يقول المعارض:الجواب( فقيام الحجة لا يكفي فيه مجرد بلوغها، بل لابد مع ذلك من فهم تلك الحجة، وألا تعرض للمعين شبهة معتبرة تمنعه من اعتقاد ما هو مقتضي تلك الحجة، وإلا كان معذوراً إذا تأولها، لا فرق في ذلك بين الشبهة في المقالات الخفية وغيرها، ولا الشبهة عند من نشأ ببادية أو كان حديث عهد بإسلام أولم يكن كذلك)
قال الشيخ سليمان بن سحمان في كشف الشبهتين ص 91 و 92
(( قال شيخنا الشيخ عبد اللطيف رحمه الله:
(وينبغي أن يعلم الفرق بين قيام الحجة ، وفهم الحجة ، فإن من بلغته دعوة الرسل فقد قامت عليه الحجة إذا كان على وجه يمكن معه العلم ، ولا يشترط في قيام الحجة أن يفهم عن الله ورسوله ما يفهمه أهل الإيمان والقبول والانقياد لما جاء به الرسول ، فافهم هذا يكشف عنك شبهات كثيرة في مسألة قيام الحجة ،
قال الله تعالى : ( أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً ) (الفرقان :44) ، وقال تعالى ( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) (البقرة: 7 ) انتهى.
ومعنى قوله رحمه الله تعالى:(إذا كان على وجه يمكن معه العلم ) فمعناه أن لا يكون عديم العقل والتمييز كالصغير والمجنون ، أو يكون ممن لا يفهم الخطاب ، ولم يحضر ترجمان يترجم له ، ونحو هؤلاء فمن بلغته رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، وبلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة، قال الله تعالى : ( لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) (الأنعام: 19) ، وقال تعالى (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء :165) فلا يعذر أحد في عدم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فلا عذر له بعد ذلك بالجهل ، وقد أخبر الله سبحانه بجهل كثير من الكفار مع تصريحه بكفرهم ))
قال الشيخ محمد بن ناصر بن معمر في كتاب النبذة الشريفة النفيسة في الردّ على القبوريين (( فكل من بلغه القرآن فليس بمعذور، فإن الأصول الكبار التي هي أصل دين الإسلام، قد بينها الله ووضحها وأقام بها الحجة على عباده، وليس المراد بقيام الحجة أن يفهمها الإنسان فهماً جلّياً، كما يفهمها من هداه الله ووفقه وأنقاد لأمره، فإن الكفار قد قامت عليهم حجة الله مع إخباره بأنه جعل على قلوبهم أكنةً أن يفقهوا كلامه، فقال: {وجعلنا على قلوبهم أكنةً أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً} [الأنعام/25]... والآيات في هذا المعنى كثيرة، يخبر سبحانه أنهم لم يفهموا القرآن ولم يفقهوه وأنه عاقبهم بجعل الأكنةً على قلوبهم والوقر في آذانهم وأنه ختم على قلوبهم، وأسماعهم وأبصارهم، فلم يعذرهم مع هذا كله بل حكم بكفرهم ))
فإذا قامت الحجة بهذا المعنى (التمكن من سماع القرآن) فقد ثَبَتَ العذاب لمن مات مشركا
فالمراد بقيام الحجة ليس إثبات وصف الكفر لمن تلبس به و تسميته بالكافر ، إنما إنزال الاحكام عليه من قتل و إعتقاد تعذيبه في الاخرة
قال عبد الله وإبراهيم أبناء الشيخ عبد اللطيف وسليمان بن سحمان في الدرر السنية 10/433 (( وأما قوله: - أي أحد المجادلين عن المشركين - وهؤلاء ما فهموا الحجة؛ فهذا مما يدل على جهله، وأنه لم يُفرق بين فهم الحجة، وبلوغ الحجة، ففهمها نوع وبلوغها نوع آخر، فقد تقوم الحجة على من لم يفهمها ))
قال الامام محمد ابن عبد الوهاب في الدرر السنية ج10 ص 93 ((ولكن أصل الإشكال، أنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة، وبين فهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين من المسلمين، لم يفهموا حجة الله مع قيامها عليهم، كما قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً}.
