"النوال في تحرير ما للمفسرين من أقوال" (31)

اكتب في (قوقل) (النوال. وأول الآية) التي تريد معرفة ملخص آراء المفسرين فيها.

قال الرازي رحمه الله في من يفهم آيات القرآن على الآراء الضعيفة: "أقول حقاً: إن الذين يتبعون أمثال ذلك قد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرماناً عظيماً".

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد.
قال الله تعالى في سورة "القصص" في قصة قارون: (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ)

القول الأقرب في المراد بقوله: (وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) أن السؤال المنفي هو السؤال في الدنيا, أي: لا يسأل المجرم عن جرمه قبل عقابه, لأنه قد قامت عليه الحجة, فيؤخذ بغتة.

والآن إلى ذكر أقوال المفسرين في الآية.
اختلف المفسرون في المراد بقوله: (وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أنهم يدخلون النار بغير حساب, فيعذبون ولا يسألون عن ذنوبهم. (ذكره ابن جرير*, والبغوي*, وابن عطية*, والقرطبي*) (واقتصر عليه الرازي*, وابن كثير*, والشنقيطي*)

قال القرطبي: "قال قتادة: لا يسأل المجرمون عن ذنوبهم لظهورها وكثرتها، بل يدخلون النار بلا حساب".

وأصحاب هذا القول احتاجوا إلى الجمع بين هذه الآية والآيات التي تثبت السؤال للجميع.
كقوله تعالى: (فَلَنَسْأَلَنّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)
وقوله: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
وقوله: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ)
وقوله: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ)
وغيرها.

فقال بعضهم: إن القيامة مواطن لطول ذلك اليوم، فيسأل في بعض المواطن ولا يسأل في بعض.
وقال آخرون: إنهم لا يسألون عن ذنوبهم, وإنما يسألون سؤال توبيخ وتقريع.

قال ابن عطية: "قال الناس في هذا: إنها مواطن وطوائف، وذلك من قوله محتمل, ويشبه عندي أن تكون الآيات التي توجب السؤال إنما يراد بها أسئلة التوبيخ والتقرير"اهـ

قلت: وكلا القولين في الجمع بين الآيات فيه بعد.

القول الثاني: أن الملائكة لا تسأل عنهم، لأنهم يعرفونهم بسيماهم. (ذكره ابن جرير*, والماتريدي*, والبغوي*, وابن عطية*, والقرطبي*)
فهو كقوله: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ)

القول الثالث: أن السؤال المنفي هو السؤال في الدنيا, أي: لا يسأل المجرم عن جرمه قبل عقابه, لأنه قد قامت عليه الحجة, فيؤخذ بغتة. (اقتصر عليه الزمخشري*, وابن عاشور*) (وذكره القرطبي*)

وهذا القول هو الأقرب والله أعلم, فإن الله تبارك وتعالى قال قبل ذلك: (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا) فهو تهديد وتحذير بسرعة الأخذ وعدم الإمهال والسؤال.

قال الزمخشري: "لما ذكر قارون من أهلك من قبله من القرون الذين كانوا أقوى منه وأغنى قال على سبيل التهديد له: والله مطلع على ذنوب المجرمين، لا يحتاج إلى سؤالهم عنها واستعلامهم. وهو قادر على أن يعاقبهم عليها، كقوله تعالى: (والله خبير بما تعملون)، (والله بما تعملون عليم) وما أشبه ذلك".

وقال ابن عاشور: والسؤال المنفي السؤال في الدنيا وليس سؤال الآخرة. والكلام تهديد للمجرمين ليكونوا بالحذر من أن يؤخذوا بغتة، ويحتمل أن يكون السؤال بمعناه الحقيقي، أي لا يسأل المجرم عن جرمه قبل عقابه لأن الله قد بين للناس على ألسنة الرسل بحدي الخير والشر، وأمهل المجرم فإذا أخذه بغتة وهذا كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}.

وقال القرطبي: "وقيل: أهلك من أهلك من القرون عن علم منه بذنوبهم فلم يحتج إلى مسألتهم عن ذنوبهم".

ومما يؤيد أن هذا هو الراجح في معنى الآية أن الله تبارك وتعالى قد ذكر في آيات كثيرة أن المجرمين يحاسبون ويسألون.
كقوله تعالى: (فَلَنَسْأَلَنّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ)
وقوله: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُ مْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
وقوله: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ)
وقوله: (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ)
وغيرها من الآيات.

وفي الآية قول رابع بعيد وضعيف.
وهو أنه لا يسأل المجرمون عن ذنوب أولئك الذين أهلكهم الله من الأمم الماضية. (ضعفه ابن جرير*) (وذكره الماتريدي*, وابن عطية*, والقرطبي*)

فالضمير في قوله: (عن ذنوبهم) عائد على من أهلك من القرون، أي: أهلكوا ولا يسأل غيرهم بعدهم عن ذنوبهم, فكل كل أحد يعاقب بحسب ما يخصه, فكل نفس بما كسبت رهينة.

وهذا القول ضعيف.
قال ابن جرير: "لأن الله تعالى ذكره غير سائل عن ذنوب مذنب غير من أذنب لا مؤمن ولا كافر, فإذ كان ذلك كذلك فمعلوم أنه لا معنى لخصوص المجرمين".
والله تعالى أعلم.

للاطلاع على مقدمة سلسلة (النوال)
انظر هنا
https://majles.alukah.net/t188624/