محنة الإمام أحمد بن حنبل
الكاتب: شريف عبدالعزيز الزهيري.
أن هذه المحنة التي وقعت عامة بأرض الإسلام لم يصمد فيها سوى الإمام أحمد، وقد تداول ثلاثة خلفاء يسلطون عليه من شرق الأرض إلى غربها، ومعهم من العلماء المتكلمين والقضاة والوزراء والأمراء والولاة والقادة العسكريين فبعضهم يسلط عليه بالحبس، وبعضهم بالتهديد والوعيد بالقتل، وبعضهم جلده وعذبه وألقاه في غياهب السجون، وبعضهم بالنفي والتشريد والمطاردة..
بين يدي المحنة:
في بداية الحديث عن تاريخ المحن التي تعرض علماء الأمة لها، لا يسعنا إلا أن نبدأ الحديث بأشد هذه المحن، وأعظمها وأخطارها، ألا وهي محنة القول بخلق القرآن؛ والتي تعرض لها الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله؛ وهي المحنة التي تأتي على رأس قائمة المحن التي تعرض لها علماء الأمة الربانيين، وعلى الرغم من وجود العديد من المحن الشديدة، والتي تعرض لها كبار علماء الأمة، إلا أننا آثرنا أن نبدأ الحديث بهذه المحنة العاتية.
وذلك لعدة أسباب:
1- أن هذه المحنة كانت في باب العقيدة: أي في صميم الأمة، وفي أصل قوتها، ومصدر عزتها، وكان أهل الاعتزال من وراء هذه المحنة والفتنة.
2- أن الدولة بكافة أجهزتها ورجالها وقوتها كانت تدعم هذه المحنة، حيث استطاع بعض أهل الاعتزال: مثل بشر المريسي، وأحمد بن أبي دؤاد وغيرهما خداع ثلاثة خلفاء عباسيين متتاليين،
وهم: المأمون، ثم المعتصم، ثم الواثق، وإقناعهم بتبني عقيدة الاعتزال الضالة، والمليئة بالبدع الغليظة، وليس فقط مجرد التبني والاعتناق، ولكن إجبار الناس على ذلك الضلال ولو بالقوة، وبحد السلطة التي لا تطيق عادة أن تخالف، أو يتعدى سلطانها أي أحد مهما كانت مكانته وعلمه.
3- أن هذه المحنة العاتية لم تكن خاصة بالإمام أحمد وحده وإن كان قد تحمل عبئها الأكبر وحده بل كانت محنة عامة، وفتنة شاملة، طالت الكبير والصغير، والعالم والعامي، والأحرار والعبيد، حتى الأسارى عند الأعداء كانوا يمتنحون على القول بخلق القرآن: فإن أجابوا، وإلا تركوا رهن الأسر عند العدو، ولا تفتديهم الدولة.
4- أن هذه المحنة لما وقعت لم يصمد فيها سوى الإمام أحمد بن حنبل، أما باقي العلماء فأغلبهم قد أجاب فيها خوفًا أو كرهًا، ومن صمد أمام الفتنة ولم يجب مات تحت التعذيب، وفي سجون المبتدعة مثل: البويطي ومحمد بن نوح، ونعيم بن حماد، وكان صمود الإمام أحمد أعظم فصول هذه المحنة، وسبب تقدمه وشهرته، ورفع ذكره، حتى صارت الإمامة مقرونة باسمه في لسان كل أحد؛ فيقال: قال الإمام أحمد، وهذا مذهب الإمام أحمد، ولو قدر الله عز وجل ولم يصمد الإمام أحمد في هذه المحنة لضل خلق كثير، ولربما الأمة كلها، والله اعلم.
لذلك قال المزني رحمه الله: عصم الله الأمة بأبي بكر يوم الردة، وبأحمد بن حنبل يوم المحنة.