وقيام الحجة نوع، وبلوغها نوع، وقد قامت عليهم، وفهمهم إياها نوع آخر; وكفرهم ببلوغها إياهم، وإن لم يفهموها.
إن أشكل عليكم ذلك، فانظروا:
(1) قوله صلى الله عليه و سلم في الخوارج: " أينما لقيتموهم فاقتلوهم " ،وقوله: " شر قتلى تحت أديم السماء " ، مع كونهم في عصر الصحابة، ويحقر الإنسان عمل الصحابة معهم، ومع إجماع الناس أن الذي أخرجهم من الدين هو التشدد والغلو والاجتهاد؛ وهم يظنون أنهم يطيعون الله، وقد بلغتهم الحجة، ولكن لم يفهموها
(2) وكذلك قتل علي رضي الله عنه الذين إعتقدوا فيه، وتحريقهم بالنار، مع كونهم تلاميذ الصحابة، ومع عبادتهم وصلاتهم وصيامهم، وهم يظنون أنهم على حق
(3) وكذلك إجماع السلف: على تكفير غلاة القدرية وغيرهم، مع علمهم وشدة عبادتهم، وكونهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا؛ ولم يتوقف أحد من السلف في تكفيرهم لأجل كونهم لم يفهموا، فإن هؤلاء كلهم لم يفهموا.
إذا علمتم ذلك، فإن هذا الذي أنتم فيه كفر: الناس يعبدون الطواغيت، ويعادون دين الإسلام، فيزعمون أنه ليس ردة، لعلهم ما فهموا الحجة، كل هذا بين.
وأظهر مما تقدم : الذين حرقهم علي، فإنه يشابه هذا ))
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وإذا كان في المقالات الخفية، فقد يقال: إنه فيها مخطىء ضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، لكن ذلك يقع في طوائف منهم في الأمور الظاهرة التي يعلم الخاصة والعامة من المسلمين أنها من دين المسلمين، بل اليهود والنصارى والمشركون يعلمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم بعث بها وكفّر من خالفها، مثل أمره بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيه عن عبادة أحد سوى الله من الملائكة والنبيين وغيرهم، فإن هذا أظهر شعائر الإسلام، ومثل معاداة اليهود والنصارى والمشركين، ومثل تحريم الفواحش والربا والخمر والميسر ونحو ذلك، ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا في هذه الأنواع؛ فكانوا مرتدين، وإن كانوا قد يتوبون من ذلك ويعودون)الفرق بين المسائل الظاهرة والخفية
قال الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله معلقاً على كلام شيخ الإسلام السابق: (فانظر إلى تفريقه بين المقالات الخفية والأمور الظاهرة، فقال في المقالات الخفية التي هي كفر قد يقال: إنه فيها مخطىء وضال لم تقم عليه الحجة التي يكفر صاحبها، ولم يقل ذلك في الأمور الظاهرة، بل قال: ثم تجد كثيراً من رؤوسهم وقعوا في هذه الأمور فكانوا مرتدين، فحكم بردتهم مطلقاً ولم يتوقف في الجاهل)
وقال أبناء الشيخ عبد اللطيف - عبد الله وإبراهيم - والشيخ سليمان بن سحمان رحمهم الله رداً على قول المخالف وهو: (نقول: بأن القول كفر، ولا نحكم بكفر القائل)، فأجابوا: (فإطلاق هذا جهل صرف، لأن هذه العبارة لا تنطبق إلا على معين، ومسألة تكفير المعين مسألة معروفة إذا قال قولاً يكون به كفراً، فيقال: من قال بهذا القول فهوا كافر، لكن الشخص المعين إذا قال ذلك لا يحكم بكفره حتى تقام عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا في المسائل الخفية التي قد يخفي دليلها على بعض الناس، كما في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك مما قاله أهل الأهواء، فإن بعض أقوالهم تتضمن أموراً كفرية، من رد أدلة الكتاب والسنة المتواترة، فيكون القول المتضمن لرد بعض النصوص كفراً، ولا يحكم على قائله بالكفر، لاحتمال وجود مانع كالجهل وعدم العلم بنقض النص أو بدلالته، فإن الشرائع لا تلزم إلا بعد بلوغها - ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه في كثير من كتبه -)
