الصحة النفسية للأطفال .. أضواء من وحي الشريعة
عصام زيدان




إن الطفولة عالم خاص له كينونته المستقلة التي تحدد إلى حد بعيد حياته حاضرا ومستقبلا، ولذا جاءت الشريعة الإسلامية بتوجيهات دقيقة ولمحات تربوية كي يستقيم العود في منبته الأول، ويشب قويا على كافة المستويات جسديا وإيمانيا وخلقيا ونفسيا، فيعود نفعه على ذاته ومجتمعه وأمته.
وإذا ما تأملنا أحد هذه الجوانب، وهو جانب الصحة النفسية للأطفال، فسنجدها ترتبط ارتباطا وثيقا بوسائل الرعاية والتعامل اليومي في ظل الأسرة والمحيط الذي يدور فيه الأطفال غالبا كالمعاهد التعليمية والمساجد الأندية وغيرها.




ونتوقف هنا فقط عند أربع إرشادات نبوية وقرآنية تشكل في ذاتها بعض الخطوط العريضة والملامح البارزة الضرورية للحفاظ على الصحة النفسية عند الأطفال.
1 ـ النهي عن القسوة وممارسة العنف مع الأطفال
جاء في مسند الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلة الله عليه سلم: ((مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين واضربوهم عليها لعشر سنين وفرقوا بينهم في المضاجع))[صححه الألباني في إرواء الغليل: 298)].
وفي هذا الحديث النبوي إشارة إلى أن الأطفال ما قبل العاشرة لا يجوز في حقهم الضرب مطلقا، حتى على ترك الصلاة، وعند العاشرة يكون الضرب غير المبرح في شيء على قدر الصلاة في الأهمية والمكانة، وليس عند كل بادرة خطأ من الطفل يواجه بهذا الأسلوب الغليظ الخشن.




وفى الحياة الواقعية، قد لا يستطيع بعض الآباء إقناع أطفالهم بما يريدونه منهم، أو إجبارهم على فعل أو ترك، فيقوموا بفرض عقوبة جسدية عنيفة عليهم، وهو ما يترك آثار نفسية قد يكون من الصعب تلافيها أو علاجها في الكبر.
فقد أثبت الطب النفسي الحديث أن الأطفال الذين يتعرضون للعنف في الصغر يعانون من مشاكل نفسية متعددة تؤثر على أكثر من جانب في حياتهم وسلوكهم..
فمثلا من الناحية السلوكية يتسم الأطفال الذين يتعرضون للعنف والقسوة بالعصبية الزائدة، واللجوء المستمر للكذب، والرغبة في ممارسة العدوان والعنف المضاد والذي قد يتمثل في تحطيم الأثاث المنزلي أو المدرسي، والتنكيل بالحيوانات الأليفة، كما سيتعزز لديه حب التسلط مما يجعله يمارس هذا العنف على نطاق واسع عند الكبر مع أصدقائه، وزوجته وأطفاله أيضا.




ومن الناحية الاجتماعية فإن ممارسة العنف مع الطفل في الصغر تجعل الصغير يفقد القدرة على التعامل الإيجابي مع المجتمع، ويصبح انعزاليا خجولا، حيث يقطع صلته بالآخرين، ويتجنب المشاركة في النشاطات الجماعية والاجتماعية.
ومما تؤكده الدراسات النفسية أن الطفل الذي يُمارس عليه العنف باستمرار يتبلد لديه الحس ويصبح قليل التأثر بالأحداث التي يعايشها، كما يتولد لديه الإحساس بالدونية نتيجة لمشاعر العجز والخوف المترسخة في نفسه.
والعقاب الجسدي الواقع على الأطفال من شأنه كذلك أن يعوق عملية تكوين الضمير ويجعل من الطفل إنسانا يفتقر إلى الرقابة الذاتية ويخشى العقاب العاجل، ويرهب السلطة ويخافها دوما.




2- تحاشي الكذب والخداع في التعامل
جاء في سنن أبي داود عن عبد الله بن عامر قال: دعتني أمي يوما ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد في بيتنا فقالت: ها تعال أعطيك. فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وما أردت أن تعطيه؟))، قالت: أعطيه تمرا، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أما إنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة))[حسنه الألباني في الترغيب والترهيب: 2943)].
وفي هذا الأثر النبوي إرشاد إلى ضرورة تحاشى خداع أو غش الأطفال، ففي بعض الأحيان، يلجأ الآباء والأمهات إلى الكذب على الأطفال بدعوى أنهم لا يفهمون وعند الكبر يتعلمون حرمه الكذب والنهي عنه، إلا أن ما أثبته الطب النفسي أن التعامل بمثل هذه الممارسات يحدث تأثيرا سلبيا في نفوس الأطفال، ويؤدى إلى أن يحاكى الأطفال أولياء أمورهم، ويمارسون الكذب في الصغر والكبر على السواء.
فالطفل يمتص الصدق من الآباء والأمهات أو من المحيطين به، ومن ثم فالالتزام بالأقوال والأفعال شرط مهم في التعامل مع الطفل؛ لأن الولد إذا نشأ على الخداع وعدم المصارحة من الآخرين فإن مثل هذا الجو سوف يؤثر سلبا في تكوينه الداخلي.




