بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (64)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ (19)
صـ 416 إلى صـ 420
[ ص: 416 ] وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : [ الطَّوِيلُ ]
وَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا أَبَرَّ وَأَوْفَى ذِمَّةً مِنْ مُحَمَّدِ وَأَعْطَى إِذَا مَا طَالِبُ الْعُرْفِ جَاءَهُ
وَأَمْضَى بِحَدِّ الْمَشْرَفِيِّ الْمُهَنَّدِ
وَقَالَ الْآخَرُ فِيهِ : [ الطَّوِيلُ ]
وَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا أَشَدَّ عَلَى أَعْدَائِهِ مِنْ مُحَمَّدِ
وَيُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَلِينَ إِلَّا فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ لِلِّينِ ، وَأَلَّا يَشْتَدَّ إِلَّا فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ لِلشِّدَّةِ ، لِأَنَّ اللِّينَ فِي مَحَلِّ الشِّدَّةِ ضَعْفٌ ، وَخَوَرٌ ، وَالشِّدَّةَ فِي مَحَلِّ اللِّينِ حُمْقٌ ، وَخَرَقٌ ، وَقَدْ قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ الْمُتَنَبِّي : [ الطَّوِيلُ ]
إِذَا قِيلَ حِلْمٌ قُلْ فَلِلْحِلْمِ مَوْضِعٌ وَحِلْمُ الْفَتَى فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ جَهْلُ
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ، ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَوْ أَطَاعُوا اللَّهَ ، وَأَقَامُوا كِتَابَهُمْ بِاتِّبَاعِهِ ، وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهِ ، لَيَسَّرَ اللَّهُ لَهُمُ الْأَرْزَاقَ ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمُ الْمَطَرَ ، وَأَخْرَجَ لَهُمْ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ .
وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ خَاصًّا بِهِمْ ، كَقَوْلِهِ عَنْ نُوحٍ وَقَوْمِهِ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [ 71 \ 11 ] ، وَقَوْلِهِ عَنْ هُودٍ وَقَوْمِهِ : وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ الْآيَةَ [ 11 \ 52 ] ، وَقَوْلِهِ عَنْ نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَوْمِهِ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [ 11 \ 3 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّ هُ حَيَاةً طَيِّبَةً الْآيَةَ [ 16 \ 97 ] . عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ وَقَوْلِهِ : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [ 7 \ 96 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [ 65 \ 2 ، 3 ] ، وَقَوْلِهِ : وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [ 20 \ 132 ] ، وَمَفْهُومُ الْآيَةِ أَنَّ مَعْصِيَةَ اللَّهِ تَعَالَى ، سَبَبٌ لِنَقِيضِ مَا [ ص: 417 ] يُسْتَجْلَبُ بِطَاعَتِهِ ، وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ الْآيَةَ [ 30 \ 41 ] ، وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ، ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ، أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قِسْمَانِ :
طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مُقْتَصِدَةٌ فِي عَمَلِهَا ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَيِّئُ الْعَمَلِ ، وَقَسَّمَ هَذِهِ الْأُمَّةَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ فِي قَوْلِهِ : فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [ 35 \ 32 ] ، وَوَعَدَ الْجَمِيعَ بِالْجَنَّةِ بِقَوْلِهِ : جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [ 35 \ 33 ] .
وَذَكَرَ الْقِسْمَ الرَّابِعَ : وَهُوَ الْكُفَّارُ مِنْهَا بِقَوْلِهِ : وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا الْآيَةَ [ 35 \ 36 ] .
وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي الْمُقْتَصِدِ ، وَالسَّابِقِ ، وَالظَّالِمِ ، أَنَّ الْمُقْتَصِدَ هُوَ مَنِ امْتَثَلَ الْأَمْرَ ، وَاجْتَنَبَ النَّهْيَ ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ ، وَأَنَّ السَّابِقَ بِالْخَيْرَاتِ هُوَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ، وَزَادَ بِالتَّقَرُّبِ إِلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ ، وَالتَّوَرُّعِ عَنْ بَعْضِ الْجَائِزَاتِ ، خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِغَيْرِهِ ، وَأَنَّ الظَّالِمَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ الْآيَةَ [ 9 \ 102 ] ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْآيَةَ .
أَمَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَبْلِيغِ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ ، وَشَهِدَ لَهُ بِالِامْتِثَالِ فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ ، كَقَوْلِهِ : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [ 5 \ 3 ] ، وَقَوْلِهِ : وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ [ 24 \ 54 ] ، وَقَوْلِهِ : فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ [ 51 \ 54 ] ، وَلَوْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكْتُمَ شَيْئًا ، لَكَتَمَ قَوْلَهُ تَعَالَى : وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ [ 33 \ 37 ] ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَمَ حَرْفًا مِمَّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ ، فَقَدْ أَعْظَمَ الِافْتِرَاءَ عَلَى اللَّهِ ، وَعَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ الْآيَةَ .
