قصيدة: "دع المكارم" بين عمر بن الخطاب والشاعرالحطيئة
في هذه المقالة ، سنتكلم عن شخوص اشتهرت كل في موقعها، وقد جمع الله بينهما تاريخيا في حدث، يظهر أحد طرفيه في غاية بالغة من خـُلـُق رفيع -طالما حثت عليه الشريعة- ألا وهو حسن الظن، وبطلها هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، والآخر طرف شاعر هجّاء مخضرم في الشعر هو الحُطَيْئة جَرْوَلٌ بن أوس بن مالك العبسي(1)؛ شاعر مخضرم متين الشعر؛ أدرك الجاهلية والإسلام من بني عبس، وكان يهجو ويكثر فيه معنفا، لا يكاد يسلم من لسانه أحد. ولقب بذلك لقصر قامته الشديد وقربه من الأرض لأن الحطيئة تصغير من الحطأة وهي القملة الصغيرة(2)
وقد انتفض امير المؤمنين عمر بن الخطاب -- غيْرَة على أعراض المسلمين؛ عندما كان الحطيئة الشاعر-غفر الله له- يكثرُ من الهجاء في أشعاره - هجاء المسلمين- بغير حق، حتى تمادى في الهجاء وغرق فيه، وهو ممن اشتهر عنه العقوق لوالديه:
قال يهجو أباه:
فنعم الشيخ أنت لدى المخازي وبـئـس الشيخ أنت لدى الفعال
جمعت اللــؤم لا حــيـّاك ربــي وأبـــواب الســفــاهــة والضلال
وقال يهجو أمه:
جَزاكِ اللهُ شرّاً من عجوزٍ ولَقَّاكِ العُقوقَ من البَنينَا
تنحي فاجلسي عني بعيــدا أراح الله مـنـك العالمــينا
أغربالا إذا استودعت سرا وكانونـا عــلى المتحدثينا
حياتك ما علمت حياة سوء وموتك قد يسر الصاحبينا
أغربالا: كناية عن عدم حفظ السر
كانونا: أي نارا وكناية عن شدة الغلاظة والغضب
وقال في هجاء زوجته:
أُطَوِّفُ مَا أُطَوِّفُ ثُم آتِي إِلَى بَيْتٍ قَعِيدتُهُ لَكَاعِ
قعيدته: اي ربة المنزل
لكاع: لئيمة
وفي عمه وخاله:
لحاك الله ثم لحاك حقاً أباً ولحاك من عم وخال
لحاك : لعنك الله
بل أدى به إلى هجاء نفسه!
أرى لي وجهاً شوه الله خلقه فقُبح من وجهٍ وقبح حامله
بين يدي القصة
ابتداءً؛ -اعترف- أن: هذا حق وَجَبَ عليّ تبيانه، لمّا قرأتُ بعضَ من سَفِهَ نفسَه؛ يلمز بـابن الخطاب -- في قصته مع الشاعر الحطيئة، إلا أن الخوضَ في معاني القصة وتأويلها؛ -ذلك كله- طريقة ٌمعروفة ٌ لأهل الأهواء المبغضين لعمر بن الخطاب--، وليس مثلي من يذب عن الخليفة الفاروق ، فقد ابدع علماء وأئمة أهل السنة والجماعة في هذا المقام -لكن احببت ان اتقرب فيه الى الله بحب هذا الصحابي الجليل- وهو:( رجل لا يحب الباطل )، لأبين عذر ابن الخطاب-- في ذلك وتوجيهها في المسار الصحيح التي ينبغي فهمها ضمن شخصية امير المؤمنين عمر بن الخطاب--.
فلا ينبغي لأحد أن يخرج عما مضت به السنة، وجاءت به الشريعة من ميزان الصحابة بما يليق بهم، قال الله تعالى:{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لعل الله أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»(3)، وكيف لا ؟؛ وابن الخطاب بمنزلة مَيّزهُ اللهُ بها عن غيره من الأئمة فقد فاز في نعت الرسول له ولـأبي بكر الصديق-- بقوله -- : «صاحباي».
وحسن الظن بالصحابي الجليل عمر بن الخطاب من -مقتضيات حب الصحابة (4). فإن عدمَ العـُدول عن نص ظاهر إلى تاويلات قد تخرج عن هذا الأصل، كما تفعل فرقة الرافضة !، يجب ان يتحكم في المقياس الذي نبنيه على هذا الحدث، لأن حُسْنَ الظن بالمسلمين -أهل الدين- واجبٌ، والتأويل لهم ما أمكن من أصول أهل السنة والجماعة في حفظ مكانة الصحابة م اجمعين، فمدار رأيهم بين الأجر والأجرين ولا يتعدى ذلك.