فلا ينبغي أن يرى أو يسمع الطفل إلا ما يحسُن من أبويه لأنه يفتح عينيه وأذنيه وقلبه على ما يشاهده ويسمعه منهما، ولذا تنعكس على شخصيته كل الأشياء التي يستقبلها منهما في هذا السن.. فشخصية الطفل تعد انعكاسا لنوع التربية التي تلقاها في صغره، ويكفي أن نعرف أن أغلب السمات الشخصية والسلوكية لدى الأطفال تتكون خلال الخمس سنوات الأولى من عمره.




3- النهي عن تفضيل بعض الأبناء والأمر بالعدل بينهم
يقول الحق تبارك وتعالي: (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ)[يوسف: 7-9)].
وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير تصدق علي أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فانطلق أبي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليشهده على صدقتي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفعلت بولدك هذا كلهم؟)) قال: لا، قال: ((اتقوا الله واعدلوا في أولادكم، فرجع أبي فرد تلك الصدقة))[صحيح مسلم: 1623)].




وقال الحسن: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث أصحابه إذ جاء صبي حتى انتهى إلى أبيه، في ناحية القوم، فمسح رأسه وأقعده على فخذه اليمنى، قال: فلبث قليلا، فجاءت ابنة له حتى انتهت إليه، فمسح رأسها وأقعدها في الأرض، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فهلا على فخذك الأخرى))، فحملها على فخذه الأخرى، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((الآن عدلت)).




المفاضلة بين الأبناء والتمييز والتفريق بينهم في أمور الحياة من أعظم العوامل التي تسبب الانحراف السلوكي والنفسي لدى الأطفال، وتؤدي إلى أثار نفسية مدمرة، إضافة إلى أثار اجتماعية خطيرة على التلاحم الأسري وبر الآباء.
فعن النواحي النفسية يمكننا القول بأن عدم مراعاة العدل بين الأبناء يعد من أخطر الظواهر في تعقيد نفسية الأبناء وانحرافهم، وتحولهم إلى عالم الجريمة، وقد يقودهم للقتل في بعض الأحيان، فأخوة يوسف - عليهم السلام - قادهم شعورهم بتفضيل يعقوب - عليه السلام - ليوسف عليهم إلى الكذب على أبيهم واتهامه بالضلال، ثم محاولة التخلص من يوسف - عليه السلام -، ومعاودة الكذب مرة أخرى على أبيهم.




فبعضنا أحيانا يفضل ابنا على آخر، لذكائه أو جماله، أو لأنه من نوع يحبه ذكرا أم أنثى، مما يزرع في نفس الطفل المغبون الإحساس بالغيرة تجاه إخوته، ويعبر عن هذه الغيرة بالسلوك الشاذ والعدوانية تجاه الأخ المدلل بهدف الانتقام منه ومن الآباء.
كما يولد هذا التفضيل لديه الشعور بالحسد والكراهية، ويجعله رهين الخوف والانطواء، ويكون عاملا رئيسا من عوامل الشعور بالنقص، ويورث عنده حب الاعتداء على الآخرين لتعويض هذا النقص الكامن.
أما من الناحية الاجتماعية فهذا التفاضل سبب مباشر للعقوق، ولكراهية الأولاد بعضهم لبعض، ودافع للعداوة بين الأخوة والآباء.




4 - تجنب إظهار العورات
يقول الحق - تبارك وتعالي -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْك ُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ)[النور: 58)].




قد يقع الطفل الصغير ضحية التربية الخاطئة من الوالدين، الذين يعكفون على مشاهدة المناظر الإباحية في التلفاز أو يسمحون بذلك في بيوتهم، أو يتساهلون في العديد من الأمور، كتبديل الملابس أمام الأطفال، أو التساهل في ممارسة بعض نواحي الحياة الزوجية أمامهم على اعتبار عدم إدراكهم لطبيعتها في حين أن تلك المشاهد تنطبع في ذهن الأطفال ويحاولون محاكتها، بدافع التجربة.
فبعض السلوكيات أو الميول الجنسية التي تظهر مبكرا لدى الأطفال مكتسبة ومتعلمة مما يرى أو يشاهد سواء في التلفاز أو في واقع الحياة بين الأب والأم.
ويقول في معرض حديثه عن الآية محل الدلالة: "يستأذن الصغار المميزون الذين لم يبلغوا الحلم، كي لا تقع أنظارهم على عورات أهليهم، وهو أدب يغفله الكثيرون في حياتهم المنزلية، مستهينين بآثاره النفسية والعصبية والخلقية، ظانين أن الخدم لا تمتد أعينهم إلى عورات السادة، وأن الصغار قبل البلوغ لا ينتبهون لهذه المناظر، بينما يقرر النفسيون اليوم بعد تقدم العلوم النفسية أن بعض المشاهد التي تقع عليها أنظار الأطفال في صغرهم هي التي تؤثر في حياتهم كلها؛ وقد تصيبهم بأمراض نفسية وعصبية يصعب شفاؤهم منها، والعليم الخبير يؤدب المؤمنين بهذه الآداب؛ وهو يريد أن يبني أمة سليمة الأعصاب، سليمة الصدور، مهذبة المشاعر، طاهرة القلوب، نظيفة التصورات".