الاستهزاء بالدين



أبو البراء محمد بن عبدالمنعم آل عِلاوة
السؤال:
الملخص:
طالبة جامعية تسأل عن كلمة كفر واستهزاء بالدين قالتها؛ لإضحاك زميلاتها، وهي تسأل: هل ما زالت على الإسلام؟ وما الحكم في ذلك؟
التفاصيل:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كنت في الماضي أُحب أن أُضحك زميلاتي في المدرسة، وفي يوم من الأيام قامت صديقتي باللعن، فقلت لها: "لا تلعني، فإن اللعن طرد من رحمة الشيطان"، ثم مثَّلتُ أنني مصدومة وأنني مخطئة، وضحكت، وقلت: "أستغفر الله، هو طرد من رحمة الله"، مع أني قلتها عمدًا كي أضحكهم فقط، لا بقصد الاستهزاء بالدين، فأنا أُحب الله ورسوله، ولكني كنت فتاة طائشة، وأحب أن يقال عني أنني مضحكة ومرِحة، أنا نادمة وخائفة أن أكون في حكم الآية: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ﴾ [التوبة: 65، 66]، فهل أنا كافرة، أو ما زلتُ على الإسلام؟ وإن كنت كافرة، فقد كان هذا الأمر منذ مدة طويلة في المرحلة المتوسطة، وأنا الآن في المرحلة الجامعية، فكيف أثوبُ إلى الإسلام من جديد؟ أرجوكم أفتوني في أمري؛ فأنا لا أدري ما أفعل.

الجواب:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أما بعدُ:
أولًا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
مرحبًا بكِ أيتها الأخت، ونسأل الله لكِ الهداية والتوفيق، والسداد والتيسير.
ثانيًا: لا شك أن ما فعلتِهِ كفرٌ مُخرِج من الملة؛ فالاستهزاء والسخرية من الدين أو من شيء منه كفر، وإن لم يقصِدْه صاحبه، فما بالُكِ إذا كان عن قصد؛ قال ابن تيمية: "ولما استهزأ بعضهم فقالوا عمن رضي الله عنهم وأرضاهم: ما رأينا مثل قرَّائنا هؤلاء أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسُنًا، ولا أجبن عند اللقاء، أنزل الله: ﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ﴾ [التوبة: 64 - 66]؛ فقد أخبر أنهم كفروا بعد إيمانهم مع قولهم: إنا تكلمنا بالكفر من غير اعتقاد له، بل كنا نخوض ونلعب، وبيَّن أن الاستهزاء بآيات الله كفر، ولا يكون هذا إلا ممن شرح صدره بهذا الكلام، ولو كان الإيمان في قلبه، منعه أن يتكلم بهذا الكلام"؛ [الإيمان، (2/ 284)].
فمن أعظم الغفلة، وغلبة الجهل والهوى، وطمس البصيرة أن يُجعل الموعظة والتخويف مادة للتندر والسخرية والاستهزاء؛ قال ابن تيمية عن حال هؤلاء المنافقين المستهزئين: "فدلَّ على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتَوا كفرًا، بل ظنوا أن ذلك ليس بكفرٍ، فبيَّن أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله، كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه، فدلَّ على أنه كان عندهم إيمان ضعيف، ففعلوا هذا المحرم الذي عرَفوا أنه محرَّم، ولكن لم يظنُّوه كفرًا، وكان كفرًا كفروا به، فإنهم لم يعتقدوا جوازه"؛ [مجموع الفتاوى: (7/ 273)].
ثالثًا: الواجب عليكِ التوبة، ونُطق الشهادتين حتى لو كانت داخل الصلاة؛ جاء في كشاف القناع (6/ 181): "وَإِذَا صَلَّى – أي: الْكَافِرُ - أَوْ أَذَّنَ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ أَصْلِيًّا كَانَ أَوْ مُرْتَدًّا".
وعليكِ الندم، والعزم على عدم العودة لمثلها، والإكثار من الأعمال الصالحة؛ قال ابن عثيمين: "من قال كلمة الكفر ولو مازحًا، فإنه يكفر، ويجب عليه أن يتوب، وأن يعتقد أنه تاب من الردة، فيجدد إسلامه، فآيات الله عز وجل ورسوله أعظم من أن تُتَّخَذ هُزُوًا أو مَزحًا"؛ [لقاءات الباب المفتوح: (60/ 12)].
