عيد أضحى مبارك
تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: معركة بدر.. أسباب النصر وعوامل القوة

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي معركة بدر.. أسباب النصر وعوامل القوة

    معركة بدر.. أسباب النصر وعوامل القوة


    يمكن القول إن موقعتي (بدر) و(أحد) هما أعظم معركتين في التاريخ الإسلامي، ليس من حيث حجم الجيوش المتقاتلة أو العتاد العسكري أو القتلى أو الجرحى.. بل من حيث الظروف التي وقعت فيها هاتان المعركتان، والدلالات والمفاهيم الشرعية الناتجة عن ذلك.. أيضاً والتحولات الكبرى التي أثرت في مسار بناء الدين الإسلامي ونشره في شتى أصقاع الأرض.
    ففي هاتين الموقعتين وضعت أسس وقواعد وضوابط شرعية لإدارة الصراع والمواجهة مع العدو.. وتبينت عوامل تحقيق النصر وأسباب الوقوع في الهزيمة والخسران.
    وعلى ضوء هاتين المعركتين انطلق الصحابة ومن بعدهم قادة الأمة - عبر الأجيال – يشقون طريق الفتوحات الإسلامية شرقاً وغرباً.. فهاتان الموقعتان أول مرجعية عملية شرعية في معرفة جوانب النصر أو الهزيمة.
    وفي تقريرين منفصلين سنحاول التعرف على ظروف المعركتين والأسباب التي أدت إلى النصر في الأولى والهزيمة في الثانية، وماذا يعني النصر أو الهزيمة، وكيف يمكن الاستفادة من الحالتين.
    معركة الفرقان في بدر
    قال الله تعالى: }وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127){ (آل عمران).
    وقال تعالى: }وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُ مْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) { (الأنفال).
    خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار وكان أبيض وكان أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رايتان سوداوان إحداهما مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه والأخرى مع بعض الأنصار. وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة أخا بني مازن بن النجار وكانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ..
    وسلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طريقه من المدينة إلى مكة حتى إذا كان قريباً من الصفراء بعث بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء الجهينيين إلى بدر يتجسسان له الأخبار عن أبي سفيان وغيره.
    الاستشارة
    ثم ارتحل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى واديا يقال له ذفران فجزع فيه ثم نزل وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم فأخبر الناس واستشارهم.
    فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون)، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيراً ودعا له.
    ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشيروا علي، وإنما يريد الأنصار؛ وذلك أنهم عدد الناس وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا.
    فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم من بلادهم إلى عدو.
    فلما قال ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله. قال: أجل، قال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك. فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما يتخلف منا رجل واحد. وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً. إنا لصبرٌ في الحرب صدقٌ عند اللقاء لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.
    فسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقول سعد ونشطه ذلك، ثم قال سيروا وأبشروا فإن الله تبارك وتعالى قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم.
    وجاء في صحيح مسلم أن رسول الله شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، فتكلم أبو بكر فأعرض عنه ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة فقال: إيانا تريد يا رسول الله؟، والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى بَرْك الغِماد لفعلنا. قال فندب رسول الله، فانطلقوا حتى نزلوا بدراً.
    وركب رسول الله هو ورجل من أصحابه قيل هو أبو بكر الصديق حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أخبرتنا أخبرناك، قال أو ذاك بذاك، قال نعم، قال الشيخ فإني بلغني أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبلغني أن قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به قريش.
    فلما فرغ من خبره قال ممن أنتما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحن من ماء، ثم انصرف عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجعل الشيخ يقول: من ماء أمن ماء العراق؟.
    ثم رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له عليه فأصابوا راوية لقريش فيها غلامان لبعضهم فأتوا بهما فسألوهما ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي، فقالا نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء فكره القوم خبرهما ورجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما فلما أذلقوهما قالا نحن لأبي سفيان فتركوهما.
    وركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسجد سجدتيه ثم سلم، وقال: إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما صدقا والله إنهما لقريش، أخبراني عن قريش، فقالا هم وراء هذا الكثيب الذي ترى، قال كم القوم قالا كثير، قال ما عدتهم قالا ما ندري، قال كم ينحرون كل يوم قالا يوماً تسعاً ويوماً عشراً، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القوم ما بين التسعمائة والألف.
