(وقول الله تعالى:
{لا تقم فيه أبداً}) هذا النهي عن القيام في مسجد الضرار الذي بناه المنافقون: {لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه}.
مسجد الضرار: أقيم إرصاداً ومحادّةً لله ورسوله، وتفريقاً بين المؤمنين؛
فهو مكان أقيم على الخيانة، وعلى مضادة الإسلام وأهله؛ فلهذا لما كانت هذه هي غاية من أقامه، فإن مشاركتهم فيه بالصلاة لا تجوز؛ لأنه إقرار لهم، أو تكثير لسوادهم، وإغراء للناس بالصلاة فيه، فنهى الله -جل وعلا- نبيه صلى الله عليه وسلم، ونهى المؤمنين عن أن يصلوا في مسجد الضرار.
مناسبة الآية للباب
ظاهرة،
وهي: أن الله -جل وعلا- نهى عن أن يصلي النبي
-صلى الله عليه وسلم- في مسجد الضرار، ومعلوم أن صلاته عليه الصلاة والسلام، وصلاة المؤمنين معه، هي خالصة لله -جل وعلا- دون من سواه، ونهوا مع أنهم مخلصون ليس عندهم نية الإضرار، ولا التفريق، ولا الإرصاد؛ لكن نهوا لأجل هذه المشاركة والمشابهة التي تغري بإتيان ذلك المكان.
وهذه هي الصورة الموجودة فيمن ذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله، فإنه وإن كان مخلصاً لكن دعا إلى تعظيم ذلك المكان بفعله.
هنا إشكال، أو إيراد:
وهو: أنه جاء الإذن عن الصحابة بالصلاة في الكنيسة، وقد صلى
عمر - رضي الله عنه - في كنيسة بيت المقدس، والصحابة -رضوان الله عليهم- منهم من صلى في بعض كنائس البلاد، فصلاتهم في الكنائس لله -جل وعلا- أليست مشابهة للصلاة في مسجد الضرار، أو للذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله؟**!
الجواب:
أن هذا الإيراد ليس بوجيه؛
ذلك أن النهي عن صلاة النبي -صلى الله عليه وسلم- في مسجد الضرار، وعن الذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله، هذا لأجل أن صورة العبادة واحدة، فصورة الذبح من الموحِّد ومن المشرك واحدة، وهي إمرار السكّين آلة الذبح على الموضع، وإزهاق الدم في ذلك المكان؛ وهذا يحصل من الموحِّد ومن المشرك غير الموحِّد، الصورة واحدة، ولهذا لا يُميز بين هذا وهذا.
كذلك:
صلاة النبي صلى الله عليه وسلم،
لو صلى والصحابة في مسجد الضرار، صلاتهم مشابهة من حيث الصورة لصلاة المنافقين، فرجع الاختلاف إلى اختلاف ما في القلب، والنيات ومقاصد القلوب لا تُشرح للناس؛ لهذا تقع المفسدة ولا تحصل المصلحة.
وأما الصلاة في الكنيسة:
فإن صورة الفعل مختلفة؛ لأن صلاة النصارى ليست على هيئة وصورة صلاة المسلمين، فيعلم من رأى المسلم يصلي، أنه لا يصلي صلاة النصارى، وليس فيه إغراء بصلاة النصارى ومشاركتهم فيها، فهذا الفرق بين المسألتين.
قال: (وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال: نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((هل كان فيها وثنٌ من أوثان الجاهلية يعبد؟))
قالوا: لا.
قال:((فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟))
قالوا: لا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((أوفِ بنذرك فإنه لا وفاء لنذرٍ في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم)) رواهأبو داود، وإسناده على شرطهما، هذا الحديث فيه أن رجلاً نذر أن ينحر إبلاً ببُوانة، و(بُوانة) اسم موضع، نذر أن ينحر في هذا الموضع، والنبي -عليه الصلاة والسلام- استفصله؛ لأن المقام يقتضي الاستفصال، يتبادر إلى الذهن لم خصّ هذا الرجل بوانة بأن ينحر فيها الإبل؟ لِمَ؟
قد يكون
لأن فيها عيداً من أعيادهم.
أو لأن فيها وثناً من أوثان الجاهلية يعبد.
- أو كان في ذلك الموضع؛ لأن التخصيص في الغالب يكون لغرض العبادة؛ لهذا استفصله النبي -عليه الصلاة والسلام - فقال: ((هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟))
((قالوا: لا)) هذا السؤال يدل على أنه لو وُجِدَ هذا الوصف، وهو أنه كان ثَمَّ وثن من أوثان الجاهلية يعبد، لم يجز النحر في ذلك الموضع، وهو المراد من إيراد هذا الحديث في الباب ((هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟))
((قالوا: لا)).
نستفيد من ذلك:
أنه لو كان فيها وثن؛ لمنع ذلك الرجل من النحر، وهو دلالة الترجمة.
قال: ((فهل كان فيها عيدمن أعيادهم؟))
العيد: هو:
المكان، أو الزمان الذي يعود أو يُعاد إليه.
فالعيد قد يكون مكانياً؛
لأنه اسم للمكان الذي يُعتاد المجيء إليه، ويرجع إليه في وقت معتاد؛ ولهذا قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: في المكان: ((لا تجعلوا قبري عيداً)) يعني هذا المكان لا تجعلوه مكاناً تعتادون المجيء إليه.
وكذلك:
الأزمنة تكون أعياداً؛ لأنها تعود في وقت معين، فقوله: ((هل كان فيها عيدٌ من أعيادهم؟)) يعني: عيداً مكانياً؛ لأنه قال: ((هل كان فيها عيد من أعيادهم))ويحتمل أيضاً أن يكون عيداً زمانياً.
وأعياد المشركين من جهة الأمكنة، أو الأزمنة: معلومٌ أنها راجعة إلى أديانهم، ودينهم شركي، فإذاً: يكون المعنى: أنهم يتعبدون في تلك الأعياد بعباداتهم الشركية، مما يُفعل في أعياد المشركين وأعظم ما يفعل: التقرب بالذبح، وإراقة الدماء، فدل على أن مشاركة المشركين في مكان يتقربون فيه لغير الله بصورةٍ مشابهةٍ لفعلهم ظاهراً، أن هذا لا يجوز؛ لأنه مشاركة لهم في الفعل الظاهر، ولو كان مخلصاً لا يذبح إلا لله، أو لا يصلي إلا لله جل وعلا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أوفِ بنذرك فإنه لا وفاء لنذرٍ في معصية الله)).
قال العلماء:
قوله هنا: ((فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله))ترتيب ما بعد الفاء على ما قبلها بالفاء، يدل على أن سبب الإذن بالوفاء بالنذر، أن ما قبله ليس بمعصية؛ والاستفصال يدل على أن الذبح لله في مكان فيه وثنٌ يعبد، أو في عيد من أعياد المشركين، يدل ذلك على أنه معصية لله جل وعلا، وبهذا يستقيم ما أراده الشيخ - رحمه الله - من الاستدلال والاستشهاد بهذا الحديث تحت ذلك الباب.