واعلمي أن الذنب مهما عظُم، يغفره الله لصاحبه إذا تاب منه توبة صادقة؛ قال تعالى: ﴿ قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، وصرَّح تعالى بأنه يغفر الشرك لمن تاب منه في قوله: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 68 - 70].
وبه يُعلم أن من استهزأ بالدين، تُقبَل توبته، ويغفر الله ذنبه، إذا تاب توبة صادقة.
رابعًا: أما العمل الصالح الذي عمله المرتد قبل كفره، فمن أهل العلم من يقول إنه يُحبط بمجرد الردة كمالك وأبي حنيفة، ومنهم من يقيد ذلك بموته على الردة كالشافعي، والراجح أنه مقيد بالموت، ومنشأ الخلاف في المسألة هو الخلاف ‏في المراد من قوله تعالى: ﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الزمر: 65]؛ فمن حَمَلَ ‏الآية على الإطلاق، كمالك ومن وافَقه، رأى أن العمل قد بطل بمجرد الشرك، فكأنَّ ‏المرتد أتى بما يبطل عمله.
أما الشافعي ومن وافقه، ‏فقد حمل المطلق من الآية المتقدمة على المقيد من قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾ [البقرة: 217]، فحبوط العمل هنا معلق على حصول أمرين: الردة، والموت عليها، والمعلق ‏على أمرين لا يتم إلا بهما؛ وعليه فلا يُبطل ثواب الأعمال الصالحة إلا الموت على الردة؛ قال النووي: "إذا صلى المسلم، ثم ارتد، ثم أسلم ووقت تلك الصلاة باقٍ لم يجب إعادتها، وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد في رواية عنه: يجب، والمسألة مبنية على أصل سبق، وهو أن عندنا لا تبطل الأعمال بالردة إلا أن تتصل بالموت، وعندهم يبطل بنفس الارتداد؛ احتجوا بقول الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ﴾ [المائدة: 5]، واحتج أصحابنا بقول الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾ [البقرة: 217]، فعلَّق الحبوط بشرطين: الردة والموت عليها، والمعلق بشرطين لا يثبُت بأحدهما، والآية التي احتجوا بها مطلقة، وهذه مقيدة؛ فيُحمل المطلق على المقيد؛ قال الشافعي والأصحاب: يلزم المرتد إذا أسلم أن يقضيَ كلَّ ما فاته في الردة أو قبلها، وهو مخاطب في حال الردة بجميع ما يُخاطب به المسلم، وإذا أسلم، لا يلزمه إعادة ما كان فعله قبل الردة من حج وصلاة وغيرهما، والله أعلم"؛ [المجموع، (5/ 3)].
فليس على المرتد إذا تاب قضاءُ ما تركه من صلاة أو صيام زمن الردة؛ لأن التوبة تهدم ما قبلها؛ سُئل الشيخ ابن باز: هل على المرتد قضاء الصلاة والصيام إذا عاد إلى الإسلام وتاب إلى الله؟
فأجاب: "ليس عليه القضاء، ومن تاب، تاب الله عليه، فإذا ترك الإنسان الصلاة، أو أتى بناقض من نواقض الإسلام، ثم هداه الله وتاب، فإنه لا قضاء عليه.
هذا هو الصواب من أقوال أهل العلم؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تهدم ما كان قبلها... قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ [الأنفال: 38]؛ فبيَّن الله سبحانه وتعالى أن الكافر إذا أسلم، غفر الله له ما قد سلف.والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ((التوبة تجبُّ ما قبلها، والإسلام يهدم ما كان قبله))"؛ [مجموع فتاوى ابن باز، (29/ 196)].
وأخيرًا: فعليكِ إحسان عملكِ، والتقرب إلى الله بالأعمال الصالحة، وتعلم العلم النافع، ومصاحبة الصالحات.
هذا، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/fatawa_counse...#ixzz6pwZr666L