التعريف به:
هو الإمام حقًّا، وشيخ الإسلام صدقًا، وإمام أهل السنة، الفقيه المحدث، والعلم الجبل، وركن الدين، وإمام المسلمين، وصاحب رابع المذاهب الفقهية المتبوعة: الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، أحد كبار أئمة الإسلام وُلد في ربيع الأول سنة 1614هـ بمرو في إقليم خراسان، وقد مات أبوه وهو جنين في بطن أمه، فتحولت به إلى بغداد، وطلب العلم وهو في سن الخامسة عشرة، أي سنة 179هـ، أي في نفس العام الذي توفي فيه الإمام مالك، وعني بطلب الحديث، وبرع فيه للغاية، وطاف الأقاليم، وجمع الحديث من الثقات الأعلام، وتفرغ لطلب العلم، وجمع الأحاديث حتى إنه لم يتزوج إلا بعد الأربعين، حتى بلغ عدد مروياته من الأحاديث، والآثار ألف ألف حديث، كما قال ذلك الحافظ أبو زرعة، حتى عدوه من أحفظ علماء الإسلام قاطبة.
خصاله:
♦كان الإمام أحمد موصوفًا بالكمال من الرجال، فلقد كان أهلا بخصاله وأخلاقه وشمائله الجمة أن يصمد في وجه هذه المحنة الهائلة؛ فلقد كان على طراز علماء الأمة الربانيين الذين كمل حالهم في العلم والعمل؛ فلقد كان عابدًا ناسكًا، ورعًا تقيًا نقيًا، خالصًا مخلصًا، في غاية الزهادة والخشوع، أتاه من أموال الدنيا مما يحل أخذه الآلاف، وهو يرد ذلك كله، وعرضت عليه المناصب والولايات، وهو يفر منها فراره من الأسد، يحيي ليله بالصلاة والذكر، والدعاء والبكاء، ويقضي نهاره في طلب العلم والدرس والفتيا، وحاله الدنيوي على أضيق ما يكون، لربما تأتي عليه عدة أيام لا يأكل فيها شيئًا من رقة الحال، وانعدام المال، ولا يغير ملابسه لعدة سنوات، حتى إنه قد احتاج لأن يرهن نعله عند خباز، وأكرى نفسه من حمّالين ليجد نفقة رحلته العلمية إلى اليمن، ومع ذلك فقلبه عامر بالإيمان، يتبرك الناس برؤيته والسلام عليه، ولقد حج خمس مرات: ثلاث منها ماشيًا على رجليه، وكان يصلي كل ليلة ثلاثمائة ركعة؛ فلما امتحن، وأوذي بالسياط كان يصلي مائة وخمسين ركعة في الليلة.
♦ ومع شدة اجتهاده في العلم والعمل كان شديد الخوف من الله عز وجل، وإذا ذكر الموت خنقته العبرة، وامتنع عن الطعام والشراب، وكان يكره الشهرة بشدة، وينكر أيما نكير على المغالين فيها، شديد الحب للفقراء والزهاد، يقربهم ويجلهم فوق السلاطين والأعيان، كثير التواضع، تعلوه السكينة والوقار، عازفًا عن الدنيا وأهلها.
