نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي
دراسة في بنية التشكل المعرفي لعلم المقاصد[1/3]

د. بدران بن الحسن
تمهيد:
إتجهت أنظار الكثير من العلماء إلى الطرح المقاصدي في الفكر الإسلامي واعتبروه أطروحة بديلة قد تساهم في حل الأزمة المعرفية التي تعيشها منهجية الاجتهاد الأصولي الحديثة، ولكن بما أن أبعاد الأزمة المعرفية لا يمكن تحديدها علمياً من زاوية واحدة فقط، كأن تقول مثلا أنها أزمة الفقه أو الأخلاق أو الإجتهاد، لأنها تمثل وحدة تتداخل فيها عدة عوامل بدرجات متفاوتة يصعب عزل أحدها عن الآخر، لهذا يتطلب الأمر منا قراءة هذه الأنماط من الأفكار قراءةً معرفية نستطيع من خلالها أن نكتشف نسبة التأثير لكل عامل من تلك العوامل، ومدى إعتبار معالجة تلك الإشكالية نقلةً معرفية تنقل الفكر الأصولي من عامل معرفي قديم إلى عامل معرفي جديد.
على ضوء هذه الرؤية تحاول هذه الورقة أن تحلل نظرية المقاصد عند الشاطبي من الزاوية التي يمكن من خلالها أن نحدد إلى أي مدى يمكن إعتبارها منهجية تستطيع أن تنقذ الاجتهاد الأصولي وتطبيقاته في المجتمع الإسلامي المعاصر.
للإجابة على هذه التساؤلات قسمت البحث إلى أربعة مباحث: في الأول بينت فيه مفهوم المقاصد. ثم في المبحث الثاني تطرقت إلى الجذور المعرفية للمقاصد وعوامل نشأتها التي حصرتها في بعدين؛ الأصولي والإجتماعي. أما المبحث الثالث فحاولت تحليل النظام الداخلي للنظرية وبيان المفاهيم الأساسية التي لايمكن الاستغناء عنها لفهمها. وأما في المبحث الرابع فقد حاولت أن أبين القيمة المعرفية للمقاصد
في الخاتمة حاولت أن أبين كيفية مساهمة نظرية المقاصد في حل الزمة المعرفية في علم الأصول خصوصا وفي حقل المعرفة عموما.
المبحث الأول: مفهوم المقاصد
لقد حاول الذين جاءوا بعد الشاطبي أن يحددوا المجال الدلالي والمفهومي لهذا المصطلح، ذلك أن الشاطبي لم يعط المفهوم تعريفا جامعا مانعا، ولعله أعتبر الأمر واضحاً، ولعل مازهده في تعريف المقاصد كونه كتب كتابه للعلماء، بل للراسخين في علوم الشريعة (1). وبالرغم من هذا، فإن أسباباً أخرى خفية علينا جعلته يتخذ هذا الموقف، ذلك لأن تحديد المفاهيم من الأولويات الأساسية لبناء أي نموذج معرفي جديد، لهذا أعتقد أن سبب عدم إيراده لمفهوم المقاصد يعود إلى الطبيعة الأساسية لمشروعه الفكري الذي كان ينظر إليه على أنه ليس بحثا في المعرفة فقط بل هو مشروع وظيفي يحاول أن يحدث به تغيراً اجتماعياً ومنظورا جديدا يفهم من خلاله خطاب الشارع الحكيم. ولهذا، فإننا تواجهنا صعوبة في تحديد "مفهوم المقاصد"، ولهذا نجد مؤخراً تأويلات وأحكام مختلفة حول المفهوم نفسه.
غير اننا لحاجة منهجية في ضبط المفهوم نورد بعض تعاريف المتأخرين، التي قد تساعدنا في فهم الاتجاه العام الذي تسير عليه نظرية المقاصد.
ولقد انتبه الطاهر ابن عاشور إلى هذه الإشكالية وحاول تحديدها بمفهوم عام يقول فيه أن "مقاصد التشريع العامة هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة، فيدخل في هذا ما في الشريعة وغايتها العامة والمعاني التي لايخلو التشريع من ملاحظاتها، ويدخل في هذا أيضاً معاني من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام ولكنها ملحوضة في أنواع كثيرة" (2).
ويقسمها الى معان حقيقية، تتحقق في نفسها، ومعاني عرفية عامة تدل على المجريات التي ألفتها نفوس الجماهير واستحسنتها. ولإثبات معاني المقاصد يشترط فيها تحقق أربع صفات: الثبوت، والظهور، والانضباط، والاطراد.
لكن إذا اعتمدنا على هذا التحديد فقط، قد لا يسمح لنا أن نرى النظرية من بعدها الخارجي حتى نتمكن بطريقة علمية أن نحدد موقعها المعرفي الذي نحاول أن نقف عنده بقدر المستطاع. ومن أجل توضيح هذا القصد حاول طه عبدالرحمن أن يستخرج المعاني الممكنة من ذلك المفهوم، وتوصل إلى بيان ثلاث معانٍ أساسية؛ كل واحد منها يتعلق بنمط معين من المحتوى، وهي كلها تمثل فصولا خاصة وضعها الشاطبي في كتابه "الموافقات".
فالمعنى الأول يستعمل الفعل قصد بمعنى ضد الفعل "لغا" "يلغو". ولما كان اللغو هو الخلو من الفائدة أو صدق الدلالة فإن المقصد يكون على عكس ذلك "هو معلول الفائدة أو معقول الدلالة" (3)، وهذا المضمون الدلالي يعود إلى الفصل الذي وضعه الشاطبي تحت عنوان "مقاصد وضع الشريعة للإفهام"، وقد ناقش فيه قضيتين أساسيتين حاول فيهما اثبات صفة العربية والأمية للشريعة اللاسلامية (4).
