الفِرقَةِ النَّاجِيَةِ
المَنْصُورَةِ
إِلى قِيَامِ السَّاعَةِ
أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ
الشرح
قولُه: ( الفرقةِ ): أي الطّائفةِ والجماعةِ، وأمَّا الفُرقةُ بالضّمِّ فمعناه الافتراقُ.
قولُه: ( النَّاجيةَِ ): أي الَّتي سَلِمَتْ من الهلاكِ والشّرورِ في الدّنيا والآخرةِ.
وحصلتْ على السّعادةِ بِسببِ استقامتِها على الحقِّ، وتمسُّكِها بما كان عليه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وأصحابُه، كما في حديثِ أبي هريرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ قال: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((افْتَرَقَتِ اليَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوْ ثنتين وسبعينَ فِرْقَةً وَتَفَرَّقَتِ النَّصارى عَلَى إِحْدَى أَو ثنتين وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً )) رواهُ أبو داودَ، والتّرمذيُّ، وابنُ ماجه، وحديثُ ابنِ ماجه مختصرٌ، وقالَ التّرمذيُّ: حسنٌ صحيحٌ، وعن معاويةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ أنَّه قال: ألا إنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قامَ فينا فقالَ: (( إِنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى اثنتين وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَإِنَّ الأُمَّةَ ستفترِقُ عَلَى ثَلاثٍٍ وَسَبْعِينَ: اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الجَنَّةِ وهي الجَمَاعَةُ )) رواهُ أبو داودَ، وفي روايةِ التّرمذيِّ (( كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلاَّ وَاحِدَةً )) قَالُوا: مَنْ هي يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ: (( مَنْ كانَ عَلَى مِثْلِ ما أنا علَيه اليومَ وَأَصْحَابِي )) وقالَ: هذا حديثٌ غريبٌ مُفَِّسرٌ لا نعرفهُ إلا مِنْ هذا الوجهِ.
وقد أخطأ بعضُهم في تعريفِ الفرقةِ الناجيةِ أنَّها: أهلُ الحديثِ، والأَشْعَرِيَّة ِ، والمَاتُرِيدِيّ َةِ، فإنَّ لفظَ الحديثِ يَرُدُّ ذلك، فإنَّ قولَهُ: ( وَاحِدَةً ) يُنافي التّعدُّدَ، فتعيَّنَ أنْ تكونَ الفرقةُ النّاجيةُ هم أهلَ الحديثِ فقط، وهم أهلُ السّنَّةِ والجماعةِ.
قولُه: ( المنصورةِ ): أي الـَّتي أعانها سبحانـَه وأيَّدها وقَوَّاها على مَنْ خَالَفَها وعَاداها، وجعلَ العاقبةَ لها لِتَمَسُّكِها بما كانَ عليه الرَّسولُ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابُه، كما في الصَّحيحِ مِن حديثِ المغيرةِ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (( لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ )) وفي حديثِ جابرِ بنِ سَمُرَةَ وجابرِ بنِ عبدِ اللهِ أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (( لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الحَقِّ ظَاهِرِينَ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ وَلاَ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ )) رواه مسلمٌ وغيرُهُ.
قالَ البخاريُّ وغيرُه: هذه الطَّائفةُ هم أهلُ العلمِ. وقال أحمدُ: إنْ لم يكونوا أهلَ الحديثِ فلا أدري من هم، وكذا قالَ يزيدُ بنُ هارونَ قالَ: قال القاضي عِيَاضٌ: إنَّما أرادَ أحمدُ أهلَ السّنّةِ والجماعةِ ومَنْ يَعْتقدُ مذهبَ أهلِ الحديث.
ففيهِ أعظمُ بِشارةٍ أَنَّ الحقَّ لا يزولُ بِالكُلِّيَّةِ, وفيه معجزةٌ ظاهرةٌ للنَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنَّه لم يَزَلْ وللهِ الحمدُ هذا الوصفُ باقياً ولا يزالُ، وهذه سنّةُ اللهِ في خلقهِ أَنَّه ينصرُ عبادَه المؤمنين، كما قالَ سبحانَه: ( ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) وفي صحيحٍ البخاريِّ من حديثِ أبي هريرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: (( قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ عَادَى لِي وليّاً فَقَدْ بَارَزَنِي بِالحَرْبِ )) ولهذا أهلَكَ اللهُ قومَ نوحٍ، وعاداً، وثمودَ، وأشباهَهم ممن كذَّبَ الرّسلَ، وأنْجى عبادَهُ المؤمنين، وهكذا نصرَ اللهُ نبيَّه محمّداً وأصحابَه على من خالفَهُ وناوَأَهُ وعاداه، فجعل كلمتَهُ العليا، ودينَهُ الظاهرَ على سائرِ الأديانِ، وفتحَ اللهُ عليه مكَّةَ واليمنَ، ودانتْ له جزيرةُ العربِ بِكمالِها وأقامَ اللهُ أصحابَه وخلفاءَه من بعدِه فَبَلَّغُوا عنه دينَ اللهِ، ودَعوْا إلى اللهِ، وفتَحوا البلادَ والأقاليمَ حتَّى انتشرتِ الدَّعوةُ المحمّديّةُ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِهَا، ثمَّ لا يزالُ هذا الدِّينُ قائماً منصوراً إلى قيامِ السّاعةِ، كما قالَ اللهُ سبحانه: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) أي يومَ القيامةِ تكونُ النُّصرةُ أعظمَ وأجلَّ.
