الحمد لله رب العالمين، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فقد روى الإمام أبوداود في "سننه" من حديث ابى هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنةٍ من يجدد لها دينها ».
روى الإمام البيهقي في "مناقب الشافعي" عن عبد الملك الميموني قال: كنت عند أحمد بن حنبل وجرى ذكر الشافعي فرأيت أحمد بن حنبل يرفعه، وقال: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم... وذكر الحديث، ثم قال: فكان عمر بن عبد العزيز على رأس المائة وأرجو أن يكون الشافعي على رأس المائة الأخرى.
ورُوى مثل ذلك أيضًا عن محمد بن على بن الحسين - رحمه الله - عن بعض أصحابه.
فمن هو الإمام الشافعي رحمه الله ورضى عنه؟
هو: أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن الشافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن المطلب بن عبد مناف، يتصل نسبه بنسب رسول الله صلى الله عليه وسلم في "عبد مناف".
وأُسر جده السائب بن عبيد يوم بدر وفدى نفسه ثم أسلم، وقيل له: لم لم تسلم قبل إعطاء الفداء؟ فقال: ماكنت أحرم المؤمنين ما طمعوه فىّ.
وكان شبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصورة والخلقة.
مولده:
ولد الإمام الشافعي رحمه الله سنة خمسين ومائة وهي السنة التي توفى فيها الإمام أبو حنيفة رحمه الله، وقيل: ولد في نفس اليوم الذي مات فيه الإمام أبو حنيفة رحمه الله.
قال الإمام البيهقي: هذا التقييد باليوم لم أجده إلا في بعض الروايات أما التقييد بالعام فمشهور بين أهل التواريخ.
وكان مولده بـ « غزة »، وقيل: بـ « عسقلان ».
ورأت أمه لما حملت به كأن المشترى (الكوكب المعروف) خرج من بطنها وانقض بمصر ثم وقع في كل بلد منه شظيّة. فقال المعبرون: إنه يخرج من بطنها عالم عظيم يكون علمه في جميع بلاد الإسلام.
ولما أتم سنتين خافت أمه من ضياع نسبه لبعده عن أهله فنقلته إلى مكة.
وهذا يدلنا على عقل والدة الإمام الشافعي فقد كانت من أعقل النساء، ذكر الإمام الفخر الرازي وغيره: أن أم الإمام الشافعي احتاجت إلى الشهادة في قضية هي وامرأة أخرى فأراد القاضي أن يفرق بينهما ليستوثق من صدقهما فقالت والدة الإمام الشافعي: ليس لك ذلك. قال: ولم؟ قالت لأن الله – عز وجل - قال: ﴿ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى ﴾ [البقرة: 282]، فأذعن القاضي.
فهذه المرأة العاقلة هي التي قامت بتربية الإمام الشافعي لأنه نشأ يتيمًا، فنقلته إلى مكة خوفًا من ضياع نسبه.
وكان الإمام الشافعي في أول الأمر فقيرًا، ولما سلموه إلى المكتب ليحفظ القرآن ما كانوا يجدون أجرة المعلم، فكان المعلم يقصر في التعليم، إلا أن المعلم كان كلما علم صبيانه شيئًا كان الشافعي يتلفف هذا الكلام، ثم إذا قام المعلم من مكانه أخذ الشافعي يعلم الصبيان تلك الأشياء، فنظر المعلم فإذا الشافعي يكفيه من أمر الصبيان أكثر من الأجرة التي يطمعها منه، فترك طلب الأجرة، فأتم الشافعي حفظ القرآن كمال سبع سنين.
ولما أتم حفظ القرآن انصرفت همته إلى طلب العلم فانشغل بالعربية والشعر حتى وصل إلى منزلة عالية فيه، قال الأصمعي رحمه الله: قرأت "ديوان الهذليين" على شاب من شباب قريش يقال له: محمد بن إدريس الشافعي. وورد عنه أيضًا أنه قال: قرأت شعر الشنفرَى على محمد بن إدريس الشافعي.
وكفى بهذه منزلة.
وحكى المبرد عن المازني أنه كان يقول: « قول محمد بن إدريس الشافعي حجة في اللغة ».
وقال الجاحظ: « نظرت في كتب هؤلاء النابغة، الذين نبغوا في العلم فلم أر أحسن تأليفًا من المطلبي (يعنى الشافعي) كأن لسانه ينظم الدر ».
وقال ثعلب: الشافعي يجب أن تؤخذ منه اللغة.
وذكر الإمام الزمخشري في "الكشاف" عند قوله تعالى: ﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا ﴾ [النساء: 3].
فنقل قول الإمام الشافعي فيها ثم قال: وكلام مثل الشافعي - رضى الله عنه - وهو من أعلام العلم، وأئمة الشرع، ورؤوس المجتهدين، حقيق بالحمل على الصحة والسداد.