وقال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله: (فمن كان مؤمناً بالله ورسوله باطناً وظاهراً لكنه اجتهد في طلب الحق؛ فأخطأ أو غلط أو جهل أو تأول، فإن الله تعالى يغفر له خطأه - كائناً من كان - في المسائل النظرية أو العلمية، ومنشأ الغلط؛ أن هؤلاء لما سمعوا كلام شيخ الإسلام رحمه الله في بعض أجوبته يقول بعدم تكفير الجاهل والمجتهد المخطىء والمتأول، ظنوا أن هذا يعم كل خطأ وجهل، واجتهاد وتأويل، وأجملوا ولم يفصلوا، وهذا خطأ محض، فإنه ليس كل اجتهاد وخطأ وتأويل يغفر لصاحبه وأنه لا يكفر بذلك، فإن ما علم بالضرورة من دين الإسلام، كالإيمان بالله ورسوله وبما جاء به؛ لا يعذر أحد بالجهل بذلك، فقد أخبر الله سبحانه بجهل كثير من الكفار مع تصريحه بكفرهم، ووصف النصارى بالجهل، مع أنه لا يشك مسلم بكفرهم، ونقطع أن أكثر اليهود والنصارى اليوم جهال مقلدون، ونعتقد كفرهم وكفر من شك بكفرهم) [130]
وقال الشيخ عبد اللطيف رحمه الله - في رده على عثمان بن منصور في احتجاجه بحديث الرجل الذي ذرى نفسه على عدم تكفير من وقع في الشرك حتى تقام عليه الحجة الرسالية، فيما نقله عن شيخ الإسلام كما يدعي - قال رحمه الله أثناء جوابه: (ويقال أيضاً: فرض الكلام الذي نقله عن أبي العباس رحمه الله ومحله في أهل البدع، كما هو صريح كلامه، والمشركون وعباد القبور عند أهل السنة والجماعة معدودون من أهل الشرك والردة، فالفقهاء فرقوا بين القسمين في الأبواب والأحكام، فذكروا أهل الشرك والردة، وذكروا أهل الأهواء في باب قتال أهل البغي كالخوارج والقدرية ونحوهم، وهذا يعرفه صغار الطلاب..
إلى أن قال: (... ويقال أيضاً: قد صرح أبو العباس أن عدم التكفير قد يقال فيما يخفي على بعض الناس، وأما ما يعلم من الدين بالضرورة، كشهادة أن لا إله إلا الله وشهادة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فهذا لا يتوقف أحدٌ في كفر من أنكر لفظه أو معناه ولم ينقد لما دلت عليه الشهادتان، وهذا متفق عليه في الجملة، فجعله من المسائل التي خاض فيها أهل البدع والأهواء خروج عن محل النزاع، وخرق لما ثبت وصح من الاتفاق والإجماع) ـ
وقال مفتي الديار النجدية في وقته العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله في "مسألة تكفير المعين": (من الناس من يقول: لا يكفر المعين أبداً! ويستدل هؤلاء بأشياء من كلام ابن تيمية غلطوا في فهمها، وأظنهم لا يكفرون إلا من نص القرآن على كفره، كفرعون، والنصوص لا تجيء بتعيين كل أحد، يدرس باب حكم المرتد ولا يطبق على أحد؟! هذه ضلالة عمياء وجهالة كبرى، بل يطبق بشرط، ثم الذين توقفوا في تكفير المعين في الأشياء التي قد يخفى دليلها فلا يكفر حتى تقوم عليه الحجة الرسالية من حيث الثبوت والدلالة، فإذا أوضحت له الحجة بالبيان الكافي كفر، سواء فهم أو قال ما فهمت، أو فهم وأنكر، ليس كفر الكفار كله عن عناد، وأما ما علم بالضرورة أن الرسول جاء به وخالفه؛ فهذا يكفر بمجرد ذلك، ولا يحتاج إلى تعريف، سواء في الأصول أو الفروع، ما لم يكن حديث عهد بالإسلام)