وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
هذه الاية تمثل حالة الاستعلاء التي يجب أن تستقر عليها نفس المؤمن إزاء كل ما يخالف الايمان بالله، الاستعلاء بالإيمان وقيمه على جميع القيم المنبثقة من أصل غير أصل الإيمان. ان هذا الاستعلاء تنبثق جذوره الأولى منذ أن يعرف مقام الألوهية، ومنذ أن يعرف أنه انتقل من دين إلى دين، ومنذ أن يعرف أنه قد انتقل من مستنقع الجاهلية إلى روضة الإسلام
حالة الاستعلاء هذه مصدرها الأساسي هو الايمان بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل، فينشأ شعوره بالاستعلاء، الذي يجعله يحس أنه على قمة متفردة لا يشاركه فيها بقية الذين لا يؤمنون. فهي نسبة الحق إذا قيس إلى الباطل، نسبة الموحد اذا قيس بغيره من اهل الشرك. والفرق بين إيمان المسلم بالله عز وجل الإله الحق وإيمانه ببطلان الآلهة المزيفة التي تدعي الألوهية يجعله -حينما يعرف الله الحق- يستعلي على هذه الآلهة المزيفة، ويستعلي على الباطل. فالاستعلاء حالة ينبغي أن توجد وتزداد كلما زادت الفجوة في قلب الإنسان بين الحق وبين الباطل. وكلما كانت هذه الفجوة واسعة كلما كان ذلك دليلا على أن هذا الإنسان قد أدرك الفارق الهائل بين الحق وبين الباطل.
ولا شك أن ما بين الحق والباطل فارق هائل جداً، فإذا قل هذا الفارق في قلب الإنسان فهذا يعنى أن ذلك الإنسان لم يدرك الحق بعد، وأن هذا الحق مشوب بالباطل، ومازال ليس له مذاقه الخاص وتفرده في نفسه وقلبه. وكلما زادت المسافة في شعور المؤمن بين الحق وبين الباطل.. بين إحساسه بمقام الألوهية وبين مقام الأشياء الأخرى من دون الله، فلا بد أن يؤدي به هذا إلى الإحساس بالتفرد الذي يجعله يحس بالاستعلاء بالحق، وبنسبته إلى الدين الحق.
هذا الاستعلاء ينبغي أن يكون على قوى الأرض الحائدة عن منهج الإيمان، وعلى قيم الأرض التي لم تنبثق من أصل الإيمان. وعلى تقاليد الأرض التي لم تنبع من الإيمان، وعلى قوانين الأرض التي لم تأتى بها شريعة الايمان، وعلى أوضاع الأرض التي لم ينشئها الإيمان
فلا بد أن يستعلي على قوى الأرض الحائدة عن منهج الله الذى شرعه لعباده المؤمنين، وعلى قيمهم التى لم تنبثق عن أصل الإيمان، لأن القيم التي تنبثق من الأرض ستكون ملوثة بعتامة ووحل هذا الطين وبزبالة اذهان ونحاته افكار هؤلاء المبطلين. والمؤمن مطالب بمفارقة من فى الارض من اهل الباطل وان يستعلى بالايمان على هؤلاء المبطلين فلا شك ان العادات والتقاليد المنبثقة من زبالة اذهان أهل الباطل لا تفكر الا فى ان يعيش الناس عيشة البهائم يعيشون للشهوات والغرائز كما تعيش الحيوانات لتأكل وتشرب ولا تدرى من امر نفسها شيئا تعيش فى الاوحال اما المؤمن فيستعلى بالايمان عن العيش فى هذه الاوحال.