فهذه شهادات الفحول من أئمة اللغة بتفوق الشافعي ونبوغه في اللغة، ولا عجب في ذلك فهو القائل عن نفسه كما ذكر الذهبي في "السير": أقمت في بطون العرب عشرين سنة آخذ أشعارها ولغاتها.
وأما نبوغه في الشعر فهو القائل:
ولولا أنَّ الشِّعر بالعلماءِ يُذرِي *** لكنتُ اليومَ أشعرَ من لبيدِ
ظل الإمام الشافعي رحمه الله يطلب الشعر إلى أن وقعت له حادثة غيرت مجرى حياته، بل مجرى حياة الأمة، حيث تحول الإمام الشافعي بسببها إلى تعلم الفقه، فكانت حادثة خير وبركة على الأمة كلها.
روى الإمام البيهقي في "المدخل" عن مصعب بن عبدالله الزبيري قال عن الشافعي: وكان سبب أخذه في الفقه أنه كان يوما يسير على دابة له، وخلفه كاتب لأبى، فتمثل الشافعي ببيت شعر، فقرعه كاتب أبى بسوطه ثم قال له: مثلك يذهب بمروءته في مثل هذا، أين أنت عن الفقه؟ فهزه ذلك، فقصد لمجالسة الزنجي ابن خالد وكان مفتي مكة.
وكان هذا بداية تحول الإمام الشافعي للفقه فلزم مسلم بن خالد الزنجي حتى أذن له بالإفتاء قائلا: أفت يا أبا عبد الله فقد والله آن لك أن تفتى.
وكانت سنه يومئذ خمس عشرة سنة.
وكان الشافعي - رحمه الله - فقيرًا لا يجد ما يكتب عليه، قال رحمه الله: كنت ما أجد ما أشترى به القراطيس فكنت آخذ العظم وأكتب فيه، وأستوهب الظهور من أهل الديوان: (أي الأوراق المكتوبة المستغنى عنها) وأكتب في ظهرها.
ثم سمت همته للقاء الإمام مالك والأخذ عنه، فاستعار كتاب الموطأ من رجل بمكة وحفظه، ثم دخل على والى مكة، فأخذ منه كتابًا إلى والى المدينة، فلما قدم المدينة بلّغ الكتاب لوالى المدينة، فقال والى المدينة: يا فتى لو كلّفتني المشي من جوف المدينة إلى جوف مكة راجلًا حافيًا كان أهون على من المشي إلى باب مالك. فقلت: إن رأى الأمير أن يحضره. فقال: هيهات. ليتنا إذا ركبنا إليه، ووقفنا على بابه كثيرًا فتح لنا الباب.
قال: ثم ركبت وذهبت معه إلى دار مالك فتقدم رجل وقرع الباب، فخرجت إلينا جارية سوداء، فقال لها الوالي: قولي لمولاك إني بالباب، فدخلت الجارية وأبطأت ثم خرجت فقالت: إن مولاي يقول: إن كان لك مسألة فارفعها في رقعة حتى يخرج إليك الجواب، وإن كان المجئ لمهم آخر فقد عرفت يوم المجلس فانصرِف.
فقال لها: قولي له: إن معي كتاب والى مكة في مهم، فدخلت ثم خرجت وفى يدها كرسيّ فوضعته، فإذا مالك شيخ طوال قد خرج وعليه المهابة وهو متطيلس فدفع الوالي الكتاب إليه، فلما بلغ إلى قوله: إن محمد بن إدريس رجل شريف من أمره ومن حاله كذا وكذا رمى الكتاب من يده، وقال يا سبحان الله صار علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث يطلب بالوسائل!!
قال الشافعي: فتقدمت إليه فقلت: أصلحك الله إني رجل مطلبي من حالي وقصتي كذا وكذا، فلما سمع كلامي نظر إلىّ ساعة، وكان لمالك فراسة، فقال لي: ما اسمك؟ فقلت: محمد، فقال: يا محمد اتق الله، واجتنب المعاصي فإنه سيكون لك شأن من الشأن، فقلت: نعم وكرامة.
فقال: إن الله تعالى قد ألقى على قلبك نورًا فلا تطفئه بالمعصية.
ثم قال: إذا كان غدًا تجئ بمن يقرأ لك الموطأ، فقلت له: إني أقرؤه من الحفظ.
ثم إني رجعت له من الغد وابتدأت بالقراءة، فكلما أردت قطع القراءة خوفًا من ملالته أعجبه حسن قراءتي فيقول: يا فتى زد حتى قرأته في أيامٍ يسيرة.