وعن أبي عُتبةَ الخولانِيِّ قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: (( لاَ يَزَالُ اللهُ يَغْرِسُ فِي هَذَا الدِّينِ غَرْساً يَسْتَعْمِلُهُم ْ فِي طَاعَتِهِ )) رواه ابنُ ماجةَ.
نقلَ نعيمُ بنُ طريفٍ رحمَهُ اللهُ عن أحمدَ أنَّه قالَ: هم أصحابُ الحديثِ، وفي السُنَنِ (( إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ فِي رَأْسِ كُلِّ مائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا )) وقال عَليٌّ رَضِي اللهُ عَنْهُ: لن تخلوَ الأرضُ من قائمٍ للهِ بحجَّتِه.
قولـُه: ( إلى قيامِ السـَّاعةِ ): أي ساعةِ موتِهم بمجيءِ الرِّيحِ الَّتي تَقْبِضُ رُوحَ كلِّ مؤمنٍ وهي السَّاعةُ في حقِّ المؤمنين وإلا فالسَّاعةُ لا تقومُ إلا على شِرارِ الخلقِ كما في صحيحٍ مسلمٍ: (( لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لاَ يُقَالَ فِي الأَرْضِ اللهَ اللهَ)) والمُرادُ بالرِّيحِ ما روَى الحاكمُ أَنَّ عبدَ اللهِ بنَ عمروٍ قال: (( لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ عَلَى شِرَارِ الخَلْقِ، هُمْ شَرُّ أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ )) وقال عقبةُ لعبدِ اللهِ: اعلمْ ما تقولُ، وأَمَّا أَنَا فسمِعْتُ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ علَيه وَسَلَّمَ يقولُ: (( لاَ تَزَالُ عِصابةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ اللهِ ظَاهِرِينَ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ))، قال عبدُ اللهِ: ويبعثُ اللهُ ريحاً ريحُها ريحُ المسكِ ومَسُّها مَسُّ الحريرِ فلا تتركُ أحداً في قلبِهِ مثقالُ ذرّةٍ من إيمانٍ إلا قبضتهُ ثمَّ يبقى شِرارُ النَّاسِ فعليهم تقومُ السَّاعةُ.
وقولُه: ( أهلُ السـّنـّةِ ): أي المُخْتَصُّون والمُتَمسِّكون بها والمُعْتنون بدراستِها وفَهْمِها، الُمحَكِّمُون لها في القليلِ والكثيرِ، والسّنّةُ لغةً: الطّريقةُ، وشرعاً: هي أقوالُ النَّبيِّ وأفعالهُ وتَقْرِيرَاتُه، وسُمّوا أهلَ السّنّةِ لانْتِسَاِبِهم لسنَّتِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دونَ المقالاتِ كلِّها والمذاهبِ، وقد سُئِل بعضُهُم عن أهلِ السّنّةِ فقال ما لا اسمَ له سوى السّنّةِ، يعني أَنَّ أهلَ السُّنةِ ليس لهم اسمٌ ينتسبون إليه سِواهَا خلافاً لأهلِ البدعِ، فإنَّهم تارةً ينتسبون إلى المَقَالَةِ كالْقَدَرِيَّةِ والمُرْجِئَةِ، وتارةً إلى القَائِل كَالْجَهْمِيَّة ِ والنَّجَّاريَّة ِ، وتارةً إلى الفعلِ كالرَّوَافِضِ والْخَوارِجِ، وأهلُ السّنّةِ بريئون من هذه النِّسَبِ كلِّها، وإنَّما نسبتُهُم إلى الحديثِ والسّنّةِ.
قوله: ( والجماعةُ ): لغةً: الفِرقةُ من النّاسِ، والمرادُ بهم هنا أصحابُ النّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ القيامةِ، وقد تكاثرتِ الأدلَّةُ في الحثِّ على لزومِ الجماعةِ فروَى التِّرْمِذِيُّ عن ابنِ عبَّاسٍ مرفوعاً: (( إِنَّ يَدَ اللهِ عَلىَ الْجَمَاعَةِ))، وعن أبي ذَرٍّ مرفوعاً: (( عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ إِنَّ اللهَ لَمْ يَجْمَعْ أُمَّتِي إِلاَّ عَلَى هُدًى )) رواه أحمدُ. وعن أبي ذَرٍّ مرفوعاً: (( مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْراً فَقَدْ خَلَعَ ربقةَ الإِسْلاَمِ مِنْ عنقِهِ )) رواه أحمدُ وأبو داودَ.