أن "أكثر خطايا ابن آدم في لسانه" كما قال رسول الله ؛ ("السلسلة الصحيحة" 2 / 60) وهذا ما لا يتصف به الحطيئة، ولم يسلم من لسانه المسلمون، فـ "المسلم من سلم الناس من لسانه و يده ( "السلسلة الصحيحة" 2 / 81 )
وكان يقال: عَقْلُ الرجل مدفون تحت لسانه. وقال يزيد بن المُهلًب: أكرهُ أن يكون عقلُ الرجل على طَرَف لسانه. يريد أنه لا يكون عقلُه إلا في الكلام.
وقال الشاعر:
كـَفَى بالـمرء عَيـْباً أن تراهُ لــه وَجْــهٌ وليس له لسان
أي: لسان في الخير، وقال : " ذبوا بأموالكم عن أعراضكم ، قالوا : يا رسول الله كيف نذب بأموالنا عن أعراضنا ؟ قال : يعطى الشاعر و من تخافون من لسانه ".("السلسلة الصحيحة"3 / 445)، لذا، لذلك السبب قد أجاز أبو موسى الحطيئة بالف، قال: سددت فمه بمالي أن يشتمني(!)
إن محملَ حُسْن الظن يجبُ أن يستحكمَ في نفس المسلم؛ ويُسْـتصْحبَ في الحكم المؤسس على قاعدة الايثار: "أحب لغيري ما أحب لنفسي"، هذا أساس متين في بنائية العلاقات البشرية، واسناد هذا الأس لحديث رسول الله --:« لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»(5)، ولأهمية هذا الحديث فقد حث الامام مسلم -رحمه الله- ان يبوب في صحيحه بابا وضعه في خصال الايمان: (باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير)، لذلك لا نغلو إذا قلنا ان هذا الحديث أصل عظيم من أصول التربية الايمانية، وثمرة مرجوة منه في اشاعة الترابط المجتمعي مغلفة في أواصر الخير والمحبة بين أفراده.
وقد ورد في الحديث الصحيح النهي عن سوء الظن بالمسلم؛ فقال رسول الله - -: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث»(6).
لهذا كله كان عمر بن الخطاب -- يكثر من حسن الظن بإخوانه، بل يحمل ما يصدر عنهم من قول أو فعل على مَحْمَل حَسَن، متمثلاً قول الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ(الحج ات:6)}، وفي قراءة صحيحة {فتثبتوا}
وقد روي عنه - رضي الله عنه - "ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المسلم إلا خيرا، وأنت تجد لها في الخير محملا (7)
وجاء في الأثر عن السلف الصالح: (إذا بلغك عن أخيك الشيء تنكره؛ فالتمس له عذراً واحداَ إلى سبعين عذرا، فإن أصبته، وإلا؛ قل: لعل له عذرا لا أعرفه)(8)
وأخرج البيهقي في الشعب عن سعيد بن المسيب قال : كتب إليَّ بعض إخواني من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أَنْ ضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ مَا لَمْ يَأْتِكِ مَا يَغْلِبُكَ(9)
وهذا ما كان من الخليفة العادل الفاروق عمر بن الخطاب .
إن الناظر لقصة الحطيئة معه، يجد بكل سهولة أن الفساد يترتب على تقدير عدم فهم دلالة الهجاء في ابيات الحطيئة وما قد يترتب على ذلك من القدح به رضِيِ اللهُ عنه غير أن تقديم العذر له من باب التوضيح للمسألة ولا عبرة في ذلك على خطأ مقترف.
وبالذب عنه كما سياتي لاحقاً، من غير أن يترتب على هذا فساد -لم يصح- اخلالاً بالمعنى الذي يلتبس في حيثيات القصة، او يترتب على الأخذ به مخالفة أصل من أصول اللغة، أو خروج على قاعدة من قواعدها وأحكامها(!)
وخير قول: أن ما يترتب على ذلك التوجيه من معنى فاسد مبناه: الانجرار بالهوى والحقد الرافضي على سيدنا عمر ليس إلا! بل يترتب على إهماله ضرر؛ لأن الخلاف هنا غلو في الحقد وليس شكليا لا قيمة له كما يصوروه ، وقد يؤدي إلى اللبس واحتمال الوهم والغرق في الشبهات.
الشاعر الحطيئة:
أثر وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- وبداية خلافة أبي بكر الصديق ، ثبتت طائفة على ما كانت عليه من الإسلام ولم تبدل ولزمت طاعة أبي بكر، وطائفة بقيت على الإسلام بيد أنهم امتنعوا عن دفع الزكاة إلى أبي بكر وامتنعوا عن السمع والطاعة لأحد بعد رسول الله وكان الحطيئة العبسي ممن ارتد وناصرهم، وأخذ أسيرا في عهد الصديق ، ثم عاد وأسلم بعد حزم الخليفة أبي بكر الصديق ودفاعه عن بيضة الاسلام واعادة لحمة الامة جميعا بعد موت نبيها .
قال الأصمعي: كان الحطيئة سؤولاً ملحفاً دنيء النفس كثير الشر قليل الخير، بخيلاً قبيح المنظر رث الهيئة مغموز النسب فاسد الدين.