فلزم مالكًا حتى توفى مالك رحمه الله ثم ذهب إلى اليمن، ثم دخل العراق وأقام فيها سنتين، لقى فيها أصحاب أبى حنيفة ووقعت بينهم مناظرات، وصنف فيها كتابه القديم وسماه كتاب (الحجة) ثم خرج إلى مصر وأقام بها إلى أن مات سنة أربعة ومائتين، وكان عمره أربعًا وخمسين سنة ودفن بالمقطم. (رحمه الله تعالى).
ثناء العلماء عليه:
أثنى على الإمام الشافعي رحمه الله شيوخه وأقرانه وتلاميذه.
قال مالك رحمه الله: ما أتاني قرشي أفهم من هذا الفتى.
وقال يحيى بن سعيد القطان: أنا أدعوا للشافعي في صلاتي منذ أربعين سنة.
وقال محمد بن الحسن: إن تكلم أصحاب الحديث يوما فبلسان الشافعي.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: ما رأيت قط رجلا أعقل ولا أورع ولا أفصح ولا أنبل من الشافعي.
وقال عبدالله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبى: أيُّ رجل كان الشافعي فإني سمعتك تكثر من الدعاء له؟ قال: يا بنى كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للأبدان فانظر هل لهذين من خلف؟ أو عنهما من عوض؟
دور الإمام الشافعي التجديدي:
كان للإمام الشافعي دور عظيم في الفقه الإسلامي وأصوله حيث خطا بالفقه الإسلامي خطوات واسعة نقلته إلى رحاب أوسع، وثبتت دعائمه ووضحت أسسه.
يتمثل منهج الإمام الشافعي التجديدي في:
1- الرسالة العظيمة التي ألفها الإمام الشافعي في أصول الفقه، والتي عرفت باسم الرسالة، حيث كانت عبارة عن رسالة أرسلها الإمام الشافعي إلى عبدالرحمن بن مهدى بناء على طلبه، هذه الرسالة العظيمة التي قال عنها الإمام المزني: قرأت الرسالة خمسمائة مرة ما من مرة قرأتها فيها إلا وأستفيد فائدة جديدة.
هذه الرسالة غدت أصلًا ومرجعًا لعلم أصول الفقه، وهي التي وضحت أصول الاستنباط والأدلة المعتبرة.
2- رد الناس إلى السنة بعد أن انقسموا إلى معسكرين متباينين: أصحاب الرأي، وأصحاب الحديث.
3- إدخاله لعلوم أخرى مساعدة لعلم الحديث:
حيث كان الفقهاء قبله يعتمدون على علم الحديث فقط فأدخل الشافعي اللغة والشعر كعلوم مساعدة للفقيه.
4- تغير الاجتهاد بتغير الأحوال والبلاد:
وهذا واضح في تغيير الإمام الشافعي لبعض اجتهاداته حين دخل مصر وألف فيها مذهبه الجديد.
5- كلامه عن المسائل التي لم تقع بعد، واجتهاده في بيان حكمها، وكان الفقه قبله مقصورًا على الوقائع التي وقعت، وكانوا إذا سئلوا عن مسألة لم تقع قالوا دعوها حتى تقع، وقال في الحديث الذى نهى فيه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن السؤال (كانت المسائل فيما لم ينزّل إذ كان الوحى ينزل مكروهة).
فجعل النهى خاصًا بزمن نزول الوحي خشية أن ينتج عن السؤال تحريم شيءٍ لم يكن محرَّمًا.
6- جمعه بين المدرستين السائدتين في العالم الإسلامي في مدرسة واحدة.
فقد كان الناس قبل زمان الشافعي فريقين: أصحاب الحديث، وأصحاب الرّأي. أما أصحاب الحديث: فكانوا حافظين لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم كانوا عاجزين عن النظر والجدل، وكلما أورد عليهم أحدٌ من أصحاب الرأي سؤالًا أو إشكالًا سقط في أيديهم ووقفوا متحيّرين. وأما أصحاب الرأي: فكانوا أصحاب النظر والجدل، إلا أنهم كانوا عاجزين عن الآثار والسنن، وأما الشافعي رضي الله عنه: فكان عارفًا بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، محيطًا بقوانينها، وكان عارفًا بآداب النظر والجدل قويّا فيه، وكان فصيح الكلام، قادرًا على قهر الخصوم بالحجّة الظاهرة، وآخذًا في نصرة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل من أورد عليه سؤالًا أو إشكالًا أجاب عنه بأجوبة شافية كافية، فاجتمعت المدرستان في شخصه رحمه الله.
الحديث عن الإمام الشافعي لا ينقضي، ولكن حسبنا ما سقناه، وهذا ما تيسر إعداده وتهيأ إيراده.
والحمد لله أولًا وآخرًا.


رابط الموضوع: https://www.alukah.net/culture/0/143180/#ixzz6e9UaFXPv