قال أبو محمّدٍ عبدُ الرَّحمنِ بنُ إسماعيلَ المعروفُ بأبي شَامَةَ في كتابِ (( البَاعِثُ عَلى إِنْكَارِ الْبِدَعِ وَالحَوَادِثِ )) حيث جاء الأمرُ بلزومِ الجماعةِ، فإنّ المرادَ بها لزومُ الحقِّ، وإنْ كانَ المُتَمَسِّكُ به قليلاً والمُخَالِفُ له كثيراً؛ لأنَّ الحقَّ هو الذي كانَتْ عليه الجماعةُ الأولى من عهدِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا نظرَ إلى كثرةِ أهلِ الباطل بعدَهم، وقال مَيْمُونُ بنُ مِهْرَانَ: قال ابنُ مسعودٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ: الجَمَاعَةُ ما وَافَقَ الحَقَّ وإن كنتَ وَحْدَكَ. وقال نعيمُ بنُ حَمَّادٍ: إذا فَسَدَتِ الجماعة فعليكَ بما كانَتْ عليه الجماعةُ قبلَ أن تفسدَ وإن كنتَ وحدك، فإنَّكَ أنتَ الجماعةُ حينئذٍ، ذكره البَيْهَقِيُّ وغيرُهُ.
قال ابنُ القيّمِ في كتابِه (( أَعْلاَمُ المُوَقِّعِينَ )): واعلمْ أَنَّ الإجماعَ والحُجَّةَ والسَّوَادَ الأعظمَ هو العَالِمُ صاحبُ الحقِّ وإنْ كانَ وحدَه، وإنْ خالفَه أهلُ الأرضِ، وقد شَذَّ النَّاسُ كلُّهم زمنَ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ إلا نفراً يسيراً فكانوا همُ الجماعةَ، وكانَ الفقهاءُ والمفتونُ والخليفةُ وأتباعهُ هم الشَّاذّين، وكانَ الإمامُ أحمدُ وحدَه هو الجماعةَ، ولمَّا لم يَتَحَمَّلْ هذا عقولُ النّاسِ قالوا للخليفةِ: يا أميرَ المؤمنين تكونُ أنتَ وقُضَاتُكَ وَوُلاتُكَ والفقهاءُ والمفتون كلُّهم على الباطلِ، وأحمدُ وحدَه على الحقِّ، فلم يَتَّسِعْ علمُه لذلك، فَأَخَذَهُ بالسِّياطِ والعُقوبةِ بعد الحبسِ الطَّويلِ، فلا إلهَ إلا اللهُ ما أشبهَ الليلةَ بالبارحةِ، وهي السبيلُ المُهيعُ لأهلِ السُّنةِ والجماعةِ حتَّى يَلْقَوْا ربَّهُم، مضَى عليها سَلَفُهم وينتظرُها خَلَفُهُم (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً ) ولا حولَ ولا قوَّةَ إلا باللهِ. انتهى بِتَصَرُّفٍ.
ذكرَ المصنِّفُ رحمهُ اللهُ أَنَّ الاعتقادَ النَّافعَ المنجِّيَ من الشّرورِ الَّذي هو سببُ العزّةِ والنَّصرِ والتَّأييدِ والرِّفْعةِ والشّرفِ هو الاعتقادُ المأخوذُ من الكتابِ والسّنّةِ، وهو الَّذي عليه الصَّحابةُ وتابعوهم بإحسانٍ، وأصلُه الَّذي يُبْنىَ عليه هو هذه الأصولُ السّتّةُ المذكورةُ في حديثِ جبريلَ، في هذه الرّسالةِ من أوَّلِها إلى آخرِهَا، تفصيلٌ لهذه الأصولِ السّتّةِ المذكورةِ في هذا الحديثِ وغيرِهِ من الآياتِ، قال تعالى: (آمَن الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ ) الآية، وقال: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ) الآية، وهذه الأصولُ السّتّةُ اتَّفقَتْ عليها الأنبياءُ والمرسلون عليهمُ الصّلاةُ والسّلامُ، ولم يؤمنْ بها حقيقةَ الإيمانِ إلا أتباعُ الرّسلِ، وأمَّا أعداؤهم ومن سلكَ سبيلَهُم من الفلاسفةِ وأهلِ البدعِ فهم مُتَفَاوِتُون في جَحْدِها وإنكارِها. التنبيهات السنية للشيخ: عبد العزيز بن ناصر الرشيد