فصول المحنة:
الفصل الأول: أصل المحنة:
كان المسلمون أمة واحدة، وعقيدتهم صحيحة وصافية، من معين النبوة حتى وقعت الفتنة الكبرى، وقتل ذو النورين عثمان رضي الله عنه مظلومًا شهيدًا؛ فتفرقت الكلمة، وظهرت الشرور، وتمت وقعة الجمل، ثم صفين، وبدأت البدع في الظهور، وحدث أول انحراف في تاريخ العقيدة الإسلامية بظهور فرقة الخوارج التي كفرت الصحابة خير الناس، ثم أخذت زاوية الانحراف في الانفراج؛ فظهرت فرقة الروافض، وكلما ظهرت فرقة مبتدعة ظهرت في المقابل لها، وعلى النقيض منها فرقة أخرى: الأولى تغالي، والأخرى تعادي، فكما ظهرت الخوارج ظهرت فرقة المرجئة التي أخرت العمل، وقالت: إن الإيمان هو مجرد التصديق فقط، فجعلت إيمان أفجر الخلق كإيمان أتقاهم، وكما ظهرت الروافض ظهرت النواصب، وكما ظهرت فرقة القدرية نفاه القدر ظهرت فرقة الجبرية التي تنفي أي اختيار وإرادة للإنسان، وكما ظهرت فرقة المعتزلة والجهمية نفاه الصفات ظهرت فرقة المجسمة الذين يشبهون صفات الخالق بالمخلوق، ولكن كل هذه الفرق الضالة كانت مقهورة بسيف الشرع، وقوة السنة، وسلطان الدولة الأموية، ثم العباسية، وكثير من رءوس البدعة قد قتل بسيف الحق: مثل الجعد بن درهم رائد التعطيل، والجهم بن صفوان رائد القدرية، والمغيرة بن سعيد، وغيرهم، وقد ظل المبتدعون في حجر ضب مختفين بضلالهم، لا يرفع أحد منهم رأسًا ببدعة أو بضلال، حتى ولى المأمون العباسي، وكان محبًا للعلوم العقلية، وكلام الفلاسفة الأوائل؛ فبنى دارًا لترجمة كتب فلاسفة اليونان، وأسماها بيت الحكمة، فأخذت أفاعي البدع تخرج من جحورها، وأخذت في التسلل بنعومة إلى بلاط المأمون، ثم التفت حول عقله، ولعبت به، ونفثت سموم الاعتزال في رأسه، ونفق عليه رجال من عينة بشر المريسي؛ الذي كان هاربًا أيام أبيه الرشيد، الذي كان يتطلبه بشدة ليقتله ببدعته، وأحمد بن أبي دؤاد رأس الفتنة ومسعرها، وأبو الهذيل العلاف، وثمامة بن أشرس، وغيرهم، حتى مال المأمون لقولهم، واعتنق مذهب الاعتزال، والذي يقوم على عدة أصول وهي:
1- نفى الصفات وتعطيلها، وأبرز معالم نفى الصفات القول: إن القرآن مخلوق.
2- نفى القدر، وأن العباد هم الذين خلقوا أفعالهم.
3- القول بالمنزلة بين المنزلتين بالنسبة لمرتكب الكبيرة.
4- الوعد والوعيد، ومعناه تخليد مرتكب الكبيرة في النار، وإيجاب دخول المؤمن الجنة على الله.
5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعناه الخروج على ولاة الأمور بالسلاح.
ظل المأمون معتنقًا لهذه العقيدة الضالة، ولا يجبر أحدًا على اعتناقها، ويتردد ويراقب الشيوخ والعلماء المحدثين، وهو يخشى مكانهم وتأثيرهم على جماهير المسلمين، وفي نفس الوقت يحاول استماله من يقدر على استمالته منهم، فلما رأى إعراض العلماء عن القول ببدعته زين له أحمد بن أبي دواد وبشر المريسي أن يجبر العلماء؛ وذلك بقوة الدولة، وحد التهديد والوعيد، وبالفعل سنة 218هـ أمر المأمون العباسي قائد شرطة بغداد العاصمة إسحاق بن إبراهيم أن يجمع كبار الفقهاء والعلماء والمحدثين، ويمتحنهم في القول بخلق القرآن، وقرأ عليهم كتاب المأمون الذي يفيض بالتهديد والوعيد، وقطع الأرزاق، والعزل من المناصب لمن يرفض القول بخلق القرآن، ومن يومها بدأت فصول المحنة العظمى التي تحمل الإمام أحمد بن حنبل وحده عبئها، والوقوف في وجه أربابها ودعاتها.
