رمضان وانكسار القلب
عادل بن أحمد باناعمة
ملخص الخطبة
|
1- عودٌ حميد. 2- قدوم رمضان. 3- انكسار القلوب. 4- سر انكسار القلوب في رمضان. 5- نعمة إدراك رمضان.
|
|
الخطبة الأولى
|
أما بعد: بالأمسِ وقفنا في صفِّ الصلاةِ، وتجدّدَ عهدُنا بقيامٍ انقطعَ عنه أكثرُنا سنةً كاملةً. بالأمسِ أصغتْ أسماعُنا إلى كتابِ اللهِ بروحٍ جديدةٍ وقلبٍ جديدٍ، فاغرورقت عيوننا بدمعٍ نسيَهُ أكثرُنا سنةً كاملةً. بالأمسِ تضرَّعْنا بدعاءٍ خاشعٍ جميلٍ غابَ عن أكثرنا سنةً كاملةً. بالأمسِ رقصت قلوبٌ وزهتْ أرواحٌ وأشرقت نفوسٌ. بالأمسِ ومع أول ليلةٍ رمضانيّةٍ وأولِ قيامٍ إيمانيٍّ تبدّلنا كثيرًا، وتقدّمنا في طريق الإيمانِ خُطُواتٍ.
ما الذي جرى؟ كيف استحالَ القلبُ الذي استعصى عليه الخشوعُ عامًا كاملاً قلبًا سريعَ العبرةِ فيّاضَ الوجدِ؟! وكيف غدت العينُ التي بخلت بدمعها عامًا كاملاً حاضرةَ الدّمعةِ تجودُ بعبراتِ الإنابةِ كلّما هزّت صاحبها موعظةٌ؟! كيف ذلتِ النّفسُ وخشعتِ الروحُ وذرفتِ العينُ وأناب الفؤادُ؟! كيف كان ذلك كلُّهُ في ليلةٍ واحدةٍ؟! كيف كان؟!
إنّهُ رمضانُ وكفى، رمضانُ الذي تنقلبُ فيه الموازينُ وتتبدّلُ فيه الاتّجاهاتُ. إنّهُ رمضانُ أيها الأحبة، شهر انكسار القلوبِ بين يدي علاّمِ الغيوبِ، هذا الانكسارُ الذي يقرّبُ العبدَ من ربِّهِ، ويدنيه من رحمة خالقِهِ.
روى الإمام أحمدُ في كتاب الزهدِ (ص75) عن عمران القصير قال: قال موسى بن عمران عليه السلام: أي ربِّ، أين أبغيك؟ قال: ابغني عند المنكسرةِ قلوبهم، إنني أدنو منهم كلّ يومٍ باعًا، ولولا ذلك لانهدموا.
وتأمّلوا ـ رعاكم الله ـ صفة القرآن لهؤلاء المنكسرين: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9]، إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:17-109]، اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23].
وها هو إمام المنكسرين يقول عنه ابن عباس رضي الله عنهما: رأيت رسول الله يدعو بعرفة ويداه إلى صدره كاستطعام المسكين. رواه الطبراني في الأوسط. وروي عنه عليه الصلاة والسلام في ذلك الموقف العظيم دعاءٌ يدلُّ على عظيم انكسارِهِ بين يدي ربه: ((اللهم إنك ترى مكاني، وتسمع كلامي، ولا يخفى عليك شيءٌ من أمري، أنا البائسُ الفقيرُ المستغيث المستجيرُ الوجل المشفق المقرّ المعترف بذنبه، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، من خضعت لك رقبتُهُ، وذل لك جسده، ورغم لك أنفُهُ، وفاضت لك عيناه، اللهم لا تجعلني بدعائك شقيا، وكن بي بارّا رؤوفًا رحيمًا يا خير المسؤولين، ويا خير المعطين)).
