بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله الذي نزَّل القرآنَ العظيمَ ، والفرقانَ القويمَ ، وهدى عباده إلى الصراطِ المستقيم ،وبيّن فيه كلَّ شىءٍ وفصّله تفصيلا بغاية التوضيح والتقسيم ، وأوضح به جميعَ العلومِ ، ومواضعَ التعلمِ والتعليم ، ثم بيّنه بسنَّة نبيِّه الكريم، سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم) علية أكملَ صلاة وأفضل تسليم وعلى صحابته آل بيته الطيبين الطاهرين وبعد..
فإن القرآن هو كتاب الهدايةوالرحمة ،ومنبع البيان والتبيان ،وهو نور الصدور، وجلاء الهموم والغموم، وسعادة القلوب وطبها ، وقرة العيون وجلائها.
وقد سماه الله بأسماء عَلِية، ووصفه بصفات جَلِية تدل على علو شأنه ورفعته ، فسماه بالقرآن، والفرقان، والعظيم، والعزيز، والحكيم، والروح، والكريم، والنور، والهدى، والتذكرة، والذكرى، والرحمة، والشفاء، والكتاب المبين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، والحق اليقين، والقصص الحق، والموعظة الحسنة، والآيات البينات، والمتبينات، والبيان، والتبيان، والبينة، وحبل الله، وصراط الله،و غيرها[1].
قال تعالى عنه :
﴿ الم*ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾.
وقال مخاطبا" نبيه :
﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾.
قال الإمام الشاطبي[2]- رحمه الله -عن القرآن : "هو كلية الشريعة, وعمدة الملة, وينبوع الحكمة, وآية الرسالة, ونور الأبصار والبصائر, فلا طريق إلى الله سواه, ولا نجاة بغيره, ولا تمسك بشيء يخالفه".
وقال رحمه الله فى متن الشاطبية :
وَإِنَّ كِتَابَ اللهِ أَوْثَقُ شَافِعٍ وَأَغْنى غَنَاءً وَاهِباً مُتَفَضِّلاَ
وَخَيْرُ جَلِيسٍ لاَ يُمَلُّ حَدِيثُهُ وَتَرْدَادُهُ يَزْدَادُ فِيهِ تَجَمُّلاً
وَحَيْثُ الْفَتى يَرْتَاعُ فيِ ظُلُمَاتِهِ مِنَ اْلقَبرِ يَلْقَاهُ سَناً مُتَهَلِّلاً
هُنَالِكَ يَهْنِيهِ مَقِيلاً وَرَوْضَةً وَمِنْ أَجْلِهِ فِي ذِرْوَةِ الْعِزّ يجتُلَى
يُنَاشِدُه في إرْضَائِهِ لحبِيِبِهِ وَأَجْدِرْ بِهِ سُؤْلاً إلَيْهِ مُوَصَّلاَ
فَيَا أَيُّهَا الْقَارِى بِهِ مُتَمَسِّكاً مُجِلاًّ لَهُ فِي كُلِّ حَالٍ مُبَجِّلا
هَنِيئاً مَرِيئاً وَالِدَاكَ عَلَيْهِما مَلاَبِسُ أَنْوَأرٍ مِنَ التَّاجِ وَالحُلاْ
فَما ظَنُّكُمْ بالنَّجْلِ عِنْدَ جَزَائِهِ أُولئِكَ أَهْلُ اللهِ والصَّفَوَةُ المَلاَ
أُولُو الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ وَالصَّبْرِ وَالتُّقَى حُلاَهُمُ بِهَا جَاءَ الْقُرَانُ مُفَصَّلاَ
عَلَيْكَ بِهَا مَا عِشْتَ فِيهَا مُنَافِساً وَبِعْ نَفْسالدُّنْيَا بِأَنْفَاسِهَا الْعُلاَ
وقد أمرنا الله تعالى بقراءة القرآن وفهمه و تدبره وهو المقصود الأعظم ، والمطلوب الأهم من التلاوة،إذ به تنشرح الصدور ، وتستنير القلوب.
ولذا قال تعالى آمراً بتدبره وتفهمه ، وناهياً عن الإعراض عنه : ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾.
وقال: ﴿كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ﴾
قال العلامة السعدي في تفسير هذه الآية الكريمة:
﴿ كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ﴾ فيه خير كثير، وعلم غزير، فيه كل هدى من ضلالة، وشفاء من داء، ونور يستضاء به في الظلمات، وكل حكم يحتاج إليه المكلفون، وفيه من الأدلة القطعية على كل مطلوب، ما كان به أجل كتاب طرق العالم منذ أنشأه اللّه.
﴿ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ ﴾ أي: هذه الحكمة من إنزاله، ليتدبر الناس آياته، فيستخرجوا علمها ويتأملوا أسرارها وحكمها، فإنه بالتدبر فيه والتأمل لمعانيه، وإعادة الفكر فيها مرة بعد مرة، تدرك بركته وخيره، وهذا يدل على الحث على تدبر القرآن، وأنه من أفضل الأعمال، وأن القراءة المشتملة على التدبر أفضل من سرعة التلاوة التي لا يحصل بها هذا المقصود.
﴿ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ ﴾ أي: أولو العقول الصحيحة، يتذكرون بتدبرهم لها كل علم ومطلوب، فدل هذا على أنه بحسب لب الإنسان وعقله يحصل له التذكر والانتفاع بهذا الكتاب.))اهـ
وفى الحديث عن حذيفة قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة فقرأها ، ثم النساء فقرأها ، ثم آل عمران فقرأها. يقرأ مسترسلا إذا مر بآية فيها تسبيح سبح ، وإذا مر بسؤال سأل ، وإذا مر بتعوذ تعوذ. وروى أبو داود والنسائي وغيرهما عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قمت مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة فقام فقرأ سورة البقرة ، لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل ، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ.
