معركة بدر.. أسباب النصر وعوامل القوة
يمكن القول إن موقعتي (بدر) و(أحد) هما أعظم معركتين في التاريخ الإسلامي، ليس من حيث حجم الجيوش المتقاتلة أو العتاد العسكري أو القتلى أو الجرحى.. بل من حيث الظروف التي وقعت فيها هاتان المعركتان، والدلالات والمفاهيم الشرعية الناتجة عن ذلك.. أيضاً والتحولات الكبرى التي أثرت في مسار بناء الدين الإسلامي ونشره في شتى أصقاع الأرض.
ففي هاتين الموقعتين وضعت أسس وقواعد وضوابط شرعية لإدارة الصراع والمواجهة مع العدو.. وتبينت عوامل تحقيق النصر وأسباب الوقوع في الهزيمة والخسران.
وعلى ضوء هاتين المعركتين انطلق الصحابة ومن بعدهم قادة الأمة - عبر الأجيال – يشقون طريق الفتوحات الإسلامية شرقاً وغرباً.. فهاتان الموقعتان أول مرجعية عملية شرعية في معرفة جوانب النصر أو الهزيمة.
وفي تقريرين منفصلين سنحاول التعرف على ظروف المعركتين والأسباب التي أدت إلى النصر في الأولى والهزيمة في الثانية، وماذا يعني النصر أو الهزيمة، وكيف يمكن الاستفادة من الحالتين.
معركة الفرقان في بدر
قال الله تعالى: }وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127){ (آل عمران).
وقال تعالى: }وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُ مْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) { (الأنفال).
خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار وكان أبيض وكان أمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رايتان سوداوان إحداهما مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه والأخرى مع بعض الأنصار. وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة أخا بني مازن بن النجار وكانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ..
وسلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طريقه من المدينة إلى مكة حتى إذا كان قريباً من الصفراء بعث بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء الجهينيين إلى بدر يتجسسان له الأخبار عن أبي سفيان وغيره.
الاستشارة
ثم ارتحل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى واديا يقال له ذفران فجزع فيه ثم نزل وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم فأخبر الناس واستشارهم.
فقام أبو بكر الصديق فقال وأحسن ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون)، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيراً ودعا له.
ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشيروا علي، وإنما يريد الأنصار؛ وذلك أنهم عدد الناس وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا.
فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم من بلادهم إلى عدو.
فلما قال ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله. قال: أجل، قال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك. فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما يتخلف منا رجل واحد. وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً. إنا لصبرٌ في الحرب صدقٌ عند اللقاء لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.
فسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقول سعد ونشطه ذلك، ثم قال سيروا وأبشروا فإن الله تبارك وتعالى قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم.
وجاء في صحيح مسلم أن رسول الله شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، فتكلم أبو بكر فأعرض عنه ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة فقال: إيانا تريد يا رسول الله؟، والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى بَرْك الغِماد لفعلنا. قال فندب رسول الله، فانطلقوا حتى نزلوا بدراً.
وركب رسول الله هو ورجل من أصحابه قيل هو أبو بكر الصديق حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم، فقال الشيخ: لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أخبرتنا أخبرناك، قال أو ذاك بذاك، قال نعم، قال الشيخ فإني بلغني أن محمداً وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبلغني أن قريشاً خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به قريش.
فلما فرغ من خبره قال ممن أنتما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحن من ماء، ثم انصرف عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجعل الشيخ يقول: من ماء أمن ماء العراق؟.
ثم رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له عليه فأصابوا راوية لقريش فيها غلامان لبعضهم فأتوا بهما فسألوهما ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي، فقالا نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء فكره القوم خبرهما ورجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما فلما أذلقوهما قالا نحن لأبي سفيان فتركوهما.
وركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسجد سجدتيه ثم سلم، وقال: إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما صدقا والله إنهما لقريش، أخبراني عن قريش، فقالا هم وراء هذا الكثيب الذي ترى، قال كم القوم قالا كثير، قال ما عدتهم قالا ما ندري، قال كم ينحرون كل يوم قالا يوماً تسعاً ويوماً عشراً، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القوم ما بين التسعمائة والألف.
ثم قال لهما من فيهم من أشراف قريش قالا عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد والحارث ابن عامر وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وسهيل بن عمرو وعمرو بن عبد ود.
فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس فقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها.
عون الله
وبعث الله عز وجل السماء وكان الوادي دهساً فأصاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه منها ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم من المسير، وأصاب قريشاً منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه.
فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبادرهم إلى الماء حتى إذا جاءوا أدنى ماء من بدر نزلوا به.
قوال الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة.
قال: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضاً فنملأه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقد أشرت بالرأي.
فنهض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من الناس فساروا حتى إذا أتى أدنى ماء إلى القوم نزل عليه ثم أمر بالقلب فغورت وبنى حوضاً على القليب الذي نزل عليه فملئ ماءً ثم قذفوا فيه الآنية.
وقال سعد بن معاذ يا نبي الله ألا نبني لك عريشاً تكون فيه ونعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا. فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد حبا لك منهم ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك يمنعك الله عز وجل بهم يناصحونك ويجاهدون معك.
فأثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه خيراً ودعا له بخير ثم بني لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عريش فكان فيه.
وارتحلت قريش حين أصبحت فأقبلت فلما رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تصوب من الكثيب الذي جاءوا منه قال: اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني به اللهم أحنهم الغداة.