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَمُوا وَصَمُّوا مَرَّتَيْنِ ، تَتَخَلَّلُهُمَ ا [ ص: 418 ] تَوْبَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، وَبَيَّنَ تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ الْآيَةَ [ 17 \ 4 ] ، فَبَيَّنَ جَزَاءَ عَمَاهُمْ ، وَصَمَمِهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْأَوْلَى بِقَوْلِهِ : فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ الْآيَةَ [ 17 \ 5 ] ، وَبَيَّنَ جَزَاءَ عَمَاهُمْ وَصَمَمِهِمْ فِي الْمَرَّةِ الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ : فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ، وَبَيَّنَ التَّوْبَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ : ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُ مْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُمْ إِنْ عَادُوا إِلَى الْإِفْسَادِ عَادَ إِلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ : وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ، فَعَادُوا إِلَى الْإِفْسَادِ بِتَكْذيبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَتْمِ صِفَاتِهِ الَّتِي فِي التَّوْرَاةِ ، فَعَادَ اللَّهُ إِلَى الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ ، فَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَبَحَ مُقَاتِلَةَ بَنِي قُرَيْظَةَ ، وَسَبَى نِسَاءَهُمْ ، وَذَرَارِيَّهُم ْ ، وَأَجْلَى بَنِي قَيْنُقَاعَ ، وَبَنِي النَّضِيرِ ، كَمَا ذَكَرَ تَعَالَى طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْحَشْرِ ، وَهَذَا الْبَيَانُ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ لَمْ يَذْكُرْهُ ، وَلَكِنْ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِيهِ ; لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي ذِكْرِ أَفْعَالِهِمُ الْقَبِيحَةِ الْمَاضِيَةِ ، مِنْ قَتْلِ الرُّسُلِ ، وَتَكْذِيبِهِمْ ، إِذْ قَبْلَ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ : كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ [ 5 \ 70 ] .
وَمَعْنَى وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ [ 5 \ 71 ] ، ظَنُّوا أَلَّا يُصِيبَهُمْ بَلَاءٌ وَعَذَابٌ مِنَ اللَّهِ ، بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ ، وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ ، لِزَعْمِهِمُ الْبَاطِلِ ، أَنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ، وَقَوْلُهُ : كَثِيرٌ مِنْهُمْ ، أَحْسَنُ أَوْجُهِ الْإِعْرَابِ فِيهِ ; أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ وَاوِ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ : عَمُوا وَصَمُّوا ، كَقَوْلِكَ : جَاءَ الْقَوْمُ أَكْثَرُهُمْ ، وَقَوْلُهُ : أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ ، قَرَأَهُ حَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ ، وَأَبُو عَمْرٍو بِالرَّفْعِ ، وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ ، فَوَجْهُ قِرَاءَةِ النَّصْبِ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ الْحُسْبَانَ بِمَعْنَى الظَّنِّ ، وَوَجْهُ قِرَاءَةِ الرَّفْعِ ، تَنْزِيلُ اعْتِقَادِهِمْ لِذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَ بَاطِلًا ، مَنْزِلَةَ الْعِلْمِ ، فَتَكُونُ أَنْ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُو نَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
أَشَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، إِلَى أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا : إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [ 5 \ 73 ] ، لَوْ تَابُوا إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ ، لَتَابَ عَلَيْهِمْ ، وَغَفَرَ لَهُمْ ، لِأَنَّهُ اسْتَعْطَفَهُمْ إِلَى ذَلِكَ أَحْسَنَ اسْتِعْطَافٍ ، وَأَلْطَفَهُ بِقَوْلِهِ : أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُو نَهُ ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ غَفَرَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ : وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، وَصَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى عَامًّا لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ : [ ص: 419 ] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ الْآيَةَ [ 8 \ 38 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُو نَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
أَشَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، إِلَى أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا : إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ [ 5 \ 73 ] ، لَوْ تَابُوا إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ ، لَتَابَ عَلَيْهِمْ ، وَغَفَرَ لَهُمْ ، لِأَنَّهُ اسْتَعْطَفَهُمْ إِلَى ذَلِكَ أَحْسَنَ اسْتِعْطَافٍ ، وَأَلْطَفَهُ بِقَوْلِهِ : أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُو نَهُ ، ثُمَّ أَشَارَ إِلَى أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ غَفَرَ لَهُمْ بِقَوْلِهِ : وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، وَصَرَّحَ بِهَذَا الْمَعْنَى عَامًّا لِجَمِيعِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ : [ ص: 419 ] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ الْآيَةَ [ 8 \ 38 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ الْآيَةَ ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : الَّذِينَ لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ ، الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ ، وَالَّذِينَ لُعِنُوا عَلَى لِسَانِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْمَائِدَةِ ، وَعَلَيْهِ فَلَعْنُ الْأَوَّلِينَ مَسْخُهُمْ قِرَدَةً ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [ 2 \ 65 ] ، وَقَوْلِهِ : فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [ 7 \ 166 ] ، وَلَعْنُ الْآخَرِينَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ : فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [ 5 \ 115 ] ، وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ أَنَّهُ مَسَخَهُمْ خَنَازِيرَ ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْوِيٌّ عَنِ الْحَسَنِ ، وَقَتَادَةَ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَالْبَاقِرِ ، نَقَلَهُ الْأَلُوسِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ ، وَقَالَ : وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ ، وَنَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَقَتَادَةَ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَأَبِي مَالِكٍ ، وَذَكَرَ أَنَّهُ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ : إِنَّ أَهْلَ أَيْلَةَ لَمَّا اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ ، قَالَ دَاوُدُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : " اللَّهُمَّ أَلْبِسْهُمُ اللَّعْنَ مِثْلَ الرِّدَاءِ ، وَمِثْلَ الْمِنْطَقَةِ عَلَى الْحَقْوَيْنِ " ، فَمَسَخَهُمُ اللَّهُ قِرَدَةً ، وَأَصْحَابُ الْمَائِدَةِ لَمَّا كَفَرُوا ، قَالَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : [ ص: 420 ] " اللَّهُمَّ عَذِّبْ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ مَا أَكَلَ مِنَ الْمَائِدَةِ عَذَابًا لَمْ تُعَذِّبْهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ، وَالْعَنْهُمْ كَمَا لَعَنْتَ أَصْحَابَ السَّبْتِ ، فَأَصْبَحُوا خَنَازِيرَ " .
وَأَنَّ هَذَا مَعْنَى لَعْنِهِمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ ، وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، وَفِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذَا تَرَكْنَا التَّعَرُّضَ لَهَا ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ ، قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ ، هُوَ مَا قَصَدْتُمْ عَقْدَ الْيَمِينِ فِيهِ ، لَا مَا جَرَى عَلَى أَلْسِنَتِكُمْ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ نَحْوَ " لَا وَاللَّهِ " وَ " بَلَى وَاللَّهِ " ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ : [ الطَّوِيلُ ]
وَلَسْتَ بِمَأَخُوذٍ بِلَغْوٍ تَقُولُهُ إِذَا لَمْ تَعْمَدْ عَاقِدَاتِ الْعَزَائِمِ
وَهَذَا الْعَقْدُ مَعْنَوِيٌّ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ : [ الْبَسِيطُ ]
قَوْمٌ إِذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمُ شَدُّوا الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا
وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ ، وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ : عَقَدْتُمْ [ 5 \ 89 ] ، بِالتَّخْفِيفِ بِلَا أَلِفٍ ، وَقَرَأَهُ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ : عَاقَدْتُمْ بِأَلِفٍ بِوَزْنِ فَاعِلٍ ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ ، وَالتَّضْعِيفُ وَالْمُفَاعَلَة ُ : مَعْنَاهُمَا مُجَرَّدُ الْفِعْلِ بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ عَقَدْتُمْ بِلَا أَلِفٍ ، وَلَا تَضْعِيفٍ ، وَالْقِرَاءَاتُ يُبَيِّنُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَ " مَا " فِي قَوْلِهِ : بِمَا عَقَّدْتُمْ مَصْدَرِيَّةٌ عَلَى التَّحْقِيقِ لَا مَوْصُولَةٌ ، كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ زَاعِمًا أَنَّ ضَمِيرَ الرَّابِطِ مَحْذُوفٌ .
وَفِي الْمُرَادِ بِاللَّغْوِ فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ ، أَشْهَرُهَا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ اثْنَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّ اللَّغْوَ مَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِ الْإِنْسَانِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ ، كَقَوْلِهِ : " لَا وَاللَّهِ " وَ " بَلَى وَاللَّهِ " .
وَذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ : الشَّافِعِيُّ ، وَعَائِشَةُ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْن ِ عَنْهَا ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَعِكْرِمَةَ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَأَبِي صَالِحٍ ، وَالضَّحَّاكِ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، وَأَبِي قِلَابَةَ ، وَالزُّهْرِيِّ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ ، وَغَيْرُهُ .