الزِبْرِقانُ بن بدر السعدي :
الزبرقان بن بدر بن امرئ القيس بن خلف بن بهدلة بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم التميمي السعدي، يكنى أبا عياش، وقيل: أبو شذرة، واسمه الحصين، وإنما قيل له الزبرقان لحسنه، والزبرقان القمر، وقيل: إنما قيل له ذلك لأنه لبس عمامة مزبرقة بالزعفران. وقيل: كان اسمه القمر، والله أعلم.
نزل البصرة، وكان سيداً في الجاهلية عظيم القدر في الإسلام، وفد على رسول الله في وفد بني تميم وكان يقال للزبرقان: قمر نجد، لجماله. وكان ممن يدخل مكة متعمماً لحسنه، وولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقات قومه بني عوف، فأداها في الردة إلى أبي بكر، فأقره أبو بكر على الصدقة لما رأى من ثباته على الإسلام وحمله الصدقة إليه حين ارتد الناس، وكذلك عمر بن الخطاب.
ضبط محل النزاع:
التعريض و التحقير أسلوب بلاغي
هذا الاسلوب يدلنا على مدى ترك الكلمة أثرا في نفوس القوم، والصارف الذي يصرف المعنى للذم قوله: دع المكارم
دعِ المكارمَ لا ترحلْ لبُغيَتِها واقعدْ فإنَّك أنتَ الطَّاعمُ الكاسي
أداة « لا » بين النهي والنفي
والحق انه لا يوجد نزاعِ، بل توهم قد يظهر -للوهلة الأولى- في قراءة البيت، حيث لو قريء -دون تمعن- تجد توجيها خفيا - يتركب في الذهن - يذهب بك الى ربط العامل بمعمول مشترك بخلاف ما هو واقع، وهنا الضمير الغائب في الفعلين (دع ، ترحل) قد يتوهم بتعلقه بالمكارم
وهنا في هذه القراءة -السريعة!!- يكون التوجه بالمدح هو أقرب للسياق - مع عدم الانتباه أو التعلق بالحركة الظاهرة على فعل ترحل(وهي السكون)
دع المكارم لا ترحل المكارم لبغيتها
وخلاصة عدم الالتفات الى حركة الفعل "ترحل" يقلب الفعل من حالة الطلب الى حالة الاخبار
فهنا اخبار بان المكارم لا ترحل الى غيرك، وبالتالي فانك ذو مكارم جواد لانك تطعم وتكسو الناس
وهذا المعنى قد يصح لو ان الحركة الظاهرة على الفعل (ترحل) هو الضمة بدلا من السكون، لأنها قلبت الفعل إلى حالة النفي
فالفعل يدور مع الحركة في كونه نفيا او نهيا، والحركة تعتمد على الأداة، والأداة « لا» تعبير عن النهي، وبالتالي فإن المعنى لا يستقيم بأي حال من الاحوال -إلا توهما- اذ ان الحركة الظاهرة على الفعل (ترحل) هي السكون مما يعني انها في حيز النهي
وعليه...
تكون "لا" أداة نهي ( حالة طلب ) فهو يطلب منه الا يرحل الى طلب المكارم أي: كناية عن عدم امتلاكها أصلا، فالمنطق يقول ان من يطلب شيئا يكون مفقودا عنده والا لما لزم الرحيل والبحث عنه!
لذلك يصبح المعنى:
لا تذهب لطلب المكارم لانك تفتقدها، وكون المكارم معدومة لديه فانه بالضرورة ان تكون دلالة التضمين لاسم الفاعل صورة مقلوبة لاسم المفعول به - كما سياتي في النقطة التالية، وإلا كان التناقض في البيت واضح:
فاعل في معنى مفعول وأسلوب النسب
وهو اطلاق اسم الفاعل وتنسب إليه الصفة والمقصود يكون المفعول به
بهذا الاسلوب يكون الطاعم يعني: المطعوم ، والكاسي تعني المكسو
قالوا-في لغة العرب- للجبل الذي لا نبت فيه حالِقٌ وإنما هو محلوق من النَّبات
لذا لا ينكر أن يخرج «المفعول» على « فاعل»،كقوله تعالى:
{فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ }(الحاقة:21) ومعناها: مرضية
{ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (الطارق: 6)}
وبلاغة هذا الاسلوب، إنما يريدون المبالغة والإجادة، وقال الفَرّاء: يعني المَكْسُوّ كماءٍ دافِق وعِيشة راضية
أي أنك ترضى بأن تشبع وتلبس، يقال: كسى الرجل يكسى إذا اكتسى ، فالمعنى يتضح بأنه: من كفي طعامه وكساءه، فاكتفى ولم يسع للمكارم
هو من باب النسب أي ذو طعام وذو كسوة، وعليه فإنه ذم ، أي أنه : ليس له فضل غير أنه يأكل ويشرب، وأنك ترضى بأن تشبع وتلبس
يتبع