المعجم التاريخي للغة العربية
و
المعاجم التاريخية الاصطلاحية


منطلق هذا الموضوع هو السؤال التالي: هل المعجم التاريخي للغة العربية يُغني عن المعاجم التاريخية للمصطلحات في مختلف التخصصات؟
في البداية تجر الإشارة إلى أن إنجاز المعجم التاريخي للغة العربية، أو المعاجم التاريخية الاصطلاحية في مختلف التخصصات من طرف باحثين كان إلى عهد قريب ضربا من الخيال أو المغامرة، وأحيانا نوعا من الجنون، لأن هذه الأعمال هي مشاريع تنهض بها مؤسسات كبرى كالجامعات والمجامع، وربما دول لأنها مشاريع "أمة" لكن الحلم أصبح حقيقة وواقعا يرى بعدما تم التغلب على كل العوائق التي كانت تقف سدا منيعا أمام الإنجاز، كضخامة التراث، وعدم وجود التمويل، وفقدان تصور منهجي وخطة عملية للإنجاز.
ولم نعد اليوم كما كنا لمدة طويلة نشتكي من غياب مرجع أو وثيقة تعرف بفكرة "المعجم التاريخي" ومختلف القضايا المرتبطة به، إذ في العقدين الأخيرين بدأت تظهر تدريجيا كتابات في الموضوع لباحثين هنا وهناك، وأعمال ندوات وطنية ودولية طبعت وسدت الفراغ الذي كان موجودا، لكن التحول المهم هو الانتقال إلى مرحلة الإنجاز العملي لهذه المعاجم، سواء من طرف الباحثين أو المؤسسات العلمية، ويمكن أن نميز بين نوعين من المعاجم التاريخية نعرض لها تبعا لتاريخ صدورها:
النوع الأول المعاجم التاريخية العامة وهي:
معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، انتهت المرحلة الأولى منه، وأطلق بوابته الإلكترونية سنة 2018م.
المعجم التاريخي للغة العربية بالشارقة، صدرت الأجزاء الثمانية الأولى منه سنة 2020م.
النوع الثاني المعاجم التاريخية المتخصصة ومنها:
معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، للدكتور أحمد مطلوب، صدر عن المجمع العلمي العراقي سنة 1986م.
المعجم التاريخي للمصطلحات القرآنية المعرفة في تفسير الطبري، للدكتورة فريدة زمرد، صدر عن معهد الدراسات المصطلحية بفاس سنة 2005م.
المُعجم التاريخي للغة العِلمية العربية؛ للدكتور رُشدي راشد، صدر باللغة الفرنسية سنة 2017م.
المعجم التاريخي للمصطلحات الحديثية المعرفة، صدر عن مؤسسة مبدع بفاس سنة 2020م.
المعجم التاريخي للمصطلحات النقدية المعرفة، صدر عن مؤسسة مبدع بفاس سنة 2021م.
بهذه الأعمال انتقل الموضوع من الكلام والنقاش النظري "عن المعجم التاريخي" إلى البحث العلمي والعملي "في المعجم التاريخي" وهذا تحول يحسب لكل الفاعلين في هذا المشروع، بل أصبحنا أمام نماذج مشرفة كمشروع "الدوحة" الذي أصبح مؤسسة علمية ملهمة لها هيكلها الإداري، وتصورها المنهجي، وخطتها العملية، وهذه خطوة غير مسبوقة في هذا الباب.
ومن القضايا التي تحتاج إلى بيان، الحدود الفاصلة بين هذين النوعين من المعاجم، والإجابة على سؤال مركزي يتعلق بموقع المصطلحات في المعجم التاريخي اللغوي وكيف يتعامل مع هذه المصطلحات الكثيرة وهو معجم تاريخي للغة العامة؟
هنا نعرض لوجهة نظر "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية" الذي يحرص القائمون عليه على تحديد الضوابط لكل القضايا العلمية التي يتناولها، ففي سؤال بخصوص وضع المصطلح في المرحلة الثانية من إنجاز هذا المعجم الذي له مكانة متميزة، خاصة وأن المرحلة الثانية منه التي تمتد من سنة 200 إلى سنة 500 للهجرة تطورت المصطلحات في مجموعة من العلوم العربية، نتيجة الازدهار الذي عرفته مختلف العلوم، ونشاط عملية الترجمة.