هكذا انكسر نبيّنا بين يدي ربّه، ومن بعده تتتابع قوافل المنكسرين؛ رئي عليٌّ رضي الله عنه في بعض مواقفه وقد أرخى الليلُ سدولَهُ وغارت نجومُهُ، وقد قبض على لحيته في محرابه يتململُ ويقولُ: (يا دنيا، ألي تعرّضتِ، أم بي تشوقت؟! هيهات هيهات، غرّي غيري، فعمرُك قصير، وخطرك كبير، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق!). ودخل علي بن الحسينِ رضي الله عنه ذات ليلة الحجر يصلي، فجعل يقولُ في سجودِهِ: "اللهم عُبيدكَ بفنائك، مسكينكَ بفنائك، سائلك بفنائك". ومن جميل صور انكسارِهِ رضي الله عنه بين يدي ربِّهِ هذه المناجاة العجيبةُ: "كل شيءٍ خاشعٌ لك، وكل شيء قائمٌ بك، غنى كل فقير، وعزّ كل ذليل، وقوةُ كل ضعيف، ومفزَع كل ملهوف، من تكلّم سمعتَ نطقه، ومن سكَت علمت سرّه، لم ترك العيون فتخبر عنك، بل كنت قبل الواصفين من خلقك، لم تخلق الخلق لوحشة، ولا استعملتهم لمنفعةٍ، ولا يسبقك من طلبتَ، ولا يفلتك من أخذت، ولا ينقص سلطانك من عصاك، ولا يزيدُ في ملكك من أطاعك، ولا يرد أمرك من سخط قضاءَكَ، ولا يستغني عنك من تولى عن أمرك، سبحانك ما أعظم شأنك، وما أعظم ما نرى من خلقك، وما أصغر أيّ عظيمة في جنب قدرتك". وها هو الحسنُ البصريُّ الإمام العابدُ المنكسرُ لا يكادُ يراهُ أحدٌ إلا ظنّه حديث عهد بمصيبةٍ. وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله إذا دخل بيته ألقى نفسه في مسجده، فما يزال يدعو ويبكي حتّى تغلبَهُ عيناه، ثم يستيقظ فيفعل مثل ذلك ليلتَهُ أجمعَ.
هكذا إذن كان المنكسرونَ تضرعًا ومناجاةً وتقرُّبًا. وها نحنُ اليوم في فاتحة شهر الانكسارِ شهر رمضان، الشهر الذي يعلِّم القلبَ كيف يخشع وينكسرُ ويذلُّ ويلين، الشهر الذي يعلّم العين كيف تستعبر وتكتبُ بدمعِها قصّةَ التوبة والإنابة والاستغفار، الشهر الذي يعلّم الروحَ كيف تخرجُ من إسارِها وتنطلقُ إلى ربّها باكيةً منكسرةً راجية راهبةًً.
رمضانُ بالْحسنات كفك تزخـر والكون فِي لألاء حسنك يبحر
يـا موكبـا أعلامـه قدسيـة تتزيـن الدنيـا لـه وتعطـر
أقبلت رحْمى فالسمـاء مشاعل والأرض فجر من جبينك مسفرُ
هتفت لمقدمك النفوس وأسرعت من حوبها بدموعهـا تستغفـر
لأمـت بتوبتهـا جراح ذنوبِها والنفس تسمو بالصيام وتطهرُ
هذا هو رمضانُ بما فيه من انكسار الروح والقلب وذلتهما للخالق الجليل. ولعل سائلاً يسأل: ولماذا ننكسرُ في رمضانَ دون غيرهِ؟! أيُّ سر فيه يجعل القلوب أدنى لهذه الكسرةِ الإيمانية الخاشعة؟! والحقُّ أنّ في هذا الشهر الكريم جملةً من المزايا في هذا البابِ:
فأول ذلك أن شهر رمضان هو شهر البركةِ في المشاعر الإيمانية عمومًا؛ إذ يفيضُ الله على قلب الصائم من لذة مناجاته وقرة عينه بقربه وتنعّمه بحبه والشوق إليه وتوابع ذلك من الأحوال التي هي غذاء القلوب ونعيم الأرواح وقرة العين وبهجة النفوس والروح والقلب.
وثاني ذلك أنّه شهرُ نزول القرآن كما صح في الحديث، والقرآن قد قال الله عنه: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21]. فما أرجى شهر نزول القرآن الذي يصدع الجبال، ما أرجاه أن يكون شهر انكسارٍ للعزيز الجبار.
