نحو أسلوبية للرحمة في الخطاب القرآني
د·محمد إقبال عروي
إن مدلول الوصف الذي نعت به القرآن في القول المأثور: >لا تنقضي عجائبه<(1)، لا يتصور له حقيقة وتحقق إلا إذا شغل الإنسان طاقته التدبُّرية، وانتبه إلى أن التدبَّر في القرآن إنما هو خلق وفريضة عليه أن يأتيه كما يأتي سائر الأخلاق والفرائض، وكلما أقبل عليه المقبلون بقلوب متدبِّرة وعقول متأملة، أعطاهم من كنوزه ذخائر لا تنقضي، وسبحان الله الذي رتب الاهتداء إلى أسرار كتابه على حسب طاقة الناس التدبُّرية·
نماذج من الاطرادات الأسلوبية في الخطاب القرآني
لقد يسر الله لي نشر دراسة في موضوع: >الاطرادات الأسلوبية في الخطاب القرآني<(2)، ضمنتها مجموعة من النماذج تبرز كيف أن الخطاب القرآني يحرص على أن ترد بعض ألفاظه وتراكيبه على نسق واحد مطرد لا يتخلف·
وقد هدى التأمل في مخاطبات القرآن الكريم إلى الوقوف على نماذج أخرى نعرض لها في الفقرات التالية، وقد تم الاقتصار على النماذج التي من شأنها أن ترتفع بالبحث في مخاطبات القرآن إلى مستوى الكشف عن قانون مفاده أن رحمة الله في القرآن لا تنجلي فقط في وصفه لذاته أو ذكره لنعمه، أو مغفرته للمذنبين··· وإنما تظهر في المستوى الأسلوبي كذلك، بمعنى أن من خصائص الأسلوب القرآني أنه يجمع ويفرد، ويقدم ويؤخر، ويذكر ويحذف، ويكرر لمقاصد كثيرة من بينها إبراز رحمته الواسعة، وفي الفقرات المقبلة بيان ذلك:
اطرادات الجمع والأفراد
بعض الألفاظ ترد في القرآن الكريم مفردة وجمعاً، في حين يظل بعضها خاضعاً لصيغة واحدة·
ـ من ذلك لفظتا >الجنة والنار<، فإن الجنة ترد في الاستعمال القرآني مفردة وجمعاً، مثل قوله تعالى: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) البقرة:82، وقوله: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير) الحج:23، بخلاف لفظ >النار<، فإنه لم يرد في القرآن إلا مفرداً، مثل قوله تعالى: (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة) البقرة:24، وقوله: (وقال الذين اتَّبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار) البقرة:167·
ولعل من أسرار ذلك أن تتحرك قلوب الناس وعقولهم لإدراك رحمة الله الواسعة، ففي جمع لفظ >الجنة< إيحاء بالتنوع والتعدد والاختلاف، مما يجعل حواس الإنسان غارقة، حقيقة، في ذلك التنوع الذي يضم >ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر<(3)، وتلك صفات تستدعي الإيمان بنعم الله ورضاه ورحمته التي ينشرها على أصحاب الجنة مما يناسب جو رحمة الله الواسعة·
أما >النار<، فإن إفرادها، على ضوء الخطاب القرآني، يوحي بالأحادية، وفي ذلك الإيحاء تجلٍّ آخر من تجليات رحمة الله، إذ لم يجعل النار إلا واحدة، وذلك يعني أنه ليس الفضل في تعذيب أهل النار، وإنما هو العدل الإلهي الذي قامت عليه السموات والأرض·
ـ ومن ذلك لفظتا >الظلام والنور<، فإن الأولى وردت في القرآن جمعاً في جميع السياقات، مثل قوله تعالى: (الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) البقرة:257، وقوله: (قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور) الرعد:16، أما لفظ >النور<، فلم يرد في الاستعمال القرآني إلا مفرداً، مثل قوله تعالى: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) المائدة:15، وقوله: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون) الصف:8·
وهذا يشعر بأن للظلمات مصادر مختلفة، منها الشيطان، ومنها النفس، ومنها الطغاة وقادة السوء، بينما يظل النور أحادي المصدر مهما تعددت مجالاته ومستوياته، فهو آيل إلى مصدر واحد وهو نور الله المتمثل في الهداية القرآنية؟ يقول تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين) الزمر:22·
وهذا يعني أن القرآن لم يرد من المؤمنين أن يفتنوا بكثرة المصادر و>الأنوار<، أو يتيهوا في مسالك الاختلاف والفرقة حول هذا النور الذي يستحق أن يتبع من بين مجموع >الأنوار<، بل اقتضى عدله واستدعت رحمته أن يجعله نوراً واحداً، وهو ما يفسر ورود لفظ >النور< مفرداً في الاستعمال القرآني·
والغريب في الأمر أن كثيراً من المسلمين يغفلون عن سر هذا الإفراد، فالقرآن يريد من المؤمنين أن يكونوا على نور الله، وأن يتحدوا على منهاجه، والذي يحدث في أرض الواقع أن أهل الظلمات يتحدون ويندمجون ويتآزرون، مع أن مصادر ظلماتهم متعددة ومتباينة، في حين يختلف أهل الإيمان ويتصارعون ويعمر الشقاق بينهم، فيكون الفشل والتخلف مصيرهم، والخشية كبيرة من أن يرى العالم ذهاب ريحهم، مع أنهم ينتمون إلى نور واحد·
اطراد اقتران المغفرة بالتبعيض في خطاب الكافرين من دون خطاب المؤمنين
على المستوى التركيبي، يقع المتشابه في القرآن كثيراً، وبسبب تلك الكثرة، قد لا يلحظ القارئ للقرآن الفوارق الدقيقة التي توجد بين تركيب وآخر، وقد تدق الفروق لتنحصر في إضافة حرف أو إزالته، أو إيراد اللفظ معرفاً هنا ومنكراً هناك، أو في تقديم لفظ في سياق معين وتأخيره في سياق آخر·
ومن نماذج المتشابه الذي يكشف عن دقة اختيار اللفظ وصياغة التركيب في الخطاب القرآني ما يلاحظ في الآيات التي تضمنت جواباً عن شرط اشترطه الله على الناس، مؤمنهم وكافرهم، وفحوى ذلك الجواب وعد الله لهم بأن يغفر لهم ذنوبهم·
لقد هدى إحصاء تلك الآيات إلى أنه سنة، وهي:
1 ـ (قالت لهم رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم) إبراهيم:10·
2 ـ (يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم) الأحقاف:31·
3 ـ (قال يا قوم إني لكم نذير مبين· أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون· يغفر لكم من ذنوبكم) نوح: 2 ـ 4·
4 ـ (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم) آل عمران:31·
5 ـ (يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً· يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم) الأحزاب:71·
6 ـ (يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم· تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون· يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار) الصف: 10 ـ 12·
وبالتدبر في نصوص تلك الآيات وسياق ورودها، يصل المتدبر إلى استخلاص الملحوظات الذوقية التالية:
ـ وردت الآيات الثلاث الأولى في سياق خطاب الكفار والمكذبين، فقد جاءت الآية الأولى في سياق ذكر إعراض الكفار عن دعوة أنبيائهم وكفرهم برسالاتهم، والآية الثانية واردة في معرض استماع الجن لدعوة محمد صلى الله عليه وسلم، وعودتهم إلى قومهم منذرين، أما الآية الثالثة، ففي سياق دعوة نوح إلى قومه الكافرين·
ـ بخلاف ذلك، فإن الآيات الثلاث الأخيرة واردة في سياق خطاب المؤمنين، فمساق الآية الرابعة متصل بتحذير المؤمنين من اتخاذ الكفار أولياء، وإشعارهم بأن الله عليم بذات الصدور، والآية الخامسة واردة في سياق حض المؤمنين على التقوى وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وألا يكونوا مثل الذين آذوا موسى، وبالنسبة إلى الآية السادسة، فإن مطلعها يدل على أنها خطاب للمؤمنين من أجل معرفة التجارة الرابحة التي يريدها لهم المولى عز وجل·
ـ لقد ظهر، إذاً، وجود اختلاف في جهة الخطاب، إذ إن الآيات الثلاث الأولى تخاطب الكفار والمكذبين، بينما تخاطب الآيات الثلاث الأخيرة المؤمنين، وقد استدعى اختلاف المخاطبين حصول اختلاف دقيق في متعلق المغفرة ومشمولة، فالآيات الثلاث الأولى تجعل المغفرة متعلقة ببعضهم دون الكل، (يغفر لكم من ذنوبكم)، وهذا ما تفيده >من< التبعيضية، بينما تجعل الآيات الأخيرة المغفرة مستغرقة لجميع الذنوب، (يغفر لكم ذنوبكم)·
ولم يكن حرف >من< زائداً، وإنما له دلالة خاصة في هذا السياق، لأن مغفرة بعض الذنوب يشعر بأن المخاطبين، أي الكفار، لهم ذنوب كثيرة وعظيمة، وأن استجابتهم لنور الإيمان تنعكس بمغفرة بعض الذنوب دون بعض، لأن حياتهم في ظل الإيمان واستقامتهم على نهج التقوى كفيلان بأن يجعلاهم متمتعين بمغفرة بقية الذنوب·
أما بالنسبة إلى المؤمنين، فإن جزاء إيمانهم والتزامهم بمقتضيات الإيمان في حياتهم الخاصة والعامة هو أن يغفر لهم الله ذنوبهم جميعاً، مما يجعلهم يشعرون برحمة الله ونعمته، وأن الله ميَّزهم عن الكفار، إذ منحهم مشروعية الإحساس بأن ذنوبهم جميعها مغفورة بنص القرآن·
وقد تتبعت أقوال المفسرين في الموضوع، إلى أن عثرت، وأنا أنجز أطروحتي لنيل دكتوراه الدولة في علوم القرآن، في موضوع: >بديع القرآن: دراسة نقدية<، على التفاتة >الزمخشري< إلى هذا الاطراد في الاستعمال القرآني، لكنه لم يوسع الكلام فيه بما يشفي·
يقول: >فإن قيل ما معنى التبعيض في قوله: (يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم) إبراهيم:01، قلت: ما علمته جاء هكذا إلا في خطاب الكافرين، كقوله: (واتقوه وأطيعون· يغفر لكم من ذنوبكم) نوح: 3 ـ 4، وقال في خطاب المؤمنين: (هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم)، إلى أن قال: (يغفر لكم ذنوبكم) الصف: 10 ـ 12، وغير ذلك مما يقفك عليه الاستقراء، وكأن ذلك للتفريق بين الخطابين ولئلا يسوي بين الفريقين في الميعاد<·(4)
يتبع