والمعني الثاني "يستعمل الفعل "قصد" أيضا بمعنى ضد فعل "سها" "يسهو". ولما كان السهو هو فقدان التوجه أو الوقوع في النسيان، فان المقصد يكون على خلاف ذلك، وهو حصول التوجه والخروج من النسيان (5). هذا المعنى يدل على البعد الشعوري والارادي الذي تعكسه الفصول التي وضعها الشاطبي تحت فصل "مقاصد وضع الشريعة للامتثال" و"مقاصد المكلف".
في المعني الثالث " يستعمل فعل "قصد" ضد الفعل "لها " "يلهو"، لما كان اللهو هو خلو من الغرض الصحيح و فقدان الباعث المشروع، فان المقصد يكون على العكس من ذلك هو حصول الغرض الصحيح و قيام الباعث المشروع" (6). هذه الدلالة كما بينها طه عبد الرحمان تعكس "المضمون القيمي" وهو الذي ناقشه الشاطبي في فصل "مقاصد وضع الشريعة ابتداءا " .
من خلال هذا التحليل يتبين لنا أن دلالة نظرية المقاصد يصعب حصرها في بعد واحد لإحتوائها على قابلية عجيبة للفهم المتعدد، لهذا وصل في الأخير إلى القول "و على الجملة فان الفعل "قصد" قد يكون بمعنى "حصل فائدة" أو "حصل نية " أو بمعنى "حصل الغرض"، فيشمل "علم المقاصد" إذ ذاك على ثلاث نظريات أصولية متمايزة فيما بينها، أولها نظرية المقصودات، وهي تبحث في المضامين الدلالية للخطاب الشرعي والثانية نظرية القصود، وهي تبحث في مضامين الشعورية أو الارادية، والثالثة نظرية المقاصد، وهي تبحث في المفاهيم القيمية للخطاب الشرعي (7) .
بهذا المعنى يتضح أن الفهم الصحيح للمقاصد ينبني على هذه الشمولية التي تفرضها النظرية نفسها، لذا تقتضي منا الضرورة أن لا نتقيد بالتعريف الذي وضعه الطاهر ابن عاشور.
من جهة أخرى فإن هذه القابلية للفهم المتعدد لم تمنع الشاطبي من إرساء نظام قيمي دقيق نظم في داخله ما يحمله ذلك المصطلح من الدلالة، إذ ذهب إلى االتركيز على تحديد مفهوم المصلحة تحديدا يعبر عن تلك الدقة، حيث يقسمها إلي نوعين:
فالأول يعتبر من جهة قصد الشارع في وضع الشريعة إبتداءا، ومن جهة قصده في وضعها للأفهام، ومن جهة قصده في وضعها للتكليف بمقتضاها، ومن جهة قصده دخول المكلف تحت حكمها" (8).
أما النوع الثاني فيتمثل في مقاصد المكلف االتي بينها في "أن الأعمال بالنيات، والمقاصد معتبرة في التصرفات، من العبادات والعادات" و "قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقا لقصده في التشريع" (9).
هذه المقولات تنبني عليها قضايا فرعية أخرى لا يتسع الأمر لذكرها لكن تبقى محتواة في الأولى. وهذا الإعتبار هو الذي منح نوعاً من الأنسجام بين مقاصد الشارع ومقاصد المكلف.
إضافة إلى هذ التقسيم المنهجي، عمد الشاطبي إلى بيان أن المقاصد في حد ذاتها تنقسم إلى ضرورية وحاجية وتحسينية، وهذا بطبيعة الحال يعكس النظام القيمي الذي على أساسه تتوزع وتترتب عملية تحقق المقاصد في أبعادها الشرعية والاجتماعية. ولذلك وضع خمس قواعد أساسية؛ هي:
القاعدة الأولى: أن الضروري أصل لما سواه من الحاج والتكميلي.
القاعدة الثانية: أن اختلال الضروري يلزم منه اختلال الباقين بإطلاق.
القاعدة الثالثة: أنه لايلزم من اختلال الباقين اختلال الضروري.
القاعدة الرابعة: أنه قد يلزم لاختلال التحسيني بإطلاق أو الحاجي اختلال الضروري بوجه ما.
القاعدة الخامسة: أنه ينبغي المحافظة على الحاجي والتحسيني للضروري (10).
بهذا نصل إلى خلاصة واضحة وهي أن الشاطبي له مبرراته الموضوعية التي دفعته إلى عدم وضع تعريف جامع مانع لمفهوم المقاصد، بل عمد إلى إيراد إيضاحات إجرائية متعلقة بالجانب التطبيقي لهذا المفهوم.

(1) أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، ط2، الدار العالمية للكتاب، 1996، ص5.
(2) ابن عاشور، مقاصدالشريعة الإسلامية،الشرك ة التونسية للتوزيع، 1978، ص52.
(3) ابن عاشور، نفس المرجع، ص52.
(4) طه عبد الرحمان، تجديد المنهج في تقويم التراث،ط1،دار الكتب العلمية،1991، ص 98.
(5) الشاطبي، الموافقات، ج2، ط1، دار الكتب العلمية،76.
(6) طه عبد الرحمان، نفس المرجع، ص98.
(7) المرجع السابق، ص98 .
(8) المرجع السابق، ص99
(9) الشاطبي، المرجع السابق،ج2،ص4.
(10) الشاطبي، المرجع السابق،ج2،ص4.