وثالث ذلك أنّه شهر تصفيد الشياطين.
ورابع ذلك أنّه شهر التخفّف من فضول الطعام والكلام ومخالطة الأنام.
وخامس ذلك أنّه شهر تكفير الذنوب.
وسادس ذلك أنّه شهر استجابة الدعاء.
وسابع ذلك أنّه شهر فتح أبواب الجنان وغلق أبواب النيران.
وثامن ذلك أنّه الاستجابة والحرص على الطاعةِ.
وتاسع ذلك أنّه شهرُ التعاونِ على البر والتقوى.
وعاشر ذلك أنّه شهر التوبة والإنابة.
وهكذا تجتمع هذه الأسباب العشرةُ لتجعل من رمضان شهر انكسارٍ وذلة وإقبال.
|
|
الخطبة الثانية
|
أي أخَيّ، أتذكر كم كانت ندامتك وحسرتك حين تصرّمت آخر ليلة من رمضان الفائت؟ أتذكر كم من عبرة سكبتها وأنت تتندّم على أوقات من شهر رمضان ضاعت وليال لم تحسن اغتناما؟ أتذكر أنك عاهدت نفسك يوم ذاك أن تستقبل رمضان القادم بنفس عازمة وهمة قائمة؟ فها أنت ذا أمام رمضان جديد، وها قد كتب الله لك الحياة لتدرك فرصة أخرى تختبر فيها صدقك ورغبتك في الخير، فماذا ستفعل؟ هل ستبادر أم تفرط في أوقات شهرك حتى يغادر ثم تندم ولا ينفع الندم؟
يا إخوتاه، هل أدركنا مقدار النعمة العظيمة حين من الله علينا ببلوغ هذا الشهر؟! ماذا لو طويت أعمارنا قبله؟ أكنا قادرين على الطاعة والعبادة؟! أكنا قادرين على الركوع والسجود؟!
إن الله أعطانا فرصة عظيمة حرمها غيرنا ممن فارق الحياة وأفضى إلى ما قدم، وكم من رجل صلّى معنا في هذا المسجد في رمضان الماضي وسمع حديثا كهذا الحديث عن فضائل رمضان ثم ها هو الآن موسّد في الثرى يتمنّى لحظة يسبّح فيها تسبيحة فلا يقدر عليها، ويرجو ثانية ينطق فيها بلا إله إلا الله فلا يجاب رجاؤه.
لقد وقفت طويلا عند حديث عجيب رواه أحمد وابن ماجه، وقفت عنده طويلا لأنه أشعرني جلال نعمة إدراك رمضان جديد، وأشعرني أيضا بعظيم المسؤولية الملقاة على كل مسلم يكتب الله له عمرا ليدرك شهر رمضان.
عن طلحة بن عبيد الله أن رجلين قدما على رسول الله وكان إسلامهما جميعا، فكان أحدهما أشد اجتهادا من الآخر، فغزا المجتهد منهما فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي. قال طلحة: فرأيت في المنام بينا أنا عند باب الجنة إذا أنا بهما، فخرج خارج من الجنة، فأذن للذي توفي الآخر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجع إليّ فقال: ارجع فإنك لم يأن لك بعد، فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله ، وحدثوه الحديث فقال: ((من أي ذلك تعجبون؟)) فقالوا: يا رسول الله، هذا كان أشدّ الرجلين اجتهادا ثم استشهد ودخل هذا الآخر الجنة قبله! فقال رسول الله : ((أليس قد مكث هذا بعده سنة؟)) قالوا: بلى، قال: ((وأدرك رمضان فصام وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟)) قالوا: بلى، قال رسول الله : ((فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض)).
أفرأيت كيف سبق أقل الرجلين اجتهادا لما أتيح له من فرصة العمل في العمر الممتد؟!
فيا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي، يا شموس التقوى والإيمان اطلعي، يا صحائف أعمال الصائمين ارتفعي، يا قلوب الصائمين اخشعي، يا أقدام المتهجّدين اسجدي لربك واركعي، يا ذنوب التائبين لا ترجعي.
|