الفصل الثاني: الإمام أحمد والمأمون العباسي:
♦ حمل الإمام أحمد ومن معه من العلماء إلى دار السلطان، وأخذ إسحاق بن إبراهيم قائد الشرطة في امتحانهم، ومع جدية التهديد أخذ العلماء الواحد تلو الآخر يجيب بالقول بخلق القرآن، فلما رأى أحمد بن حنبل الناس يجيبون، وكان من قبل رجلا لينًا، انتفخت أوداجه، واحمرَّت عيناه، وذهب ذلك اللين، وغضب لله عز وجل، وجهر بالحق، وبعد أول يوم لامتحان العلماء عاد الإمام أحمد بن حنبل إلى مسجده، وقعد للدرس والتحديث؛ فالتف حوله الناس، وسألوه عما جرى، وألحوا في معرفة من أجاب من العلماء في هذه المحنة، فرفض بشدة، وكره الإجابة على هذا السؤال حتى لا يفقد العلماء مصداقيتهم عند الناس ولكن الأمر انتشر بسرعة بين الناس، وعُرف من أجاب ممن رفض.
♦ وصلت أخبار الامتحان للخليفة المأمون، وكان وقتها مقيمًا بطرسوس على الحدود مع الدولة البيزنطية؛ فتغيظ بشدة على من رفض القول بخلق القرآن، وطلب من قائد شرطته إسحاق بن إبراهيم أن يجمع العلماء مرة أخرى، ويمتحنهم، ويشتد في التهديد والوعيد، وبالفعل اشتد إسحاق في التهديد حتى أجاب كل العلماء ماعدا أربعة: أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، والقواريري، وسجَّادة؛ فقام إسحاق بحبسهم، وتهديدهم بالضرب والحبس؛ فأجاب سجَّادة والقواريري فخرجا من السجن، وبقي أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح؛ فأرسل بخبرهما إسحاق إلى الخليفة المأمون الذي استشاط غضبًا، وأمر بحمَّلهما مقيدين زميلين إلى طرسوس، وقد أقسم ليقتلنهما بيده إذا لم يجيبا في هذه الفتنة، بل أشهر سيفًا ووضعه بجانبه استعدادًا لقتلهما إذا أصرا على الرفض.
♦ حُمِل أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح من بغداد إلى طرسوس، وفي الطريق وقعت عدة حوادث كان لها أثر كبير في تثبيت الإمام أحمد ورفيقه، ودللت أيضًا على أن الناس كانت كلها وراء الإمام، وتؤيده وإن كانت لا تملك له شيئًا، فلقد قابله بالرحبة [موضع على شاطئ الفرات على بعد مائة فرسخ من بغداد] رجل من عامة المسلمين يعمل في غزل الصوف والشعر، وقد جاء لمقابلته خصيصًا من بادية العراق ليقول له: يا أحمد إن يقتلك الحق مت شهيدًا، وإن عشت عشت حميدًا، وما عليك أن تقتل هاهنا وتدخل الجنة، فقوى قلب الإمام أحمد بهذه الكلمات.
ثم بعد فترة استراح الركب في خان بالطريق للمسافرين، وفي الخان قابل الإمام أحمد أحد أصدقائه القدامى، واسمه أبو جعفر الأنباري، والذي عبر الفرات للقاء الإمام أحمد قبل سفره إلى طرسوس، فلما رآه الإمام أحمد قال له: يا أبا جعفر تعنيت [أي كلفت نفسك مشقة السفر، وعبور الفرات]؛ فقال له أبو جعفر: يا هذا أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك، فو الله لئن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن خلق، وإن أنت لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت، لابد من الموت، فاتق الله ولا تجب.
فجعل الإمام أحمد يبكي ويقول: ما شاء الله، ثم قال: يا أبا جعفر أعد عليَّ، فأعاد عليه، وأحمد يبكي ويقول: ما شاء الله.
يتبع