    ثم قال لهما من فيهم من أشراف قريش قالا عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد والحارث ابن عامر وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وسهيل بن عمرو وعمرو بن عبد ود.
    فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس فقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها.
    عون الله
    وبعث الله عز وجل السماء وكان الوادي دهساً فأصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه منها ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم من المسير، وأصاب قريشاً منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه.
    فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبادرهم إلى الماء حتى إذا جاءوا أدنى ماء من بدر نزلوا به.
    قوال الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة.
    قال: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقد أشرت بالرأي.
    فنهض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من الناس فساروا حتى إذا أتى أدنى ماء إلى القوم نزل عليه ثم أمر بالقلب فغورت وبنى حوضاً على القليب الذي نزل عليه فملئ ماءً ثم قذفوا فيه الآنية.
    وقال سعد بن معاذ يا نبي الله ألا نبني لك عريشاً تكون فيه ونعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا. فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد حبا لك منهم ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك يمنعك الله عز وجل بهم يناصحونك ويجاهدون معك.
    فأثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه خيراً ودعا له بخير ثم بني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عريش فكان فيه.
    وارتحلت قريش حين أصبحت فأقبلت فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصوب من الكثيب الذي جاءوا منه قال: اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني به اللهم أحنهم الغداة.
    وكان شعار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم – (أحدٌ أحدٌ).
    وعدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ صفوف أصحابه وفي يده قدح يعدل به القوم فمر بسواد بن غزية حليف بني عدي بن النجار وهو مستنثل من الصف أي بارز فطعنه في بطنه بالقدح، وقال استو يا سواد. فقال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني.
    فكشف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بطنه وقال استقد، فاعتنقه فقبل بطنه، فقال له: ما حملك على هذا يا سواد. قال: يا رسول الله حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك. فدعا له بخير.
    ثم عدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصفوف ورجع إلى العريش فدخله ومعه فيه أبو بكر ليس معه فيه غيره، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يناشد ربه ما وعده من النصر، ويقول فيما يقول: [اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً].
    ومازال يدعو ويستغيث حتى سقط رداؤه، فأخذه أبوبكر ورده على منكبيه وهو يقول: يا رسول الله كفاك مناشدتك ربك فإنه منجر لك ما وعدك..
    وأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}، وفي رواية ابن عباس قال: قال النبي يوم بدر: [الله أنشدك عهدك ووعدك، الله إن شئت لم تعبد]. فأخذ أبوبكر بيده، فقال: حسبك الله. فخرج وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}.
    وقد خفق النبي خفقة وهو في العريش ثم انتبه فقال: ابشر يا أبا بكر أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع، يعني الغبار.
    ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس فحرضهم، ثم قال: والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة.
    فقال عمير بن الحمام أخو بني سلمة - وفي يده تمرات يأكلهن -: بخ بخ أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء. ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل حتى قتل.
    وقال يومئذ عوف بن الحارث: يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده، فقال غمسه يده في العدو حاسراً فنزع درعاً كانت عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل.
    وقاتل عكاشة بن محصن الأسدي حليف بني عبد شمس يوم بدر بسيفه حتى انقطع في يده. فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاه جذلاً من حطب، فقال: قاتل بهذا يا عكاشة. فلما أخذه هزه فعاد في يده سيفاً طويل القامة شديد المتن أبيض الحديدة. فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين. وكان ذلك السيف يسمى العون.
    ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشاً، ثم قال: شاهت الوجوه ثم نفحهم بها، ثم أمر أصحابه فقال: شدوا فكانت الهزيمة عليهم.
    وجعل الله تلك الحصباء عظيماً شأنها لم تترك من المشركين رجلاً إلا ملأت عينيه.
    فلما وضع القوم أيديهم يأسرون وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوشح السيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله خوف كرة العدو عليه، رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس فقال له: لكأنك والله يا سعد تكره ما يصنع القوم. فقال: أجل والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل أحب إلي من استقبال الرجال.
    وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ لأصحابه: [إني قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم وغيرهم أخرجوا كرهاً لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله ومن لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله ومن لقي العباس عم رسول الله فلا يقتله فإنه إنما خرج مستكرهاً].
    فقال: أبو حذيفة أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس، والله لئن وجدته لألحمنه السيف.
    فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لعمر بن الخطاب يا أبا حفص: [أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف]. فقال عمر: يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه بالسيف فو الله لقد نافق.
    فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ ولا أزال منها خائفاً إلا أن تكفرها عني الشهادة. فقتل يوم اليمامة شهيداً رضي الله عنه.
    وإنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل أبي البختري؛ لأنه كان أكف القوم عنه بمكة. وكان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شيء يكرهه. وكان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم وبني المطلب.
    وأخرج مسلم في صحيحه عن عبد الرحمن بن عوف قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر نظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما.. فغمزني أحدهما فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل، قلت: نعم وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟، قال: أخبرت أنه يسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا.
    قال: فتعجبت لذلك. فغمزني الآخر فقال: مثلها، قال: فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت ألا تريان هذا صاحبكما الذي تسألان عنه.
    فابتدراه فضرباه بسيفيهما حتى قتلاه ثم انصرفا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبراه فقال: أيكما قتله فقال كل واحد منهما: أنا قتلته. فقال هل مسحتما سيفيكما، قالا: لا، فنظر في السيفين فقال: كلاكما قتله.
    وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقتلى أن يطرحوا في القليب فطرحوا فيه إلا ما كان من أمية بن خلف فإنه انتفخ في درعه فملأها فذهبوا ليحركوه فتزايل فأقروه وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة.
    ووقف عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فقال: يا أهل القليب بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم؛ كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس. يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً.
    فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ما تخاطب من أقوام قد جيفوا؟، فقال والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون الجواب.
    ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرصة ثلاثاً، وكان إذا ظهر على قوم أقام بعرصتهم ثلاثاً.
    ثم ارتحل مؤيداً منصوراً، قرير العين بنصر الله له ومعه الأسارى والمغانم. فلما كان بالصفراء قسم الغنائم وضرب عنق النضر بن الحارث بن كلدة، ثم لما نزل بعرق الظبية ضرب عنق عقبة بن أبي معيط.
    ودخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وقد خافه كل عدو له في المدينة وحولها، فأسلم بشر كثير من أهل المدينة، وحينئذ دخل عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه في الإسلام ظاهراً.
    يتبع


    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,908

    افتراضي رد: معركة بدر.. أسباب النصر وعوامل القوة

    معركة بدر.. أسباب النصر وعوامل القوة

    دروس
    وعبر

    أعظم الدروس وأفضلها وأكثرها دلالة ووضوحاً هو ما جاءت به الآيات الكريمة حول معركة بدر؛ ففيها كل عظة وعبرة، وفيها كل بيان لكل أسباب النصر التي لابد من توفرها عند مواجهة قوى الظلم والبطش وفي ساحة الدفاع عن دين الإسلام.
    وقد توسع المفسرون في توضيح هذه الدروس والعبر، يمكن تلخيصها في الصورة التالية:
    }وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ{، يقول ابن كثير في تفسيره: أي يوم بدر، وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله، ودمغَ فيه الشرك وخرَّب محِله، هذا مع قلة عدد المسلمين يومئذ، فإنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً فيهم فرسان وسبعُون بعِيراً، والباقون مُشاة، ليس معهم من العَدَد جميع ما يحتاجون إليه، وكان العدو يومئذ ما بين التسعمائة إلى الألف في سوابغ الحديد والبيض، والعدة الكاملة والخيول المسومة والحلي الزائد، فأعز الله رسوله، وأظهر وحيه وتنزيله، وبَيَّضَ وَجْه النبي وقبيله، وأخْزى الشيطان وجيله؛ ولهذا قال تعالى - مُمْتَناً على عباده المؤمنين وحِزبه المتقين-: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} أي: قليل عددكم ليعلموا أن النصر إنما هو من عند الله، لا بكثرة العَدَد والعُدَد؛ ولهذا قال في الآية الأخرى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ. ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (التوبة: 25 -27).
    والنصر في بدر كان فيه رائحة المعجزة - كما يقول في تفسيره لهذه الآيات - فقد تم بغير أداة من الأدوات المادية المألوفة للنصر. لم تكن الكفتان فيها - بين المؤمنين والمشركين - متوازنتين ولا قريبتين من التوازن.