و الأحاديث التى تدل على أن تدبر القرآن والتفكر في معاني الألفاظ كان من هديه صلى الله عليه وسلم كثيرة وفيرة ليس هذا موضع سردها ولا حصرها
ولأهمية ماذكرت فهذة عدة تغريدات فى ظلال آيات القرآن الكريم أضعها بين أيديكم تباعاً، نقف معها وقفات تدبروتفكر ، لعلها تحي القلوب ،وتنير الصدور،وتبعث في النفس والروح محبة خالقها الذي أنزل هذا الكلام على عبده ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم ..
وخاصة فى هذه الأونة والتى نرى كثير من المسلمين ينظرون الى القرآن على أنه نزل للأموات وليس للأحياء ، فلا يلتفتون إليه إلّا عند ما يموت الميت، فتصدح أجهزة التسجيل فى البيوت بالقرآن لعدة أيام، ويحضر القراء إلى البيوت والمقابر فى مناسبات الموت وذكريات الموتى، وتوقف الإذاعة إرسالها العادي وتقصره على بث القرآن عند موت زعيم أو حاكم ..
وبعضهم ينظر اليه على انه نزل للبركة، حيث يحولونه إلى حجب وتمائم ورقى يضعونها على الأجساد أو البيوت أو السيارات، استحضارا للبركة ودفعا للضرر، ويفتتح هؤلاء كلماتهم ومؤتمراتهم ولقاءاتهم وجلساتهم واحتفالاتهم وإذاعاتهم بآيات من القرآن، من باب التيمن والتبرك، وتعطير الأجواء بذكره، أو من باب العرف والعادة واستغفال الشعب ودغدغة عاطفته الدينية، وإيهامه أنهم مع القرآن ومن جنوده وخاصته وأهله ..
ولكنهم لا يريدون أن يفتحوا للقرآن نفوسهم ومشاعرهم وقلوبهم وكيانهم ليحييهم بما فيه من حياة، ولا يريدون أن يفتحوا له مؤسساتهم ومناهجهم ووزاراتهم
وتشريعاتهم لتتحول إلى هدى ورحمة وعدل .. ولا يريدون أن يفتحوا له مجتمعاتهم وشعوبهم لتتحول إلى رسل خير ودعاة إصلاح، وسادة وأساتذة لبنى الإنسان ..
ولا يريدون أن يتعاملوا كأحياء مع القرآن كما أرد الملك الديان ، فيتدبروا آياته ،ويتفكروا فيها ،ويبحثوا عن أغراضها وأهدافها ليحققوها فيهم وفى مجتمعاتهم، فهذا ما لم يفكر فيه كثير من المسلمين اليوم [3]
قال خبَّاب بن الأرتِّ - رضي الله عنه -: ((تقرَّبْ إلى الله ما استطعت واعلم أنك لن تتقرب بشيء أحبّ إليه من كلامه))[4]
وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ((من أراد العلم، فليقرأ القرآن؛ فإن فيه علم الأولّين والآخرين))[5]
وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما: ((إنَّ من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبَّرونها بالليل، ويتفقَّدونها في النهار.[6]
فهذه رسائلي إليكم حول آيات القرآن ، أكتبها وأنا أقدم قدم وأَأُخِر آخرى ولا أدري أيهم أحرى ،ويحسن هنا أنْ أنبِّه إلى شئ مهم وهو أنى لست بصدد كتابة تفسير للقرآن، فإن لهذا المجال فرسان ، كما أود ألا يُفهم أنى سأعمل فيه محض عقلي، بل سعيي يدور بين البحث فى كتب الأسلاف متفكرا فيها ومتدبرا لمعانيها،وطالبا المعنى الصحيح ، ، والله أعلم.
واسأل الله لي ولكم دوام مرافقة القرآن وان يجعلنا من اهل القرآن الذين هم اهل الله وخاصتة .
[1] فضائل القرآن وتلاوته للرازي ص18
[2] هو القاسم بن فيرة بن خلف بن أحمد الرعيئ، الأندلسي، الشاطبي، الضرير (أبو محمد، أبو القاسم) مقرئ، نحوي، مفسر، محدث ناظم.
ولد بشاطبة إحدى قرى شرقي الأندلسي سنة 538 هـ وتوفي في القاهرة جمادي الآخرة سنة 590 هـ.
من آثاره: " حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع " (المشهور بالشاطبية) و" عقيلة القصائد في أسئ المقاصد في نظم المقنع للداني "، " ناظمة الزهر في إعداد آيات السور"، "وتنمية الحرز من قراء أئمة الكنز "، و" إبراز المعاني من حرز الأماني".
انظر: " وفيات الأعيان " (1/ 534 - 535) " معجم الأدباء " (16/ 293 - 296) " طبقات السبكي " (4/ 297 - 298) " البداية والنهاية " (13/ 10) " شذرات الذهب " (4/ 103 - 303) " حسن المحاضرة (1/ 284 - 285).
[3] انظر كتاب مفاتيح للتعامل مع القرآن ص 75،وانظر مناهل العرفان في علوم القرآن، لمحمد عبد العظيم الزرقاني.م2 ص297 بتصرف
[4] رواه الحاكم، وصححه ووافقه الذهبي، 2/ 441.
[5] مصنف بن أبي شيبة، 10/ 485، والمعجم الكبير للطبراني، 9/ 136، وشعب الإيمان للبيهقي، 2/ 332.
[6] التبيان للنووي، ص 28.