وكان شعار أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم – (أحدٌ أحدٌ).
وعدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ صفوف أصحابه وفي يده قدح يعدل به القوم فمر بسواد بن غزية حليف بني عدي بن النجار وهو مستنثل من الصف أي بارز فطعنه في بطنه بالقدح، وقال استو يا سواد. فقال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فأقدني.
فكشف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بطنه وقال استقد، فاعتنقه فقبل بطنه، فقال له: ما حملك على هذا يا سواد. قال: يا رسول الله حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك. فدعا له بخير.
ثم عدل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصفوف ورجع إلى العريش فدخله ومعه فيه أبو بكر ليس معه فيه غيره، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يناشد ربه ما وعده من النصر، ويقول فيما يقول: [اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً].
ومازال يدعو ويستغيث حتى سقط رداؤه، فأخذه أبوبكر ورده على منكبيه وهو يقول: يا رسول الله كفاك مناشدتك ربك فإنه منجر لك ما وعدك..
وأنزل الله عز وجل: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}، وفي رواية ابن عباس قال: قال النبي يوم بدر: [الله أنشدك عهدك ووعدك، الله إن شئت لم تعبد]. فأخذ أبوبكر بيده، فقال: حسبك الله. فخرج وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}.
وقد خفق النبي خفقة وهو في العريش ثم انتبه فقال: ابشر يا أبا بكر أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع، يعني الغبار.
ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس فحرضهم، ثم قال: والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة.
فقال عمير بن الحمام أخو بني سلمة - وفي يده تمرات يأكلهن -: بخ بخ أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء. ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل حتى قتل.
وقال يومئذ عوف بن الحارث: يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده، فقال غمسه يده في العدو حاسراً فنزع درعاً كانت عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل.
وقاتل عكاشة بن محصن الأسدي حليف بني عبد شمس يوم بدر بسيفه حتى انقطع في يده. فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاه جذلاً من حطب، فقال: قاتل بهذا يا عكاشة. فلما أخذه هزه فعاد في يده سيفاً طويل القامة شديد المتن أبيض الحديدة. فقاتل به حتى فتح الله على المسلمين. وكان ذلك السيف يسمى العون.
ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشاً، ثم قال: شاهت الوجوه ثم نفحهم بها، ثم أمر أصحابه فقال: شدوا فكانت الهزيمة عليهم.
وجعل الله تلك الحصباء عظيماً شأنها لم تترك من المشركين رجلاً إلا ملأت عينيه.
فلما وضع القوم أيديهم يأسرون وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوشح السيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله خوف كرة العدو عليه، رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجه سعد الكراهية لما يصنع الناس فقال له: لكأنك والله يا سعد تكره ما يصنع القوم. فقال: أجل والله يا رسول الله، كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك، فكان الإثخان في القتل أحب إلي من استقبال الرجال.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ لأصحابه: [إني قد عرفت أن رجالاً من بني هاشم وغيرهم أخرجوا كرهاً لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله ومن لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله ومن لقي العباس عم رسول الله فلا يقتله فإنه إنما خرج مستكرهاً].
فقال: أبو حذيفة أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس، والله لئن وجدته لألحمنه السيف.
فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لعمر بن الخطاب يا أبا حفص: [أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف]. فقال عمر: يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه بالسيف فو الله لقد نافق.
فكان أبو حذيفة يقول: ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ ولا أزال منها خائفاً إلا أن تكفرها عني الشهادة. فقتل يوم اليمامة شهيداً رضي الله عنه.
وإنما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل أبي البختري؛ لأنه كان أكف القوم عنه بمكة. وكان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شيء يكرهه. وكان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم وبني المطلب.
وأخرج مسلم في صحيحه عن عبد الرحمن بن عوف قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر نظرت عن يميني وشمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما.. فغمزني أحدهما فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل، قلت: نعم وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟، قال: أخبرت أنه يسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا.
قال: فتعجبت لذلك. فغمزني الآخر فقال: مثلها، قال: فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت ألا تريان هذا صاحبكما الذي تسألان عنه.
فابتدراه فضرباه بسيفيهما حتى قتلاه ثم انصرفا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبراه فقال: أيكما قتله فقال كل واحد منهما: أنا قتلته. فقال هل مسحتما سيفيكما، قالا: لا، فنظر في السيفين فقال: كلاكما قتله.
وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقتلى أن يطرحوا في القليب فطرحوا فيه إلا ما كان من أمية بن خلف فإنه انتفخ في درعه فملأها فذهبوا ليحركوه فتزايل فأقروه وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة.
ووقف عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم – فقال: يا أهل القليب بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم؛ كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس. يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً.
فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ما تخاطب من أقوام قد جيفوا؟، فقال والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون الجواب.
ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرصة ثلاثاً، وكان إذا ظهر على قوم أقام بعرصتهم ثلاثاً.
ثم ارتحل مؤيداً منصوراً، قرير العين بنصر الله له ومعه الأسارى والمغانم. فلما كان بالصفراء قسم الغنائم وضرب عنق النضر بن الحارث بن كلدة، ثم لما نزل بعرق الظبية ضرب عنق عقبة بن أبي معيط.
ودخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وقد خافه كل عدو له في المدينة وحولها، فأسلم بشر كثير من أهل المدينة، وحينئذ دخل عبد الله بن أبي المنافق وأصحابه في الإسلام ظاهراً.
يتبع