الاستعلاء الإيماني: يوم أن تأتيك المناهج الهدامة بزخرفها وببهرجها، فتفرح بفضل الله وبرحمته: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:58] خيرٌ مما يجمعون من أفكار، ومن مناهج، ومن أموال، ومن دنيا، وهل هناك فضلٌ أعظم من الإيمان والإسلام والقرآن
انظر ما حصل للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شعب مكة ثلاث سنوات لم يمدوا أيديهم إلى أحد ثلاث سنوات،

هذا الايمان والصبر والثبات يتجلى، حينما تأتي قريش الرسول صلى الله عليه وسلم في بدء الدعوة فيقولوا له ، يا محمد! لقد سفهت الأحلام وعبت الإلهة، وشتمت الآباء، وجئت بأمر لم يعرف من قبل، نعرض عليك أموراً إن شئت أخذت منها وتركت الذي جئت به، إن كنت تريد مالاً جمعنا لك مالاً حتى تكون أكثرنا مالاًً، وإن كنت تريد ملكاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كان الذي تراه رئيا يأتيك لا قبل لك في دفعه جمعنا لك الطب حتى نشفيك أو نعذر فيك، فماذا قال؟ أجابهم بالقرآن، قرأ عليهم أوائل سورة فصلت.فقام عتبة بن ربيعة ، وقال: اتركوها لي هذه المرة، فقد سمعت منه قرآناً ما فهمته، اتركوه والعرب إن قتلوه فقد كفيتموه، وإن أظهره الله عليكم فعزه عزكم وشرفه لشرفكم، قالوا: هه يا أبا الوليد ! سحرك بكلامه، وهكذا الاستعلاء الإيماني صمام الأمان تجعل صاحبه يردد: (والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه)،و كما قال حرام بن ملحان عندما ضربه الكافر بالرمح على وجهه وفاض الدم، قال: فزت بها ورب الكعبة .الاستعلاء الإيماني يولد عند المؤمن مثل هذا الشعور، فيرى اللذة في العذاب، والحلاوة في الابتلاء، يمزح حلاوة الإيمان بمرارة العذاب فتطغى حلاوة الإيمان على مرارة العذاب ،، كما قال سبحانه في كتابه: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:146-147]
و من صور الاستعلاء الإيماني والصبر والثبات على الايمان ما جاء في السيرة النبوية :
كان أمية بن خلف يخرج بلالاً رضي الله عنه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره فى بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، قال ابن كثير: "كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك وهم يفعلون به الأفاعيل، حتى أنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر، ويأمرونه أن يشرك بالله فيأبى عليهم وهو يقول: أَحَدٌ، أَحَد، ويقول: والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها رضي الله عنه وأرضاه".
عن أبي الأسود قال: "أسلم الزبير وهو ابن ثمان سنين، وهاجر وهو ابن ثمان عشر، وكان عمه يعلقه في حصير ويدخن عليه بالنار ويقول: ارجع إلى الكفر، فيقول الزبير: لا أكفر أبدا" رواه الطبراني .
خباب بن الأَرَتّ رضي الله عنه، أسلم ولم يبلغ العشرين من عمره، وهو من السابقين الأولين في الإسلام، إذ كان سادس ستة أسلموا على ظهر الأرض، وكان رضي الله عنه مولى لأم أنمار بنت سِباع الخزاعية، فلما علمت بإسلامه عذبته بالنار، وكانت تأتى بالحديدة المحماة فتجعلها على ظهره ورأسه، ليكفر برسول الله صلى الله عليه وسلم ويرجع عن إسلامه، فلم يكن يزيده ذلك إلا إيماناً، وكذلك كان المشركون يعذبونه فيلوون عنقه، ويجذبون شعره، وقد ألقوه على النار، ثم سحبوه عليها، فما أطفأها إلا شحم ظهره .. ولما اشتد تعذيب المشركين له رضي الله عنه ولغيره من المسلمين المستضعفين، ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه ويطلب منه الدعاء له ولأصحابه فقال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟، قال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويُمشَّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون) رواه البخاري.
لما دخل ربعي بن عامر على رستم قائد الفرس، لم يعبأ بالمجلس المزين بالنمارق المُذهبة، وأُبرزت فيه اليواقيت واللآلئ، ولم يخطف بصرَه تاج الملك وسريره الذهبي.
دخل المسلم البسيط كما يقول ابن كثير في البداية والنهاية "بثياب صفيقة وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه وبيضته على رأسه.
فقالوا له: ضع سلاحك.
فقال: إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا وإلا رجعت.
فقال رستم: ائذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامّتها، فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".

*إنه الاستعلاء بالإيمان، الذي يجعل الباطل في العيون المؤمنة كأمثال الذر، "حين ينتفش الباطل، فتراه النفوس رابياً، وتؤخذ الأعين بمظهره وكثرته وقوته.. ثم ينظر المؤمن الذي يزن بميزان الله إلى هذا الباطل المُنتفش، فلا تضطرب يده، ولا يزوغ بصره، ولا يختل ميزانه". .............. إن هذه الثقة هي مناط القوة التي يستشعرها صاحب الدعوة إلى الله . . إنه على يقين من هزال الباطل وضعفه وخفة وزنه مهما انتفش ومهما استطال . كما أنه على يقين من سلطان الحق الذي معه وقوته بما فيه من سلطان الله .