    كان المشركون حوالي ألف خرجوا نفيراً لاستغاثة أبي سفيان لحماية القافلة التي كانت معه مزودين بالعدة والعتاد والحرص على الأموال والحمية للكرامة. وكان المسلمون حوالي ثلاثمائة لم يخرجوا لقتال هذه الطائفة ذات الشوكة إنما خرجوا لرحلة هينة. لمقابلة القافلة العزلاء وأخذ الطريق عليها; فلم يكن معهم - على قلة العدد - إلا القليل من العدة. وكان وراءهم في المدينة مشركون لا تزال لهم قوتهم ومنافقون لهم مكانتهم، ويهود يتربصون بهم.. وكانوا هم بعد ذلك كله قلة مسلمة في وسط خضم من الكفر والشرك في الجزيرة. ولم تكن قد زالت عنهم بعد صفة أنهم مهاجرون مطاردون من مكة وأنصار آووا هؤلاء المهاجرين، ولكنهم ما يزالون نبتة غير مستقرة في هذه البيئة.
    فبهذا كله يذكرهم الله سبحانه ويرد ذلك النصر إلى سببه الأول في وسط هذه الظروف: {ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون}..
    إن الله هو الذي نصرهم; ونصرهم لحكمة نص عليها في هذه الآيات.
    وهم لا ناصر لهم من أنفسهم ولا من سواهم. فإذا اتقوا وخافوا فليتقوا وليخافوا الله، الذي يملك النصر والهزيمة، والذي يملك القوة وحده والسلطان؛ فلعل التقوى أن تقودهم إلى الشكر.. هذه هي اللمسة الأولى في تذكيرهم بالنصر في بدر.
    وأضاف سيد قطب: ثم يستحضر مشهدها كأنهم اللحظة فيها: {إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين}.
    وكانت هذه كلمات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر للقلة المسلمة التي خرجت معه، والتي رأت نفير المشركين وهي خرجت لتلقى طائفة العير الموقرة بالمتاجر لا لتلقى طائفة النفير الموقرة بالسلاح. وقد أبلغهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما بلّغه يومها ربه لتثبيت قلوبهم وأقدامهم وهم بشر يحتاجون إلى العون في صورة قريبة من مشاعرهم وتصوراتهم ومألوفاتهم.. وأبلغهم كذلك أن شرط هذا المدد هو الصبر والتقوى، الصبر على تلقي صدمة الهجوم والتقوى التي تربط القلب بالله في النصر والهزيمة: {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين}.
    فالآن يعلمهم الله أن مرد الأمر كله إليه وأن الفاعلية كلها منه - سبحانه - وأن نزول الملائكة ليس إلا بشرى لقلوبهم; لتأنس بهذا وتستبشر وتطمئن به وتثبت. أما النصر فمنه مباشرة ومتعلق بقدره وإرادته بلا واسطة ولا سبب ولا وسيلة: {وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم}.
    وهكذا يحرص السياق القرآني على رد الأمر كله إلى الله كي لا يعلق بتصور المسلم ما يشوب هذه القاعدة الأصيلة: قاعدة رد الأمر جملة إلى مشيئة الله الطليقة وإرادته الفاعلة وقدره المباشر. وتنحية الأسباب والوسائل عن أن تكون هي الفاعلة. وإنما هي أداة تحركها المشيئة. وتحقق بها ما تريده.
    وقد حرص القرآن الكريم على تقرير هذه القاعدة في التصور الإسلامي وعلى تنقيتها من كل شائبة وعلى تنحيه الأسباب الظاهرة والوسائل والأدوات عن أن تكون هي الفاعلة؛ لتبقى الصلة المباشرة بين العبد والرب. بين قلب المؤمن وقدر الله. بلا حواجز ولا عوائق ولا وسائل ولا وسائط..
    إن النصر من عند الله؛ لتحقيق قدر الله. وليس للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا للمجاهدين معه في النصر من غاية ذاتية ولا نصيب شخصي. كما أنه ليس له ولا لهم دخل في تحقيقه وإن هم إلا ستار القدرة تحقق بهم ما تشاء، فلا هم أسباب هذا النصر وصانعوه، ولا هم أصحاب هذا النصر ومستغلوه. إنما هو قدر الله يتحقق بحركة رجاله وبالتأييد من عنده؛ لتحقيق حكمة الله من ورائه وقصده: {ليقطع طرفاً من الذين كفروا}. فينقص من عددهم بالقتل أو ينقص من أرضهم بالفتح أو ينقص من سلطانهم بالقهر أو ينقص من أموالهم بالغنيمة أو ينقص من فاعليتهم في الأرض بالهزيمة.
