الكُفَّارُ الجُهَّالُ يَعْلَمُونَ أَنَّ مُرَادَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِه الكَلِمَةِ هو إِفْرَادُ اللهِ بالتَّعَلُّقِ والكُفْرُ بـ) جَمِيعِ (مَا يُعبَدُ مِن دونِهِ)
كَهُبَلَ ونَحْوِهِ، وهَذَا فَهْمٌ صَحِيحٌ
(والبَرَاءَةُ منه) وأَنْ يَتَبَرَّأَ منه، ودَلِيلُ ذلك وبرْهَانُه
(فإِنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُم: قَولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) فَرُّوا واسْتَنْكَرُوا مِن إِفْرَادِ اللهِ بالعِبَادَةِ و
(قَالُوا: ((أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَـهًا وَاحِدًا إِنَّ هَـذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)) ) أي: أَجَعَلَ المَعْبُودَاتِ مَعْبُودًا واحِدًا؟! فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُم عَرَفُوا مَعْنَاهَا، وقَالُوا فيما حَكَاهُ اللهُ عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ}.
فالتَّوْحِيدُ هو الحَقُّ وهو النَّورُ،
لَكِنَّ عُقُولَهُم فَسَدَتْ وأَفْسَدَ مِزَاجَهَا الشِّرْكُ؛
لأَِنَّهَا نَشَأَتْ عَلَيْهِ وأَلِفَتْهُ،
فَصَارَتْ لاَ تَسْتَنْكِرُه،
فَصَارُوا كالمَرِيضِ الذي إِذَا أُتِيَ بالشَّيِءِ الحُلْوِ قَالَ: هذا مُرٌّ؛ لفِسَادِ مِزَاجِهِ،
ولَمْ تَنْشَأْ عَلَى التَّوْحِيدِ فاسْتَنْكَرَتْه ُ.
(فَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ جُهَّالَ الكُفَّارِ) كأَبِي جَهْلٍ فِرْعَوْنَ هذه الأُمَّةِ وَأَضْرَابِهِ (يَعْرِفُونَ ذَلِكَ) يَعْنِي: مَعْنَى (لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ) كَمَا تَقَدَّمَ
(فَالعَجَبُ مِمَّن يَدَّعِي الإِسْلاَمَ) بل يَدَّعِي العِلْمَ، بل يَدَّعِي الإِمَامَةَ في الدَّينِ
(وهو لاَ يَعْرِفُ مِنْ هَذِه الكَلِمَةِ مَا عَرَفَهُ جُهَّالُ الكُفَّارِ)فَإِنَّ هذا ادِّعَاؤُهُ الإِسْلاَمَ فَضْلاً عن العِلْمِ فَضْلاً عن الإِمَامَةِ- ويَخْفَى عَلَيْهِ ذَلِكَ الذي بَانَ وظَهَرَ لجُهَّالِ الكُفَّارِ-هَذَا في الحَقِيقَةِ مِن أَعْجَبِ العَجَبِ، بل مِن أَعْظَمِ الجَهْلِ وأَفْحَشِ الخَطَأِ.
(بَلْ يَظُنُّ أنَّ ذلك هو التَّلَفُّظُ بِحُرُوفِهَا مِن غَيْرِ اعْتِقَادِ القَلْبِ لِشَيْءٍ مِن المَعَانِي)
فَإِنَّ أَبَا جَهْلٍ وأَضْرَابَه لو يَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا هو المُرَادُ لَمَا تَلَعْثَمُوا في قَوْلِهَا ولا نَازَعُوا، وكذلك لو فَهِمُوا أَنَّ المُرَادَ الرُّبُوبِيَّةُ لَسَارَعُوا إِلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنَازِعُوا،
لَكِنْ عَلِمُوا أَنَّ مَعْنَاهَا أَنْ يَكُونَ الإِلَهُ المَعْبُودُ هو اللهَ وحْدَه دونَ كُلِّ مَا سِوَاه والتَّبَرِّي مِمَّا سِوَاه،
وأَنَّه لاَبُدَّ مِن اعْتِقَادِ ذَلِكَ ووُجُودِهِ في العَمَلِ،
وأَنَّها تُبطِلُ جَمِيعَ مَا هُم عَلَيْهِ مِن دِينِ آبَائِهِم وأَجْدَادِهِم.
(وَالحَاذِقُ مِنْهُمْ) الذي يَرَى أَنَّ المُرَادَ شَيْءٌ آخَرُ غَيْرُ اللَّفْظِ يُخْطِئُ المَعْنَى المُرَادَ ولا يَعْرِفُهُ.
(يَظُنُّ أَنَّ مَعَنَاها: لاَ يَخْلُقُ وَلاَ يَرْزُقُ وَلاَ يُدَبِّرُ الأَمْرَ إِلاَّ اللهُ)
يَعْنِي: أَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ ،
ومَعْلُومٌ أَنَّ (لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ) دَلَّت عَلَى تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ بالتَّضَمُّنِ،
لَكِنَّ مَعْنَاها الذي وُضِعَتْ لَهُ مُطَابَقَةً أَنْ يَكُونَ اللهُ وَحْدَه هو المَعْبُودَ دونَ كُلِّ مَن سِوَاهُ.
(فَلاَ خَيْرَ في رَجُلٍ جُهَّالُ الكُفَّارِ أَعْلَمُ مِنْهُ بِمَعْنَى لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ)
هَذَا رَجُلُ سَوْءٍ لاَ خَيْرَ فيه، هَذَا أَقَلُّ مَا يُقَالُ فيه؛
فالمُصَنِّفُ اقْتَصَرَ واقْتَصَدَ عَلَى أَدْنَى مَا يُقَالُ فيه،
وإِلاَّ فهو يَسْتَحِقُّ أَعْظَمَ، بل لاَ خَيْرَ فيه بِحَالٍ،
إِذَا كَانَ أَبُو جَهْلٍ فِرْعَوْنُ هَذِه الأُمَّةِ وأَضْرَابُه أَعْلَمَ منه بِمَعْنَاهَا
فَلاَ جَهْلَ فَوْقَ جَهْلِ مَنْ جَهِلَ مَعْنَى هَذِه الكَلِمَةِ التي هي أَصْلُ دِينِ الإِسْلاَمِ وقَاعِدَتُه وأَسَاسُهُ.