيم وزنا للون أو جنس أو جاه، بقدر ما تقيم وزنا لطاعة الله وتوحيده وحسن معاملة الآخرين"[18].
المطلب الأول: العوامل الممهدة لانتشار الدعوة الإسلامية في تشاد:
ساعد في انتشار الدعوة الإسلامية في تشاد عاملان:
العامل الأول: عامل طبيعي، ويتمثل في التركيبة البيئية والاجتماعية والسياسية للمنطقة.
والعامل الثاني: الخارجي، الذي يتمثل في طبيعة الدعوة وسلوك دعاتها.
وفيما يلي شرح لهذين العاملين:
كان للعامل الطبيعي دور بارز في نشر الدعوة الإسلامية وإرساء دعائمها، وذلك لعدة اعتبارات أهمها:
• الخلو التام في المنطقة من أي دين سماوي أو طرح جدلي أو تلوث فلسفي
كانت المعتقدات الشائعة بين المجتمع التشادي قبل الإسلام معظمها بسيطة وتافهة، وان هذا الإنسان التشادي لا يعير لهذه العقائد اهتماما، فما هي إلا مجرد شرارة نورانية انقدحت في الروح البشرية واختلطت بها كي تكشف عن بعض أسرار الكون العجيبة. ولا يعتقد هؤلاء الإحيائية بأن هذه العقيدة ستقربهم إلى الله زلفى بقدر ما تقربهم من ميادين الفكر والروح والحياة. ومما شاع الاعتقاد به ومثل طرحا فلسفيا ساذجا، الكهانة التي يدعي محترفوها الاتصال بعالم الأسرار، لجلب المنافع ودرء المفاسد عن الناس، والشعوذة هي الأخرى شكلت قضية جدلية لم يتم الفصل فيها بعد، وهي لا تزال تنتابها الضبابية والغموض في تفسير معناها، لأنها شاعت عند الناس باسم (المصاص) الذي يمتص القوى الروحية والحيوية من الإنسان، ومن توابع الشعوذة، التخاطر بين التوائم، وقراءة الأثر لمعرفة السارق، وضرب الرمل والخط والودع لمعرفة الماضي واستلهام أخبار المستقبل[19].
"وبينما كان المجتمع الإفريقي يموج في خضم هذه المعتقدات، ظهرت الدعوة الإسلامية في مكة المكرمة، ومنذ العام الخامس من ظهورها دخلت أفريقيا بواسطة الصحابة السابقين الأولين"[20].
• السياسة الحكيمة التي اتبعها بعض السلاطين والقواد
جاء الإسلام مادا يده من أجل السلام عن طريق التجارة والرحلات فوجد فيه السلاطين والقواد ما يدعوهم إليه، فدخلوا في دين الله بالتأمل والتدبر والنظر، ثم إن هؤلاء السلاطين لم يكتفوا بذلك بل حملوا الدولة على تطبيق قوانين الإسلام لتثبيت أركانه في الدولة الإسلامية الناشئة، ولكن دون خدش لمشاعر الرعية ولا مصادرة لعقائدها القديمة، وهذا المبدأ الذي يقوم على حرية العقيدة والاختيار هي الذي قاد هؤلاء الإرواحيين والوثنيين إلى اعتناق الإسلام وطرح براثن الكفر والشرك، ومن هنا بدأ الناس يتحررون من دوائر الوثنية المغلغة إلى أن دخلوا جميعا في دين الله أفواجا.
تشكل المنطقة بحكم وجودها بين الحجاز والقاهرة ودويلات غرب أفريقيا وطرابلس ونواكشوط سوقا رائجا وملتقى ثقافيا منسبا ومعبرا آمنا لحجاج بيت الله الحرام، فتشاد بالنسبة لجاراتها آنذاك كواسطة العقد المزركشة، حيث لحمت بين الصحراء والغابات من جهة، ومزجت بين الحضارات العربية والأفريقية من جهة أخرى.
العامل الخارجي: قام هذا العامل هو الآخر بدور كبير تجاه نشر الدعوة الإسلامية، بوصفه عاملا مصاحبا لطبيعتها، فالدعاة المسلمين إنما نقلوا دعوتهم بطيب الخاطر وإخلاص الضمائر وحسن التعامل... إلى غير ذلك من الصفات الحميدة التي رافقة الدعاة الأوائل.
وقد ساهمت عدة عوامل لإنجاح هذه الدعوة منها على سبيل المثال لا الحصر:
1- طبيعة الدعوة الإسلامية، وكيفية تقديمها للناس، قال - تعالى -: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين َ)[النحل: 125]. فهذه الدعوة الحكيمة، والمجادلة التي اتسمت بالأسلوب الحضاري حتما ستصل إلى مبتغاها.
2- التفاعل الحضاري بين الأفارقة والمسلمين الفاتحين، حيث نقلوا عاداتهم وتقاليدهم وثقافاتهم وسلوكهم إلى أفريقيا[21].
3- "ولعل التجار لم يكونوا وحدهم في ميدان الدعوة، بل كان يساندهم في جهودهم هذه جهود أخرى تمثلت في تلك الطرق الصوفية الكثيرة التي انتشرت في أرجاء القارة الأفريقية، وأسست لها مراكز وزوايا لنشر الإسلام وشرح تعاليمه وتعليم القرآن واللغة العربية"[22].
4- الثغور الإسلامية. هي الأخرى أسهمت إسهاما كبيرا في نشر الدعوة الإسلامية، وإن كانت تلك الإسهامات قد أغفلها كثير من الباحثين والمؤرخين. وضعت هذه الثغور أساسا لحماية قفى الخلافة الإسلامية في تركيا، وكذلك وضعت لحراسة مناطق الضعف التي تجاور الأعداء كالبيزنطينيين والروم والأسبان، ومن مهام الثغور الدحر عن ظهراني الدويلات والسلطنات الإسلامية التابعة للخلافة.
وتعتبر حراسة الثغور عبادة من العبادات العملية التي أقرها الشارع منذ بداية الدولة الإسلامية في عهدها الأول وأيام خلفائه، حيث شجع النبي - صلى الله عليه وسلم - على حراسة الثغور لحفظ أمن الدولة وحمايتها من غارات الطامعين، فقال: ((رِبَاطُ يَوْمٍ في سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا)).
وقد كانت توسم في ذلك العهد بالرباط، ومدينة الرباط الحالية أدل دليل على ذلك، وظلت هذه العبادة قائمة طوال امتداد عصور الدولة الإسلامية، وما إنْ سقطت هذه الدولة على يد العثمانيين وجد الغرب الباب مفتوحا على مصراعيه فغاروا على العالم الإسلامي وقسموه إربًا إربًا، وهذا ما أطلق عليه المفكر الإسلامي مالك بن نبي بالقابلية الاستعمارية.
يتبع