    {أو يكبتهم فينقلبوا خائبين}، أي يصرفهم مهزومين أذلاء فيعودوا خائبين مقهورين. {أو يتوب عليهم}؛ فإن انتصار المسلمين قد يكون للكافرين عظة وعبرة وقد يقودهم إلى الإيمان والتسليم فيتوب الله عليهم من كفرهم ويختم لهم بالإسلام والهداية.
    {أو يعذبهم فإنهم ظالمون}؛ يعذبهم بنصر المسلمين عليهم، أو بأسرهم، أو بموتهم على الكفر الذي ينتهي بهم إلى العذاب، جزاء لهم على ظلمهم بالكفر وظلمهم بفتنة المسلمين وظلمهم بالفساد في الأرض وظلمهم بمقاومة الصلاح الذي يمثله منهج الإسلام للحياة وشريعته ونظامه، إلى آخر صنوف الظلم الكامنة في الكفر والصد عن سبيل الله.
    بذلك ينسلخ المسلمون بأشخاصهم من هذا النصر: من أسبابه ومن نتائجه، وبذلك ينجون من الكبر الذي يثيره النصر في نفوس المنتصرين ومن البطر والعجب والزهو، وبذلك يشعرون أن ليس لهم من الأمر شيء إنما الأمر كله لله أولاً وأخيراً.
    وبذلك يرد أمر الناس - طائعهم وعاصيهم - إلى الله. فهذا الشأن شأن الله وحده سبحانه. شأن هذه الدعوة وشأن هؤلاء الناس معها: طائعهم وعاصيهم سواء..
    أما الشيخ الشعراوي فقد طرح نقاطاً مهمة حول عوامل النصر، ومن ذلك أن الحق سبحانه وتعالى ضرب المثل بالصبر والتقوى في بدر مع القلة فكان النصر.
    فالله هو الذي يعطي المدد، ولكن من الذي يستقبل المدد لينتفع به؟، إنه القادر على الصبر والتقوى.
    وقال: إذن فالصبر والتقوى هما العُدّة في الحرب. لا تقل عدداً ولا عُدة. لذلك قال الله: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ}، ولم يقل: أعدوا لهم ما تظنون أنه يغلبهم. أنتم تعدون ما في استطاعتكم، وساعة تعدون ما في استطاعتكم وأسبابكم قد انتهت، فالله هو الذي يكملكم بالنصر.
    أما المدد الذي أرسله الله في بدر فإنه بشرى لتؤنس المادة البشرية لدى الإنسان؛ فالله سبحانه وتعالى قادر على تحقيق النصر دون وجود هذا المدد.
    فساعة يرى المؤمنون أعداداً كبيرة من المدد، والكفار كانوا متفوقين عليهم في العدد، فإن أسباب المؤمنين تطمئن وتثق بالنصر. إذن فالملائكة مجرد بُشرى، ولكن النصر من عند الله العزيز الذي لا يغلب. وكل الأمور تسير بحكمته التي لا تعلوها حكمة أبداً.
    وعند قول الله تعالى: {لِيَقْطَعَ طَرَفاً} يقول الشعراوي: لم يقل الله تعالى ليستأصل بل ليقطع؛ لأن الله سبحانه وتعالى أبقى على بعض الكفار؛ لأن له في الإيمان دوراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممتلئاً بالعطف والرحمة والحنان على أمته، وكان يحسن الظن بالله أن يهديهم، ولذلك تعددت آيات القرآن التي تتحدث في هذا الأمر.
    ها هو ذا الحق يقول:{فَلَعَلَّك َ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: 6].
    وفي موقع آخر بالقرآن الكريم يقول الحق: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ* إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 3-4].
    والله يقول لرسول صلى الله عليه وسلم: }فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ{، والرسول يحب أن يهتدي إلى الإيمان كل فرد في أمته، فقال الحق: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ}.
    أيضاً من الدروس أن الله سبحانه وتعالى أراد أن يواجه المسلمون - وهم قلة - جيشاً له شوكة أي له عدة وعتاد؛ لأن المسلمين ظنوا أن الاستيلاء على قافلة أبي سفيان لن يستغرق منهم وقتاً طويلاً أو جهداً كبيراً، فحراس القافلة عدد محدود وبلا سلاح قوي.