هذا الإشكال أجاب عنه الدكتور عز الدين البوشيخي المدير التنفيذي لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية في ويبينار إدارة الاتصال والعلاقات الخارجية بمعهد الدوحة للدراسات العليا، في موضوع: "عشرة قرون من تاريخ الكلمة العربية في معجم الدوحة التاريخي للغة العربية" يوم الثلاثاء 04 ماي 2021م، بقوله:
معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، هو معجم للغة العربية في صيرورتها التاريخية، ومعنى ذلك أن كل لفظ استخدمته هذه اللغة في سياق نصي له حضور في هذا المعجم، هذا اللفظ إما ان يكون له معنى أو معاني لغوية متعددة، وإما يكون له مفهوم اصطلاحي في مجال من مجالات العلوم، نحن نعلم أن المصطلح إما أن يكون قد تطور عن اللفظ في اللغة العامة، مثل جدر، لها معنى لغوي عام ثم تطور المعنى اللغوي العام إلى مفهوم مصطلحي في مجال الرياضيات، فهذا تطور يرصده المعجم لأنه تطور حصل من المعنى إلى المفهوم، في لغة مستعملة، فهذا جزء أساسي من عمل المعجم وهو رصد المعاني وتطورها عبر صيرورة الزمن.
الأمر الثاني هو أن المصطلح هو في حد ذاته وفي أساسه لفظ حتى وإن لم يكن له سابق معنى في اللغة العامة، فقد يكون المصطلح ظهر أول مرة مصطلحا، ولذلك ثمة ضوابط لما يدخل إلى المعجم من المصطلحات وما لا يدخل، وهذه الضوابط منصوص عليها في مقدمة المعجم وفي ضوابط التحرير المعجمي، من أهمها أن معجم الدوحة التاريخي للغة العربية لا يدخل في متنه مصطلحات العلوم كما وردت في العلوم، مثلا لو أردنا أن نتحدث عن علم النبات أو علم النباتات ثمة مصطلحات علم النباتات، هذه المصطلحات لا ننفي عنها اصطلاحيتها، لكننا في معجم الدوحة التاريخي للغة العربية نأخذ منها ما تطور تعريفه ومفهومه عن المستعمل في اللغة العامة، فكل تطور في التعريف هو تطور في المفهوم فيدخل إلى المعجم، ما لم يتطور تعريفه فهو لغة عامة أو مصطلح عند أهله، ولذلك لا نقول إن معجم الدوحة التاريخي للغة العربية هو جماع معاجم المصطلحات في العلوم، لا، وإنما هو معجم يرصد اللفظ في تطوره التاريخي سواء حدث هذا التطور في التسلسل الدلالي المتعلق بمعاني الكلمات، أو في التسلسل المفهومي المتعلق بالانتقال من المعنى إلى المفهوم في مجال مخصوص، لكن وفق ضوابط المعجم. إنتهى.
والخلاصة: إن المصطلحات لا بد أن تؤخذ بعين الاعتبار، فالمعجم التاريخي للغة العربية مفتاح أساسي في هذا المجال، لكنه لا يغني عن إنجاز معاجم تاريخية للمصطلحات في مختلف العلوم، وهذا يستدعي التفكير الجدي في بناء مدونات نصية لكل علم على حدة في: اللغة، الأدب، الفقه، الحديث، السيرة، الأصول، المقاصد، علم الكلام، التصوف... وبنفس الطريقة التي بنيت بها مدونة المعجم التاريخي للغة العربية، لأن ما أنجز من معاجم تاريخية إصطلاحية على أهميتها يحتاج إلى مدونة شاملة لاستكمالها.