قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «وهو ـ سبحانه ـ خالقُ الخير والشرِّ، فالشرُّ في بعض مخلوقاته لا في خَلْقه وفِعْله، وخَلْقُه وفعلُه وقضاؤه وقَدَرُه خيرٌ كلُّه؛ ولهذا تَنَزَّه ـ سبحانه ـ عن الظلم الذي حقيقتُه وضعُ الشيء في غيرِ موضعه ـ كما تقدَّم ـ فلا يضع الأشياءَ إلَّا في مواضعها اللائقة بها وذلك خيرٌ كُلُّه، والشرُّ: وضعُ الشيء في غيرِ محلِّه؛ فإذا وُضِع في محلِّه لم يكن شرًّا؛ فعُلِم أنَّ الشرَّ ليس إليه»
كما أنَّ الله تعالى لم يخلقِ الشَّرَّ محضًا مطلقًا مِنْ جميع الوجوه، وإنما هو نسبيٌّ إضافيٌّ، ويؤكِّد هذا المعنى ما نصَّ عليه ابنُ أبي العزِّ ـ رحمه الله ـ بقوله:
«فاعْلَمْ أنَّ الشرَّ كُلَّه يرجع إلى العدم، أعني عدمَ الخير وأسبابِه المُفْضِية إليه، وهو مِنْ هذه الجهة شرٌّ، وأمَّا مِنْ جهةِ وجوده المحضِ فلا شرَّ فيه،
مثالُه: أنَّ النفوس الشِّرِّيرة وجودُها خيرٌ مِنْ حيث هي موجودةٌ، وإنما حَصَل لها الشرُّ بقطع مادَّة الخير عنها، فإنها خُلِقَتْ في الأصل متحرِّكةً، فإِنْ أُعِينَتْ بالعلم وإلهامِ الخير تحرَّكَتْ به، وإِنْ تُرِكَتْ تحرَّكَتْ بطبعها إلى خلافه، وحركتُها ـ مِنْ حيث هي حركةٌ ـ خيرٌ، وإنما تكون شرًّا بالإضافة لا مِنْ حيث هي حركةٌ، والشرُّ كُلُّه ظلمٌ، وهو وضعُ الشيء في غير محلِّه، فلو وُضِع في موضعه لم يكن شرًّا؛ فعُلِم أنَّ جهة الشرِّ فيه نسبيةٌ إضافيةٌ؛ ولهذا كانَتِ العقوباتُ الموضوعةُ في محالِّها خيرًا في نفسها، وإِنْ كانَتْ شرًّا بالنسبة إلى المحلِّ الذي حلَّتْ به لِمَا أحدثَتْ فيه مِنَ الألم الذي كانَتِ الطبيعةُ قابلةً لضدِّه مِنَ اللذَّة مُستعِدَّةً له؛ فصار ذلك الألمُ شرًّا بالنسبة إليها، وهو خيرٌ بالنسبة إلى الفاعل حيث وضَعَه في موضعه، فإنه ـ سبحانه ـ لم يخلق شرًّا محضًا مِنْ جميع الوجوه والاعتبارات؛
فإنَّ حكمته تأبى ذلك؛ فلا يكون في جناب الحقِّ تعالى أَنْ يريد شيئًا يكون فسادًا مِنْ كُلِّ وجهٍ لا مصلحةَ في خَلْقه بوجهٍ ما، هذا مِنْ أبينِ المُحال؛
فإنه ـ سبحانه ـ الخيرُ كُلُّه بيدَيْه والشرُّ ليس إليه،
بل كُلُّ ما إليه فخيرٌ، والشرُّ إنما حَصَل لعدمِ هذه الإضافةِ والنسبةِ إليه، فلو كان إليه لم يكن شرًّا، فتأمَّلْه، فانقطاعُ نسبته إليه هو الذي صيَّره شرًّا».
هذا، وقد يكون انقطاعُ نسبةِ الشرِّ إلى الله تعالى يختلف باختلاف المقصود منه:
ـ فإِنْ أُرِيدَ بالشرِّ وضعُ الشيء في غير مَحَلِّه فإنَّ هذا هو الظلمُ، واللهُ منزَّهٌ عن الظلم لقوله تعالى:ولا يظلم ربك احدا ، وقولِه تعالى:وما ربك بظلام للعبيد
، وفي الحديث فيما يرويه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن ربِّه: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تَظَالَمُوا»(٤).
ـ وإِنْ أُرِيدَ بالشرِّ إلحاقُ العقوبة بالمذنب أو الجاني أو الظالم فإنَّ هذا ليس بشرٍّ، وإنما هو عدلٌ منه ـ سبحانه وتعالى ـ.
ـ وإِنْ أُرِيدَ بالشرِّ عدمُ الخير وانعدامُ أسبابه المُفْضِية إليه وسُبُلِه المُوصِلة إليه فالعدمُ ليس بشيءٍ في الوجود الخارجيِّ إلَّا في الذهن والعلمِ، وليس فعلًا أيضًا ؛ لذلك لا يُنْسَب العدمُ إلى الله تعالى، ومِنْ هذا المُنْطلَقِ ـ أيضًا ـ إِنْ أُرِيدَ بالشرِّ مِنَ العبد عدمُ التوفيق للإيمان والهدى فإنَّ التوفيق إليهما مِنْ فضله ـ سبحانه وتعالى ـ الذي يؤتيه مَنْ يشاء مِنْ عباده، ومنعُ الفضلِ لا يُعَدُّ شرًّا ولا ظلمًا.
