قال شيخ الاسلام ابن تيميه رحمه الله فى كلامه على حديث كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه
انه اراد به مجرد الالحاق في احكام الدنيا دون أن يكون اراد انهما يغيران الفطرة فهذا خلاف ما يدل عليه الحديث
فإنه شبه تكفير الاطفال بجدع البهائم تشبيها للتغيير بالتغيير
وأيضا فإنه ذكر هذا الحديث لما قتلوا اولاد المشركين ونهاهم عن قتلهم وقال
اليس خياركم اولاد المشركين كل مولود يولد على الفطرة فلو اراد انه تابع لأبويه في الدنيا لكان هذا حجة لهم يقولون هم كفار كآبائهم فنقتلهم
وكون الصغير يتبع اباه في احكام الدنيا هو لضرورة حياته في الدنيا فإنه لا بد له من مرب يربيه وانما يربيه ابواه فكان تابعا لهما ضرورة ولهذا متى سبي منفردا عنهما صار تابعا لسابيه عند جمهور العلماء كأبي حنيفة والشافعي واحمد والاوزاعي وغيرهم لكونه هو الذي يربيه واذا سبى منفردا عن احدهما أو معهما ففيه نزاع للعلماء
واحتجاج الفقهاء كأحمد وغيره بهذا الحديث على أنه متى سبي منفردا عن ابويه يصير مسلما لا يستلزم أن يكون المراد بتكفير الابوين مجرد لحاقه بهما في الدين ولكن وجه الحجة انه إذا ولد على الملة فإنما ينقله عنها الابوان اللذان يغيرانه عن الفطرة فمتى سباه المسلمون منفردا عنهما لم يكن هناك من يغير دينه وهو مولود على الملة الحنيفية فيصير مسلما بالمقتضى السالم عن المعارض
ولو كان الابوان يجعلانه كافرا في نفس الأمر بدون تعليم وتلقين لكان الصبي المسبى بمنزلة البالغ الكافر
ومعلوم أن الكافر البالغ إذا سباه المسلمون لم يصر مسلما لأنه صار كافرا حقيقة
فلو كان الصبي التابع لأبويه كافرا حقيقة لم ينتقل عن الكفر بالسباء
فعلم انه كان يجرى عليه حكم الكفر في الدنيا تبعا لأبويه لا لأنه صار كافرا في نفس الأمر
يبين ذلك انه لو سباه كفار لم يكن معه ابواه ولم يصر مسلما فهو هنا كافر في حكم الدنيا وان لم يكن ابواه هوداه ونصراه ومجساه
فعلم أن المراد بالحديث أن الابوين يلقنانه الكفر ويعلمانه اياه
وذكر صلى الله عليه وسلم الابوين لانهما الأصل العام الغالب في تربية الاطفال فإن كل طفل غير فلا بد له من ابوين وهما اللذان يربيانه مع بقائهما وقدرتهما بخلاف ما إذا ماتا أو عجزا لسبي الولد عنهما أو غير ذلك
ومما يبين ذلك قوله في الحديث الآخر
كل مولود يولد على الفطر حتى يعرب عنه لسانه فإما شاكرا وإما كفورا فجعله على الفطرة إلى أن يعقل ويميز
فحينئذ يثبت له أحد الامرين ولو كان كافرا في الباطن بكفر الابوين لكان ذلك من حين يولد قبل أن يعرب عنه لسانه
وكذلك قوله في الحديث الآخر الصحيح حديث عياض بن حمار عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه
اني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم انزل به سلطانا صريح في انهم خلقوا على الحنيفية وان الشياطين اجتالتهم وحرمت عليهم الحلال وامرتهم بالشرك
فلو كان الطفل يصير كافرا في نفس الأمر من حين يولد لكونه يتبع ابويه في الدين قبل أن يعلمه أحد الكفر ويلقنه اياه
لم يكن الشياطين هم الذين غيروهم عن الحنيفية وأمروهم بالشرك بل كانوا مشركين من حين ولدوا تبعا لآبائهم
ومنشأ الاشتباه في هذه المسألة
اشتباه احكام الكفر في الدنيا باحكام الكفر في الاخرة
فإن اولاد الكفار لما كانوا يجري عليهم احكام الكفر في امور الدنيا مثل ثبوت الولاية عليهم لآبائهم وحضانة ابائهم لهم وتمكين آبائهم من تعليمهم وتأديبهم والموارثة بينهم وبني آبائهم واسترقاقهم إذا كان آباؤهم محاربين وغير ذلك
صار يظن من يظن انهم كفار في نفس الأمر كالذي تكلم بالكفر وعمل بهومن هنا قال من قال أن هذا الحديث وهو قوله
كل مولود يولد على الفطرة كان قبل أن تنزل الأحكام كما ذكره أبو عبيد عن محمد بن الحسن
فأما إذا عرف أن كونهم ولدوا على الفطرة لا ينافي أن يكونا تبعا لآبائهم في احكام الدنيا زالت الشبهة
وقد يكون في بلاد الكفر من هو مؤمن في الباطن يكتم ايمانه من لا يعلم المسلمون حاله إذا قاتلوا الكفار فيقتلونه ولا يغسل ولا يصلى عليه ويدفن مع المشركين وهو في الاخرة من المؤمنين اهل الجنة
كما أن المنافقين تجرى عليهم في الدنيا احكام المسلمين وهم في الاخرة في الدرك الاسفل من النار
فحكم الدار الاخرة غير حكم الدار الدنيا
وقوله
كل مولود يولد على الفطرة إنما اراد به الأخبار بالحقيقة التي خلقوا عليها وعليها الثواب والعقاب في الاخرة
إذا عمل بموجبها وسلمت عن المعارض لم يرد به الأخبار باحكام الدنيا
فإنه قد علم بالاضطرار من شرع الرسول أن اولاد الكفار يكونون تبعا لآبائهم في احكام الدنيا وان اولادهم لا ينتزعون منهم إذا كان للآباء ذمة وان كانوا محاربين استرقت اولادهم ولم يكونوا كاولاد المسلمين
ولا نزاع بين المسلمين أن اولاد الكفار الاحياء مع آبائهم لكن تنازعوا في الطفل إذا مات ابواه أو أحدهما هل يحكم بإسلامه فعن
احمد رواية انه يحكم باسلامه لقوله
فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه فإذا مات ابواه بقي على الفطرة
والرواية الاخرى كقول الجمهور انه لا يحكم بإسلامه
وهذا القول هو الصواب بل هو إجماع قديم من السلف والخلف بل هو ثابت بالسنة التي لا ريب فيها ، فقد عُلم أن أهل الذمة كانوا على عهد النبي - صلى الله على وسلم - بالمدينة ، ووادي القرى ، وخيبر ، ونجران ، وأرض اليمن ، وغير ذلك . وكان فيهم من يموت وله ولد صغير ، ولم يحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسلام يتامى أهل الذمة . وكذلك خلفاؤه ؛ كان أهل الذمة في زمانهم طبق الأرض : بالشام ، ومصر ، والعراق ، وخراسان ؛ وفيهم من يتامى أهل الذمة عدد كثير ،ولم يحكموا بإسلام أحد منهم . فإن عقد الذمة اقتضى أن يتولى بعضهم بعضاً ،فهم يتولون حضانة يتاماهم ، كما كان الأبوان يتولون حضانة أولادهما من درء تعارض العقل والنقل