    لكن شاء الله عز وجل أن يخوض المؤمنون المعركة وهم قلة وأن ينتصروا، حتى يعلم الجميع أن هذه القلة المؤمنة انتصرت بلا عددٍ ولا عُدَّة على من يملكون العدد والعدة، وبذلك يظهر الفرق بين الإيمان والكفر، وبين نصر الله وزيف الشيطان، ولو استولى المسلمون على قافلة قريش لقيل: إن أية مجموعة من المسلحين كانت تستطيع أن تنهب هذه القافلة؛ ولذلك لم يعطهم الله العير بل ابتلاهم بالنفير وهو الجيش الخارج من مكة بقصد الحرب وهو مستعد لها ليلفت النظر إلى هؤلاء المؤمنين الذين خرجوا بغير قصد الحرب وقد انتصروا على الكفار الذين خرجوا للحرب واستعدوا لها.
    {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَـاكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً}، أي لو أن المؤمنين اتفقوا مع الكفار على موعد ومكان لجاء بعضهم متأخراً عن الموعد أو منحرفاً عن المكان، ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي حدد موعد المعركة ومكانها بدقة تامة فتم اللقاء في الموعد والمكان المحددين ليتم الأمر كما قدره الله سبحانه وتعالى، والأمر هو معركة بدر، وليلقى المؤمنون الكافرين، لينتصروا عليهم.
    ولقد كان من تدبير الله في المعركة أن يرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكافرين في الرؤيا في منامه قليلاً لا قوة لهم ولا وزن، فينبئ أصحابه برؤياه، فيستبشروا بها ويتشجعوا على خوض المعركة.. ثم يخبر الله هنا لم أراهم لنبيه قليلاً. فلقد علم - سبحانه - أنه لو أراهم له كثيراً، لفت ذلك في قلوب القلة التي معه، وقد خرجت على غير استعداد ولا توقع لقتال، ولضعفوا عن لقاء عدوهم، وتنازعوا فيما بينهم على ملاقاتهم، فريق يرى أن يقاتلهم وفريق يرى تجنب الالتحام بهم.. وهذا النزاع في هذا الظرف هو أبأس ما يصيب جيشاً يواجه عدواً، {ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور}.
    ولقد كان - سبحانه - يعلم بذوات الصدور؛ فلطف بالعصبة المسلمة أن يعرضها لما يعلمه من ضعفها في ذلك الموقف؛ فأرى نبيه المشركين في رؤياه قليلاً، ولم يرهم إياه كثيراً..
    والرؤيا صادقة في دلالتها الحقيقية. فقد رآهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قليلاً وهم كثير عددهم، ولكن قليل غناؤهم، قليل وزنهم في المعركة، قلوبهم خواء من الإدراك الواسع، والإيمان الدافع، والزاد النافع.. وهذه الحقيقة الواقعة - من وراء الظاهر الخادع - هي التي أراها الله لرسوله؛ فأدخل بها الطمأنينة على قلوب العصبة المسلمة. والله عليم بسرائرهم، مطلع على قلة عددهم وضعف عدتهم، وما تحدثه في نفوسهم لو عرفوا كثرة عدوهم من ضعف عن المواجهة وتنازع على الالتحام أو الإحجام.
    وكان هذا تدبيراً من تدبير الله العليم بذات الصدور.
    وحينما التقى الجمعان وجهاً لوجه، تكررت الرؤيا النبوية الصادقة، في صورة عيانية من الجانبين؛ وكان هذا من التدبير الذي يذكرهم الله به عند استعراض المعركة وأحداثها وما وراءها.
    {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ}.
    ولقد كان في هذا التدبير الإلهي ما أغرى الفريقين بخوض المعركة، والمؤمنون يرون أعداءهم قليلاً؛ لأنهم يرونهم بعين الحقيقة.. والمشركون يرونهم قليلاً؛ وهم يرونهم بعين الظاهر، ومن وراء الحقيقتين اللتين رأى كل فريق منهما صاحبه بها، تحققت غاية التدبير الإلهي، ووقع الأمر الذي جرى به قضاؤه.
    {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} . .
    وهو التعقيب المناسب لتحقق التدبير ووقوع القضاء، فهو أمر من الأمور التي مرجعها لله وحده، يصرفها بسلطانه، ويوقعها بإرادته، ولا تند عن قدرته وحكمه، ولا ينفذ شيء في الوجود إلا ما قضاه وأجرى به قدره.