وقال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ:
«والعبد إذا فَعَل القبيحَ المنهيَّ عنه كان قد فعَلَ الشرَّ والسوء، والربُّ ـ سبحانه ـ هو الذي جَعَله فاعلًا لذلك، وهذا الجَعْلُ منه عدلٌ وحكمةٌ وصوابٌ، فجَعْلُه فاعلًا خيرٌ والمفعولُ شرٌّ قبيحٌ؛ فهو ـ سبحانه ـ بهذا الجَعْل قد وَضَع الشيءَ موضِعَه لِمَا له في ذلك مِنَ الحكمة البالغة التي يُحْمَد عليها؛ فهو خيرٌ وحكمةٌ ومصلحةٌ، وإِنْ كان وقوعُه مِنَ العبد عيبًا ونقصًا وشرًّا
وقال ابن القيم رحمه الله
أن الطبيعة البشرية مشتملة على الخير والشر، والطيب والخبيث. وذلك كامن فيها كمون النار في الزناد. فخلق الشيطان مستخرجا لما في طبائع أهل الشر من القوة إلى الفعل. وأرسلت الرسل تستخرج ما في طبيعة أهل الخير من القوة، إلى الفعل. فاستخرج أحكم الحاكمين ما في قوى هؤلاء من الخير الكامن فيها، ليترتب عليه آثاره، وما في قوى أولئك من الشر، ليترتب عليه آثاره، وتظهر حكمته في الفريقين، وينفذ حكمه فيهما، ويظهر ما كان معلوما له، مطابقا لعلمه السابق. وهذا هو السؤال الذي سألته ملائكته حين قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30] . فظنت الملائكة أن وجود من يسبح بحمده ويطيعه، ويعبده، أولى من وجود من يعصيه، ويخالفه. فأجابهم سبحانه بأنه يعلم من الحكم والمصالح، والغايات المحمودة في خلق هذا النوع، ما لا تعلمه الملائكة.
ومنها: أن ظهور كثير من آياته، وعجائب صنعه: حصل بسبب وقوع الكفر والشرك من النفوس الكافرة الظالمة، كآية الطوفان، وآية الريح، وآية إهلاك ثمود، وقوم لوط، وآية انقلاب النار على إبراهيم بردا وسلاما، والآيات التي أجراها الله تعالى على يد موسى، وغير ذلك من آياته التي يقول سبحانه عقيب ذكر كل آية منها في سورة الشعراء: {إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم} [الشعراء: 8] . فلولا كفر الكافرين، وعناد الجاحدين، لما ظهرت هذه الآيات الباهرة، التي يتحدث بها الناس جيلا بعد جيل إلى الأبد.
ومنها: أن خلق الأسباب المتقابلة التي يقهر بعضها بعضا، ويكسر بعضها بعضا: هو من شأن كمال الربوبية، والقدرة النافذة، والحكمة التامة، والملك الكامل - وإن كان شأن الربوبية كاملا في نفسه، ولو لم تخلق هذه الأسباب- لكن خلقها من لوازم كماله وملكه، وقدرته وحكمته. فظهور تأثيرها وأحكامها في عالم الشهادة: تحقيق لذلك الكمال، وموجب من موجباته. فتعمير مراتب الغيب والشهادة بأحكام الصفات، من آثار الكمال الإلهي المطلق بجميع وجوهه، وأقسامه، وغاياته.
وبالجملة: فالعبودية، والآيات، والعجائب التي ترتبت على خلق ما لا يحبه ولا يرضاه، وتقديره ومشيئته: أحب إليه سبحانه وتعالى من فواتها، وتعطيلها بتعطيل أسبابها.
فإن قلت: فهل كان يمكن وجود تلك الحكم بدون هذه الأسباب؟ قلت: هذا سؤال باطل؛ إذ هو فرض وجود الملزوم، بدون لازمه. كفرض وجود الابن بدون الأب، والحركة بدون المتحرك، والتوبة بدون التائب. اهـ.
إلى أن قال: اعلم أن أسباب الخير ثلاثة: الإيجاد، والإعداد، والإمداد. فهذه هي الخيرات، وأسبابها.
فإيجاد السبب خير. وهو إلى الله. وإعداده خير. وهو إليه أيضا. وإمداده خير. وهو إليه أيضا. فإذا لم يحدث فيه إعداد، ولا إمداد حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إلى الفاعل. وإنما إليه ضده.
فإن قلت: فهلا أمده إذ أوجده؟ قلت: ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده. فإنه -سبحانه- يوجد ويمده، وما اقتضت الحكمة إيجاده وترك إمداده: أوجده بحكمته، ولم يمده بحكمته. فإيجاده خير. والشر وقع من عدم إمداده. فإن قلت: فهلا أمد الموجودات كلها؟ قلت: فهذا سؤال فاسد، يظن مورده أن التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة. وهذا عين الجهل، بل الحكمة كل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الواقع بينها .اهـ. من مدارج السالكين.