قال الشيخ عبد الرحمن بن محمد ابن قاسم فى حاشية ثلاثة الأصول المتن:قال الامام محمد ابن عبد الوهاب
وَأَنْوَاعُ العِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا(1): مِثْلُ الإسْلاَمِ، وَالإيمَانِ، وَالإحْسَانِ(2)؛ وَمِنْهُ: الدُّعَاءُ، وَالخَوْفُ، وَالرَّجَاءُ، وَالتَّوَكُّلُ، وَالرَّغْبَةُ، وَالرَّهْبَةُ، وَالخُشُوعُ، وَالخَشْيَةُ، وَالإنَابَةُ، والاسْتِعَانَةُ ، والاسْتِعَاذَةُ ، والاسْتِغَاثَةُ ، وَالذَّبْحُ، وَالنَّذْرُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ(3) الَّتِي أَمَرَ الله بِهَا(4): كُلُّها لِلَّهِ تَعَالى(5).
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً} (6) .
فَمَنْ صَرَفَ مِنْها شَيْئاً لِغَيْرِ اللهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ كَافِرٌ(7).
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَـرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بهِ(8) فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ(9)
وَفِي الْحَدِيثِ: ((الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَةِ)) (10).
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ(11) إِنَّ الَّذيِنَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ(12) .
الحاشية :
(1) وَأَنْوَاعُ العِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا أيْ: وأَصْنافُ العِبَادَةِ، التي شَرَعَ اللَّهُ لعِبَادِهِ القِيَامَ بِهَا، وتَعَبَّدَهم بِهَا، والنَّوْعُ كلُّ ضَرْبٍ، أو صِنْفٍ مِن كلِّ شيءٍ، وهو أَخَصُّ مِن الجِنْسِ.
(2) مِثْلُ الإسْلاَمِ، وَالإيمَانِ، وَالإحْسَانِ مِثْلُ الشَّيْءِ: شَبِيهُهُ ونَظِيرُه، وهذه الثَّلاَثَةُ: أَعْلَى مَرَاتِبَ الدِّينِ، وأهمُّ أنواعِ العِبَادَةِ، فلذلك بَدَأَ بِهَا المُصَنِّفُ رَحِمَه اللَّهُ.
(3)وَمِنْهُ: الدُّعَاءُ، وَالخَوْفُ، وَالرَّجَاءُ، وَالتَّوَكُّلُ، وَالرَّغْبَةُ، وَالرَّهْبَةُ، وَالخُشُوعُ، وَالخَشْيَةُ، وَالإنَابَةُ، والاسْتِعَانَةُ ، والاسْتِعَاذَةُ ، والاسْتِغَاثَةُ ، وَالذَّبْحُ، وَالنَّذْرُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ يعني: أنَّ أَنْواعَ العِبَادَةِ، لَيْسَتْ مَخْصُوصَةً بهذه الأنْواعِ، ولاَ مَحْصُورَةً في هذه الأَنْواعِ، التي عَدَّهَا رَحِمَه اللَّهُ، بل هي أنواعٌ كثيرةٌ جدًّا.
(4) الَّتِي أَمَرَ الله بِهَا إشارةً إلى بعضِ حُدُودِها، عندَ بعضِ العُلَمَاءِ، أنَّها مَا أُمِرَ بِهِ شَرْعًا، مِن غيرِ اطِّرَادٍ عُرْفِيٍّ، ولا اقْتِضَاءٍ عَقْلِيٍّ.
وللعُلَمَاءِ فيها تَعَارِيفُ كَثِيرَةٌ، وأَحْسَنُ وأَجْمَعُ مَا عُرِّفتْ به، هو مَا عَرَّفَها بِهِ شيخُ الإسلامِ بقولِهِ: (اسمٌ جَامِعٌ لكلِّ مَا يُحِبُّه اللَّهُ ويَرْضَاهُ، مِن الأقوالِ والأعْمَالِ، الظَّاهِرَةِ والبَاطِنَةِ) وعَدَّ نحوًا مِمَّا عَدَّه المُصَنِّفُ، وهو مِن أَشْمَلِ مَا عُرِّفتْ به، فكلُّ فَرْدٍ مِن أَفْرَادِ العِبَادَةِ دَاخِلٌ تَحْتَ هذه العِبَارَةِ، فيَدْخُلُ فيها مَا ذُكِرَ، ويَدْخُلُ فيها مَا شَمِلَه الحَدُّ، فالعِبَادَةُ شَمِلَتْ جَمِيعَ أَنْواعِ الطَّاعَاتِ.
(5)كُلُّها لِلَّهِ تَعَال أيْ: كُلُّ جَمِيعِ أنْواعِ العِبَادَةِ، مِمَّا ذُكِرَ وغيرِه، للَّهِ وحدَه، لاَ يَصْلُحُ منه شَيْءٌ لغيرِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، لاَ لِمَلَكٍ مُقَرَّبٍ، ولاَ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، فَضْلاً عن غيرِهِمَا، ولاَ أَضَلَّ ولاَ أظْلَمَ مِمَّن يَجْعَلُ لِمَخْلُوقٍ مَرْبُوبٍ منها شَيْئًا.
(6)وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً} في المَساجِدِ تَفْسِيرَانِ:
أَحَدُهُما: أنَّها المَواضِعُ التي بُنِيَتْ لعِبَادَةِاللَّ هِ. فالْمَعْنَى أنَّها إنَّما بُنِيَتْ لعِبَادَةِ اللَّهِ وحْدَه، فَلاَ تَعْبُدُوا فيها غيرَه.
والثَّانِيَةُ: أنَّها الأَعْضَاءُ، التي خَلَقَها ليُسْجَدَ لَهُ عَلَيْهَا؛ وهي الوَجْهُ واليَدَانِ والرُّكْبَتَانِ والقَدَمانِ، فَلاَ يُسْجَدُ بِهَا لِغَيْرِه.
و (أَحَدًا) كَلِمَةٌ شَامِلَةٌ عَامَّةٌ، نَكِرَةٌ في سِياقِ النَّهْيِ، شَمِلَت المَلاَئِكَةَ، والأنْبِيَاءَ والأَوْلِيَاءَ والصَّالِحِينَ وغَيْرَهم، فَلاَ يُدْعَى مَعَ اللَّهِ أَحَدٌ مِن المَلاَئِكَةِ، ولاَ الأنْبِيَاءِ، ولاَ الصَّالِحِينَ، ولاَ غيرِهم، فَقَدْ شَمِلَتْ جَمِيعَ الخَلْقِ.
(7) فَمَنْ صَرَفَ مِنْها شَيْئاً لِغَيْرِ اللهِ فَهُوَ مُشْرِكٌ كَافِرٌ أيْ: مِمَّن صَرَفَ شيئًا مِن أنواعِ العِبَادَةِ، التي ذَكَرَ المُصَنِّفُ رَحِمَه اللَّهُ تَعَالَى، مثلَ: أنْ دَعَا غَيْرَ اللَّهِ، مِن الأَمْواتِ والغَائِبِينَ، أَوْ رَجَاهُم، أَوْ خَافَهُم، أو سَأَلَهُم قَضَاءَ الحَاجَاتِ، وتَفْرِيجَ الكُرُباتِ، وإِغَاثَةَ اللَّهَفَاتِ، أو غَيْرَ ذلك، فهو مُشْرِكٌ الشِّرْكَ الأَكْبَرَ المُخْرِجَ مِن المِلَّةِ، كَافِرٌ الكُفْرَ الأَكْبَرَ المُخْرِجَ مِن المِلَّةِ.
والشِّرْكُ والكُفْرُ: قَدْ يُطْلَقَانِ بِمَعْنًى واحِدٍ وهو الكُفْرُ باللَّهِ، واسْمٌ لِمَن لاَ إِيمَانَ لَهُ، وقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُما، فيُخَصُّ الشِّرْكُ بِقَصْدِ الأَوْثَانِ، وغَيْرِها مِن المَخْلُوقَاتِ، مَعَ الاعْتِرَافِ باللَّهِ، فيَكُونُ الكُفْرُ أَعَمَّ.
(8) وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَـرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بهِ أي: ومَن أَشْرَكَ باللَّهِ، لاَ حُجَّةَ لَهُ ولاَ بَيِّنَةَ؛ لأَِنَّه لاَ حُجَّةَ لأَِحَدٍ في دَعْوَى الشِّرْكِ، و{لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} صِفَةٌ أُخْرَى لـ {إِلَهًا} لاَزِمَةٌ لَهُ، جِيءَ بِهَا للتَّأْكِيدِ، أو جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الشَّرْطِ والجَزَاءِ.
(9)فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ أي: اللَّهُ يُحَاسِبُه عَلَى ذلك، فيُجَازِيه بِمَا يَسْتَحِقُّه عَلَى شِرْكِه، ثُمَّ أَخْبَرَ أنَّه لاَ يُفْلِحُ الكَافِرُونَ، فَسَمَّاهم كَافِرِينَ، لدُعَائِهِم مَعَ اللَّهِ غيرَه، ولاَ يُنَازِعُ مُسْلِمٌ في كُفْرِ مَن دَعَا مَعَ اللَّهِ غَيْرَه.
وفي الآيةِ أَوْضَحُ برهانٍ عَلَى كُفْرِ مَن دَعَا مَعَ اللَّهِ غيرَه، سَوَاءٌ كَانَ المَدْعُوُّ مَلَكًا، أو نَبِيًّا، أو شَجَرَةً، أو قَبْرًا، أو جِنِّيًّا.
(10) وَفِي الْحَدِيثِ: ((الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَةِ)) هذا شُرُوعٌ في ذِكْرِ أَدِلَّةِ أَنْواعِ العِبَادَةِ التي عَدَّها مُجْمَلَةً، فَأَمَّا الإِسْلاَمُ، والإيمانُ، والإِحْسَانُ، فسيَأْتِي مُفَصَّلاً في الأَصْلِ الثَّانِي.
وبَدَأَ بعدَها بالدُّعَاءِ؛ لأَِنَّه أَهَمُّها، فَقَالَ: وفي الحديثِ، يعني عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادَةِ)) ومُخُّ الشَّيْءِ: خَالِصُه، وفي لفظٍ: ((الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ)) وأَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه بِضَمِيرِ الفَصْلِ والخَبَرِ المُعَرَّفِ بالأَلِفِ واللاَّمِ ليَدُلَّ عَلَى الحَصْرِ، وأنَّ العِبَادَةَ ليست غَيْرَ الدُّعاءِ، أو إنَّما هي الدُّعَاءُ نَفْسُه.
ثُمَّ الدُّعَاءُ نَوْعَانِ:
- دُعاءُ مَسْأَلَةٍ، وهو: طَلَبُ مَا يَنْفَعُ الدَّاعِيَ، مِن جَلْبِ نَفْعٍ أو دَفْعِ ضُرٍّ.
والنَّوْعُ الثَّانِي: دُعاءُ عِبَادَةٍ، بأيِّ نَوْعٍ مِن أَنْواعِ العِبَادَةِ، وهو: مَا لَمْ يَكُنْ فيه سُؤَالٌ، ولاَ طَلَبٌ.
وهذا الحديثُ جَاءَ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْرُونًا بالآيةِ.
(11) وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ أَمَرَ تَعَالَى عِبَادَه أنْ يَدْعُوهُ، ووَعَدَهُم أنْ يَسْتَجِيبَ لَهُم، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ، بل هو أَجَلُّ العِبَادَاتِ، وأَسَاسُها.
ودَلَّ عَلَى أنَّه سُبْحَانَه: يُحِبُّ مِن عِبَادِه أنْ يَدْعُوه، وأَنَّ الدُّعَاءَ مِمَّا يُحِبُّه اللَّهُ، وفي الحَدِيثِ: ((مَنْ لَمْ يَدْعُ اللَّهَ))، وفي روايةٍ: ((مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ)).
(12) إِنَّ الَّذيِنَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ سَمَّى الدُّعَاءَ عِبَادَةً، وجَاءَ فِي القُرْآنِ في غيرِ مَوْضِعٍ: أنَّه عِبَادَةٌ، فَصَرْفُه لغَيْرِ اللَّهِ شرْكٌ أَكْبَرُ، وأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الذي مَنَعَهم مِن عِبَادَةِ اللَّهِ، هو: الاسْتِكْبَارُ، فجُوزُوا بِهَذا الجَزَاءِ الفَظِيعِ، وهو دُخُولُهُم جَهَنَّمَ، صَاغِرِينَ ذَلِيلِينَ حَقِيرِينَ، عُقُوبَةً لَهُم عَلَى مَا تَرَكُوه مِن عِبَادَةِ اللَّهِ، التي فَرَضَها عَلَيْهِم.