    إذ إن الأمر كذلك: التدبير تدبير الله، والنصر من عند الله، والكثرة العددية ليست هي التي تكفل النصر، والعدة المادية ليست هي التي تقرر مصير المعركة؛ فليثبت الذين آمنوا إذن حين يلقون الذين كفروا، وليتزودوا بالعدة الحقيقية للمعركة، وليأخذوا بالأسباب الموصولة بصاحب التدبير والتقدير، وصاحب العون والمدد، وصاحب القوة والسلطان. وليتجنبوا أسباب الهزيمة التي هزمت الكفار على كثرة العدد وكثرة العدة، وليتجردوا من البطر والكبرياء والباطل، وليحترزوا من خداع الشيطان الذي أهلك أولئك الكفار، وليتوكلوا على الله وحده فهو العزيز الحكيم:
    }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49){.
    فهذه هي عوامل النصر الحقيقية: الثبات عند لقاء العدو، والاتصال بالله بالذكر، والطاعة لله والرسول، وتجنب النزاع والشقاق، والصبر على تكاليف المعركة، والحذر من البطر والرئاء والبغي.
    فأما الثبات فهو بدء الطريق إلى النصر؛ فأثبت الفريقين أغلبهما. وما يُدري الذين آمنوا أن عدوهم يعاني أشد مما يعانون، وأنه يألم كما يألمون، ولكنه لا يرجو من الله ما يرجون، فلا مدد له من رجاء في الله يثبت أقدامه وقلبه. وأنهم لو ثبتوا لحظة أخرى فسينخذل عدوهم وينهار، وما الذي يزلزل أقدام الذين آمنوا وهم واثقون من إحدى الحسنيين: الشهادة أو النصر؟، بينما عدوهم لا يريد إلا الحياة الدنيا، وهو حريص على هذه الحياة التي لا أمل له وراءها ولا حياة له بعدها، ولا حياة له سواها؟.
    وأما ذكر الله كثيراً عند لقاء الأعداء فهو التوجيه الدائم للمؤمن، كما أنه التعليم المطرد الذي استقر في قلوب العصبة المؤمنة..
    ومن خلال النظر في أحداث المعركة نلاحظ أن عوامل النصر التي ذكرها الله تعالى قد توفرت في جيش المؤمنين.
    فثبات الصحابة وعدم تنازعهم قد بينه الصحابي المقداد بن عمرو عندما قال: يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام }اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون{، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيراً ودعا له.
    وعبر عنه الصحابي سعد بن معاذ بقوله: فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما يتخلف منا رجل واحد. وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً. إنا لصبرٌ في الحرب صدقٌ عند اللقاء لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.
    والالتجاء إلى الله لم يكن يفارق رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وصحابته الكرام: [اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً].
    ومع الثبات والتوكل على الله والتقوى كان لا بد من الصبر الذي حض عليه رسول الله: [والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة].
    إلى جانب ذلك كان الصحابة أشد حرصاً على اتباع أوامر وتوجيهات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في كل شيء دون تردد.. فهذا الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري لما رأى رسول الله قد نزل عند أدنى ماء من بدر، كان له رأي آخر، ولكنه أراد أن يتأكد أولاً إن كان ما فعله رسول الله هو أمر من الله يجب الالتزام به أم أنه رأي واجتهاد من الرسول، فقال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة.
    عندها طرح الحباب رأيه في اختيار الموضع المناسب لإقامة المعسكر، وأقره رسول الله على ذلك لما فيه من حسن التدبير والتخطيط.. فالاجتهاد في تحصيل الأسباب المادية مطلوب لتحقيق النصر، ومطلوب لتحقيق معاني التوكل على الله.
    الخلاصة
    إذاً فعوامل النصر والفوز وأدوات القوة تأتي - قبل كل شيء - من الارتباط بالله القوي المتين الحكيم من حيث الالتزام بمنهجه والعمل بما يرضاه.. ثم تأتي الوسائل المادية المكملة.
    فإذا تحقق ذلك في المسلم فستكون لديه القوة الكافية ولن يكون للضعف أو الخوف منفذاً إلى قلبه.. وسيدرك أنه منصور لا محالة عاجلاً أو آجلاً، وأن العاقبة له.
    المصادر
    - تفسير ابن كثير.
    - تفسير الشعراوي.
    - (زاد المعاد)، ابن القيم.
    منقول
    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •