“الحضارة الإسلامية-المسيحية”.. قراءة في مفهوم جديد
تامر عبد الوهاب
“الحضارة الإسلامية-المسيحية”.. مفهوم جديد قدمه ريتشارد بوليت أستاذ التاريخ بجامعة كولومبيا وعضو جمعية الدراسات الشرق الأوسطية Middle East Studies Association، والذي شغل منصب السكرتير التنفيذي لها في الفترة بين 1977 و1981 في كتاب متوسط الحجم صدر تحت هذا العنوان في عام 2004 عن دار النشر لجامعة كولومبيا بالولايات المتحدة والتي يدرس فيها المؤلف التاريخ الإسلامي في العصر الوسيط. ويهدف الكتاب لصياغة وبلورة رؤية مختلفة تناهض فكرة صراع الحضارات لصامويل هنتنجتون. والفكرة خلف المفهوم مفادها أنه على الرغم من طابع العداء الذي غالبا ما فرق بين الإسلام والغرب، فإن لديهما جذور مشتركة ويقتسمان جانبا كبيرا من تاريخهما. فالمواجهة الحالية بين الإسلام والغرب لا تعود إلى اختلافات أساسية بينهما، وإنما إلى إصرار قديم ومتعمد على إنكار صلة القرابة فيما بينهما. وتستند مقولات الكاتب في دفاعه عن تلك الفكرة وتأسيسه لها إلى المحاور التالية: – المشتركات بدلا من المواجهة والصدام – لماذا مفهوم “الحضارة الإسلامية-المسيحية” – من فهم الماضي ..إلى استشراف المستقبل.
المشتركات بدلا من المواجهة والصدام
بدأت فكرة صياغة هذا المصطلح بمقال كتبه بوليت عام 1970، ثم نمت مع إدراك أن عودة الإسلام كقوة سياسية لم يكن فقط أبرز التطورات المعاصرة في العالم الإسلامي، وإنما كان وراء تلك العودة أسباب تاريخية واضحة وضرورية في الواقع. وقد أكد قيام الثورة الإسلامية بعد بضعة أعوام وجود تلك الخلفيات، ومنذ ذلك الوقت وهو مهتم غاية الاهتمام بالسياسة في العالم الإسلامي.
ومن اللافت أن الأوساط الأكاديمية الغربية استقبلت هذا الكتاب بتجاهل شديد وتهميش في حين كانت النقاشات محتدمة حول فكرة “صدام الحضارات” التي أطلقها بروفسور جامعة هارفارد صمويل هنتنجتون كعنوان لمقالته بمجلة فورين أفيرز Foreign Affairs عام 1993. إذ سرعان ما انبرى آنذاك الخبراء والأكاديميون في تنظيم صفوفهم بين مؤيد ومعارض لتلك العبارة ، مؤسسين أرائهم في الغالب على الجانب البلاغي للعنوان دون الخصوصيات التي انطوى عليها زعم هنتنجتون. إن هنتنجتون، بإشهاره لهذه العبارة في لحظه مواتية وتحت رعاية فكرية وأكاديمية، قام بإحداث تحول في خطاب المواجهة مع الشرق الأوسط والعالم الإسلامي. ومفاد هذا التحول أن صارت المعادلة الجديدة للمواجهة ذات أبعاد كونية: الدين الإسلامي، وبمعنى أدق الأمة الإسلامية العالمية التي تعتنق ذلك الدين، ضد الثقافة الغربية المعاصرة بظلالها المسيحية واليهودية ونزعتها الإنسانية العلمانية. فكيف لعبارة تم اختيارها جيدا أن تتحدى مدركات الواقع بهذا القدر من السرعة والحسم؟
إن الأمانة تقتضي منا الاعتراف بأن هنتنجتون لا يحدد أفكارا دينية معينة في “الحضارة الإسلامية“، التي يرى أنها جُبلت على الاصطدام بالغرب في القرن الحادي والعشرين. فأطروحته تركز على مقارنة “حضارة غربية” مثالية تقوم على الديمقراطية وحقوق الإنسان والاقتصاد الحر والعولمة، في مقابل أخرى ذات هياكل اقتصادية واجتماعية وسياسية في مناطق أخرى من العالم يرى هنتنجتون أنها غير موائمة، ومناوئة، وعاجزة عن التطور. هذا المنحى من الفكر لا يختلف كثيرا عن النظريات التي أخذت على عاتقها تفسير التقدم الكوني باتجاه الحداثة، ممثلة في الغرب المعاصر، وحظيت بشعبية طيلة الربع قرن التالية على الحرب العالمية الثانية. لكن هنتنجتون يصحح أحد أوجه القصور الذي انطوت عليه نظريات “التحديث” المبكرة تلك. ففي الخمسينيات والستينيات اتفق عموم المُنَظِرُونْ على أن التحديث سوف يلقي بالدين في دائرة اللامهم بالنسبة لمجال الشئون العامة. إلا أن موجة الإسلام السياسي الحركي، الذي بلغ ذروته الأولى مع الثورة الإيرانية عام 1979، أظهرت خواء تلك التنبؤات، وهو ما أفسح المجال أمام هنتنجتون لإعادة تقديم العامل الديني في مصطلح خالٍ من التأسيس الديني، لكن ضمن إطار أكثر تشاؤما وصراعية للتطورات المستقبلية للعلاقة بين الإسلام والغرب.
وفيما عدا المسيحيون الإنجيليون منهم، لن يوافق المتحيزون لمقولة هنتنجتون رؤية ماثيوس في كل تفاصيلها. فماثيوس، باعتباره من رجال التبشير، سيعبر عن اعتقاده الصلب في أن البروتستانتية يمكنها أن تقوم بدور مايسميه، “الصوت الذي سيمنح ] الشباب المسلم [ الكلمة الكبرى لينعموا بحياتهم الشخصية وليقيموا نظاما جديدا للحياة في بلادهم.” أضف إلى ذلك أنه كان ناقدا للغرب، وكان في نقده صدى غريب لبعض الأصوات المنادية بالصحوة الإسلامية، وهو ما يدفعنا لافتراض أن يكون لذلك النوع من النقد جذور في بقاع أخرى غير أراضي المسلمين. تفصح الفقرات التالية عن مضمون رؤية ماثيوس في هذا الصدد، حيث استطرد قائلا: “لن تتمكن الحضارة الغربية أبدا من قيادتهم نحو ذلك الهدف، فهي مهووسة بالغنى المادي، مترهلة بالفائض الصناعي، سكيرة بمعجزات التقدم العلمي فيها، عمياء البصيرة عن غنى عالم الروح”.
لقد أصاب هنتنجتون الوتر الحساس بإعادة صك عبارة “صدام الحضارات“، ونجح في الإمساك بتلابيب منظومة المشاعر المختلجة والمتوقة إلى شعار يجسدها منذ أن أطاح الخوميني بعرش الشاه. ففي ذلك الوقت، ظهرت عبارات من على شاكلة “هلال الأزمات”، “قوس عدم الاستقرار”، “الثورة الإسلامية”، لكن لم يحالف النجاح كليا أي منها. ووقتئذٍ، لم يكن ثمة كثير من الجدل، على الأقل فيما يخص الغموض المحيط بموضعة مكنون السياسة الخارجية، فقد كان هناك اتفاق حول ماهية الشيء الذي احتاج إلى تسمية، لكن التعبير عنه في عبارة واحدة كان أمرا بالغ الصعوبة. وهكذا أمسكت عبارة “صدام الحضارات” بزمام ذلك الخيال الماثل في الأذهان، وبتلابيب الجدل حول الإٍسلام والغرب، وذلك كونها قد اتصفت بالديناميكية والتفاعلية والبساطة في مقاربة هنتنجتون للتعريفات والحدود المفاهيمية الواهية، وأيضا لعدم ظاهرية طابع العنصرية والتعصب الأعمى فيها الذي اختفى بمهارة خلف رصانة علمية لأستاذ له احترام ومكانة، فضلا عن طابعها الهيجيلي الغامض والمتمثل في العمق الظاهري لموازنتها الجدلية بين الخير والشر. وبالإضافة لما سبق، فقد ساهم في حسم عبارة “صدام الحضارات” المنافسة لصالحها، تلك الحظوة الرفيعة لواضعها كأحد علماء السياسة البارزين، وحصافة الرؤية التي تشتهر بها سمعة مجلة “فورين أفيرز” لدى عموم قرائها.
لكن تلك الجاذبية الخارجية، التي حظيت بها العبارة، تستبطن الزعم بأن الحضارات التي جُبلت على الصدام فيما بين بعضها البعض لا يمكنها التماس في مستقبل مشترك. وبذلك يمسي الإسلام لدى هنتنجتون لا خلاص له. ذلكم قدر الإسلام، جفت الأقلام وطويت الصحف.
في المقابل نجد أنه منذ الخمسينيات فصاعدا، ومع تكشف واقع الهولوكوست وتجلي العواقب الوخيمة للعداء الأوروبي للسامية، أخذ مصطلح “الحضارة اليهودية-المسيحية” “Judeo-Christian Civilization” في الظهور تدريجيا من مجرد خلفية فلسفية غامضة – عندما استخدم نيتشه تعبير “اليهودية- المسيحية” باستهزاء في كتابه المسيخ الدجال The Antichrist ليصف سقطات المجتمع- حتى أصبح هذا التعبير الإطار النظري لشعور جديد بالاستيعاب تجاه اليهود، وللتبرؤ المسيحي الكوني من البربرية النازية.
ويرى بوليت أن القبول غير المشروط لعبارة “الحضارة اليهودية-المسيحية” كمرادف لعبارة “الحضارة الغربية” يكشف بجلاء عن أن التاريخ ليس قدرا حتميا. فلا يمكن لأحد، حتى من ذوي المعرفة الضحلة بعلاقات المسيحيين واليهود في الألفيتين السابقتين، أن يفوته مقدار الاستخفاف في وصل جماعتين دينيتين بمصطلح واحد رغم أنهما ولا ريب لم يجتمعا سويا في الأغلب.
قد يزعم البعض بأن مصطلح الحضارة اليهودية – المسيحية صالح، مشيرا في ذلك إلى الجذور التوراتية المشتركة، واقتسام الاهتمامات اللاهوتية، والتفاعل المستمر على المستوى الاجتماعي، والإسهامات المتبادلة لتكوين ما أصبح في العصور الحديثة سياجا مشتركا للفكر والشعور، الأمر الذي يعطي للمجتمعات اليورو-أمريكية صبغة مسيحية ويهودية وأرضية صلبة للإعلان عن تضامنها الحضاري. لكن الروابط الكتابية والعقيدية فيما بين اليهودية والمسيحية ليست بأمتن من نظيراتها فيما بين اليهودية والإسلام أو بين المسيحية والإسلام، والمؤرخون على علم واف بالإسهامات العديدة للمفكرين المسلمين في إثراء المرحلة المتأخرة من العصور الوسطى بالتفكير العلمي والفلسفي الذي بنى عليه لاحقا الأوروبيون المسيحيون واليهود لإنشاء الغرب الحديث. وفضلا عن ذلك، لم يكن ثمة ما يعوق الاتصال بين الإسلام والغرب. فبغض النظر عن فترات الحروب بين الجانبين، أقام التجار الأوروبيون على مدى قرون تجارة نشطة مع المسلمين عبر السواحل الجنوبية والشرقية للبحر المتوسط؛ كما امتلأ الخيال الأوروبي لفترة طويلة بقصص عن البربر وعن المسلمين المناهضين للحملات الصليبية، وعن الخيال الشرقي. وعلى المستوى السياسي، فإن أربعة عشر دولة من دول أوروبا التي تضم اليوم أربعة وثلاثين دولة كانت واقعة كليا أو جزئيا تحت الحكم الإسلامي لفترات تصل إلى قرن من الزمان أو يزيد. لكن أحيانا ما يصف المؤرخون بهذه البلدان فترات الحكم الإسلامي بأنها فترات شاذة أو فجوات لا مبرر لها في ماضٍ مسيحي كان من المفترض له أن يكون متصلا، أو بأنها مسلسل وخيم من قمع لا يلين، وغالبا ما يجري الاستشهاد على ذلك بعدد وافر من الأمثلة. لكن الحقيقة أن معظم الناس الذين عاشوا تحت الحكم الإسلامي تطبعوا على الفكرة وعلى الإطلالة الثقافية التي صاحبتها، وعاشوا حياة مسالمة.
ويرى بوليت أن الإصرار الحالي على وجود اختلافات عميقة بين الإسلام والغرب، كتلك التي يسميها هنتنجتون “اختلافات حضارية”، يحيي عاطفة عداء قديمة للإسلام جذورها سياسية وليست حضارية. وتظل الأحداث المأساوية تستحث ذلك الإحياء. وترددت في خلفيتها أصداء الصدامات التاريخية الثلاث الكبرى:استرداد القدس على يد صلاح الدين عام 1187، وسقوط القسطنطينية البيزنطية في يد العثمانيين عام 1453، وحصار الأتراك الناجح لفيينا عام 1529. فكل حادثة من تلك الحوادث كانت تحمل في طياتها هواجس مرعبة بشأن ما يمكن أن يسفر عن فرض المسلمين لسيطرتهم على نطاق أوسع. وقد عبر المؤرخ ادوارد جيبون، في القرن الثامن عشر، عن تلك الهواجس بصورة كلاسيكية في مناقشته لما كان من الممكن أن يحدث لو أن فريقا من المسلمين من اسبانيا لم يهزم على يد تشارلز مارتل في معركة الطورس عام 732. كتب جيبون “ربما كان سيجري الآن تدريس تفسير القرآن في مدارس أكسفورد، وقد كان يمكن أن يدرس لتلاميذ هذه المدارس قدسية وحقيقة الوحي المحمدي”.
ولحسن الحظ أنه في ظل مشاعر العداء التاريخي تلك ، لم يكن هناك سوى بضع مسلمين يقيمون على الأراضي الأوروبية. وبالمقارنة، كان حظ اليهود عسرا عندما اتجه مؤشر الحذر المسيحي إليهم، وقد تكرر ذلك لمرات عديدة، بما فيها حادثة الموت الأسود Black Death الواقعة بين عامي 1348-1349. “ففيما يخص تلك الكارثة، فقد لُعِنَ اليهودُ في شتى أرجاء العالم واتُهِموا أينما حلوا بارتكابها بواسطة السم، الذي قيل أنهم ألقوا به في الماء وفي الآبار، ولهذا السبب أُحْرِقَ اليهودُ على طول الطريق من البحر المتوسط وحتى ألمانيا.”
لكن العصور الوسطى انقضت، وهناك أقليات مسلمة كبيرة تقيم وتعمل في كل بلاد العالم تقريبا، بما فيها كل البلدان الأوروبية والولايات المتحدة وكندا. لذلك فإن بوليت يرى أن احتمال وقوع مأساة من جراء التعصب الغربي والإسلاموفوبيا الحالية يجب أن يجعل الغرب على حذر من المعادلات البسيطة التي من الممكن أن تجزئ مجتمعاته إلى معسكرات متعادية.
إن السؤال الماثل في وجه الولايات المتحدة هو: هل من الضروري أن تصبح مأساة الحادي عشر من سبتمبر مناسبة للاستغراق في الإسلاموفوبيا المتجسدة في مصطلحات من على شاكلة “صدام الحضارات”، أم نجعلها مناسبة لتوكيد مبدأ الاستيعاب الذي يمثل أفضل ما في التقاليد الأمريكية؟.
لماذا مفهوم “الحضارة الإسلامية-المسيحية” ؟
مبلغ علمنا أنه ما من أحد أقدم من قبل على استخدام مصطلح “الحضارة الإسلامية-المسيحية”.
ويوضح بوليت لماذا لم يضع المصطلح في هيئة “الحضارة الإسلامية-اليهودية-المسيحية”؟ وتتلخص الإجابة في أن تلك العبارة قد تكون مقبولة إذا ما كان البحث عن مصطلح يبرز التقاليد الكتابية المشتركة بين هذه الأديان الثلاثة. وهناك من المصطلحات الموجودة ما يفي بذلك الغرض تماما، مثل “الديانات الإبراهيمية”، “أبناء إبراهيم”، و”الديانات السامية”، لكن ما يحاول توصيله من خلال المصطلح المقترح شيء مختلف. فما يعنيه هنا هو الأسس التاريخية للتفكير بشأن مجتمع المسيحيين في أوروبا الغربية – وليس كل المسيحيين في كل مكان- ومجتمع المسلمين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – وليس كل المسلمين في كل مكان- باعتبارهما ينتميان إلى حضارة تاريخية واحدة تتجاوز في معطياتها موضوع التقاليد الكتابية السماوية. هذه العلاقة الإسلامية-المسيحية التاريخية تختلف بصورة ملحوظة عن العلاقة اليهودية-المسيحية التاريخية التي تبدو مختفية في عبارة “الحضارة اليهودية-المسيحية” أكثر مما تبدو محتفى بها. فالمسيحيون واليهود الأوروبيون (لاحظ أن مجال مصطلح الحضارة اليهودية -المسيحية لا يتسع ليضم يهود اليمن ومسيحي إثيوبيا) لديهما تاريخ من العيش المشترك ذو طابع مأسوي، وغير بناء في الغالب، بلغ ذروته مع أحداث الهولوكوست الرهيبة. أما التعايش المشترك بين المسلمين ومسيحي أوروبا الغربية فبعيد تماما عن أن يكون بهذه الحدة. وخلافا للقسمة غير العادلة على مستوى المجال الاجتماعي والسياسي والمالي، والتي وصمت العلاقة اليهودية-المسيحية بأوروبا، والتي ليس من الممكن مقارنتها حتى بالعلاقة الإسلامية-اليهودية التاريخية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإن مصطلح “الحضارة الإسلامية-المسيحية” يلفت الانتباه إلى توأمة محتومة وطويلة الأمد بين مجتمعات متصاهرة تنعم بسيادتها داخل أقاليم جغرافية متجاورة وتتبع مسارات تاريخية متشابهة. فالمسار التاريخي لأي من المسلمين أو المسيحيين لا يمكن فهمه كلية دون الأخذ في الاعتبار علاقة أحدهما بالآخر. وفيما يجد تعبير “الحضارة اليهودية-المسيحية” جذوره التاريخية الخاصة داخل أوروبا وكان مجيئه استجابة للكوارث التي شهدتها هذه العلاقة في القرنين الماضيين، فإن تعبير “الحضارة الإسلامية-المسيحية” له جذور تاريخية وجغرافية مختلفة ويحمل انعكاسات مختلفة لهواجسنا الحضارية المعاصرة.
ويختلف هذا المضمون عن مصطلح مثل “الحضارة البيزنطية-الإسلامية” الذي يربط بين الإسلام والمسيحية الأرثوذوكسية. فبينما أصاب المسيحيون اللاتينيون خارج إسبانيا قدرا قليلا من الخبرة المباشرة بمجتمع المسلمين، عاش العديد من المسيحيين الأرثوذكس لقرون في ظروف مساواة بأراضي المسلمين. وفيما قل اتصال المفكرين المسلمين بالحياة الفكرية في أوروبا الغربية، فقد بنوا بكثافة على التراث اليوناني الذي عُنى المسيحيون الأرثوذكس بحفظه. حتى إذا أهلت العصور الحديثة، كانت الجاليات المسيحية بالشرق على تنوعها تحمل تجاه الإسلام توجهات مختلفة تماما عن تلك التي حملتها أوروبا الغربية تجاهه.
وقبل أن يطرح بوليت الأسس الداعمة لمصطلح “الحضارة الإسلامية-المسيحية”، يوضح أن استعمال هذا المصطلح مضاد من الناحية التعريفية لتعبير “صدام الحضارات” لهنتنجتون. فأولا لو تصورنا المجتمعات الإسلامية بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا والمجتمعات المسيحية بأوربا الغربية وأمريكا ينتميان إلى نفس الحضارة، فإن الصراعات بين الطرفين المؤسسين لتلك الحضارة الواحدة ستكون ذات طابع داخلي، وتشبه من الناحية التاريخية صراعات الماضي بين الكاثوليكية والبروتستانتية. وأيا ما يكون مستوى العداء بين طرفي الصراع،فإن فرضية الميراث المشترك عندئذٍ ستقف حائلا دون النظر إلى الطرفين باعتبارهما حضارتين مختلفتين، وبالتالي يكون من السهل تصور حدوث صلح وتوافق بينهما في النهاية بدلا من تصور حتمية الصراع.
ثانيا، مع استخدام مصطلح “الحضارة الإسلامية-المسيحية”، فإن التساؤلات الدائرة حاليا حول قدرة المسلمين على الارتقاء لمستوى الحضارة الغربية ، أو لمستوى الحضارة بصفة عامة، ستصبح غير ذات موضوع. فالنقاد الغربيون للإسلام يطرحون بإصرار تساؤلات مثل: هل يتفق الإسلام مع المعايير الغربية في المساواة بين الجنسين؟ وماذا عن حقوق الإنسان؟ فمثل هذه الأسئلة التي لا هم لها سوى التنقيب عما يعتبره البعض نقائص الإسلام، لا يمكن أخذها بجدية في ضوء تجاهلها العمدي للفشل البين لمعظم المجتمعات الأوروبية، التي لم يجاوز عمرها المائتي عام، في بلوغ ذات المعايير.
وهكذا لا يقف المسلمون جميعا على اختلافهم وتنوعهم في موقف “الآخر”، ليس لشيء سوى انتمائهم الديني.
وفي نظر بوليت فالحائل الذي يعترض طريق التأطير المفاهيمي لمقولة “الحضارة الإسلامية-المسيحية”، عبارة عن رؤية مهيمنة للتاريخ تتأسس على الخوف والتعصب الديني الممتد بطول أربعة عشر قرنا، هذا بالطبع فضلا عن الاعتقاد السائد حاليا بين العديد من الغربيين بوجود “خطأ ما” في الإسلام. لذلك فبقدر الإحكام في إعادة كتابة تاريخ القرون الأربعة عشر الماضية بحيث يعكس وجود حضارة إسلامية-مسيحية مشتركة، فسوف ييسر ذلك تحليل الأحداث الأخيرة بالشرق الأوسط وأزمة السلطة الحالية داخل الإسلام ووضعها في حجمها الحقيقي.
ولعل أبرز الاعتراضات التي تبدو وكأنها تحول دون ربط تاريخ المسلمين بتاريخ المسيحيين اللاتينيين:
التعارض الزمني: فقد جاءت دعوة محمد بعد المسيح بسبعمائة عام.
العداء المتأصل: هاجم المسلمون المسيحيين بصفة متكررة، وأبدوا تجاههم عداوة لاتنقضي.
الخبرة المسيحية: المسيحيون الذين تصدوا للإسلام على مر العصور لم ينظروا أبدا للمسلمين إلا باعتبارهم قوى أجنبية معادية.
التعارض الكتابي: الروايات العديدة الواردة في كل من القرآن والإنجيل غير دقيقة أو في نظر اللاهوتيين المسيحيين مزيفة في نسختها القرآنية.
إنكار الحقيقة الإلهية: اعتراف الإسلام بإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد كرسل للرب يقف دون توكيد الطبيعة الإلهية للمسيح.
الجحود: لم يقر الإسلام أبدا بأنه مدين بعقيدته لليهودية والمسيحية، ولم يتقبلهم مطلقا باعتبارهما الديانتين الأم (وبالتالي الأجدر على الإتباع).
يتبع