في فقه "اللّعن واللّعان والملاعنة" بيانٌ لحقيقة المباهلة وأحكامها الشَّرعيَّة
صلاح عباس فقير
بين يدي البحث:
يدور أصل هذا البحث حول فقه المباهلة أو الملاعنة، التي قد يدعو إليها أحد الخصمين في سياق الدّعوة والدّعوى والاحتجاج، ثمّ أضفتُ إليه خاتمةً تتضمّن ثمرةً أساسيّةً تولّدت في سياق البحث الأصليِّ، ألا وهي اكتشاف وجود علاقةٍ وثيقةٍ بين مفهومي "اللّعن والتَّألِّي على الله" من ناحيةٍ، ومفهومي اللّعان بين الزوجين، والملاعنة بين الخصوم، فالحكم الشرعيّ بحرمة التَّألِّي على الله - عز وجل -، وإيقاع اللّعن على الآخرين، هو الذي يمثّل القاعدة العامّة في هذا الباب، بينما يمثل الحكم الشَّرعيُّ بوجوب اللّعان بين الزوجين، والحكم الشرعيّ بجواز الملاعنة بين المؤمنين وغيرهم في سياق الدعوة والاحتجاج، استثناءً من تلك القاعدة العامّة.
وكان من الواجب عندئذٍ أن يتمّ إعادة كتابة البحث، الأمر الذي تحول دونه الشّواغل، فاكتفيتُ بإضافة خاتمةٍ إلى أصل البحث الّذي كتبتُه أولاً، والله وليُّ التّوفيق.
مقدمة:
المباهلة أسلوب من أساليب الدَّعوة، يلجأُ إليه الدَّاعية أو خصمُه[1] أو كلاهما، بأن يبتهلَ إلى الله - عز وجل - ويسألَهُ أن يُهلك الظالم أو المبطل منهما، ليكونَ في ذلك حجَّةٌ قاطعةٌ في حسم الخصومة بينهما[2].
وخلافاً للعادة المستقرّة بين النّاس، وهي أنَّ الجدال والحوار ودفعَ الله الناسَ بعضهم ببعض، هو السبيلُ إلى إحقاق الحقِّ وإبطالِ الباطل، تجيء المباهلة من أجل إحداث أمرٍ خارقٍ لمجرى العادة، يُطلب فيه من الله - عز وجل - استناداً إلى علمه وقدرته وجبروته، أن يُهلكَ أحدَ الخصمين، ليكونَ في ذلك علامةٌ على صدق الطَّرف الآخر.
ولجوءُ الدّاعية إلى استخدام هذا الأسلوب في الدعوة والمجادلة، إنّما يكون في مقام التّحدّي، وقد يكون على سبيل المبادرة منه ابتداءً، وقد يكون على سبيل الإجابة لدعوة خصمه.
والمباهلة بهذا المعنى يبدو مفهومُها بَدَهيَّاً، فكلُّ طرَفين إذا كانا يرجعانِ إلى مرجعٍ واحدٍ، وثار بينهما خلافٌ، فمن الطّبعيِّ أن يلوذا بذلك المرجع ليحسم الخصومةَ والخلافَ بينهما، فإذا كان ذلك المرجع هو الله - عز وجل - الَّذي يؤمنان به معاً، وهو يعلم بما في صدورهما ولا يُحيطان بشيءٍ من علمه، فمن الطّبعيِّ عندما يصل الخلاف بينهما إلى طريقٍ مسدود أن يلجآ إلى الله - عز وجل - ويسألاه أن يحسم الخلاف بينهما بهذه الطَّريقة القاطعة في الدِّلالة على الحقِّ في الخصومة بينهما.
وقد عُرفت المباهلة بهذا المعنى البدهيّ في الجاهلية، كما عُرفت في صدر الإسلام، ومن ثمَّ استخدمها كثيرٌ من الدُّعاة القدامَى في عصور الإسلام المختلفة، بل وكذلك استُخدمت في عصرنا هذا من قبل بعض الدُّعاة، الأمر الَّذي أثار بعض المسائل والإشكالات، حول هذا الأسلوب: من حيث حقيقتُهُ الشّرعيَّة، وشروطُ استخدامه، وأحكامه الفقهيّة.
وبناءً على ذلك يطمح هذا البحثُ إلى بناء رؤية فقهيةٍ شرعيّة لأسلوب المباهلة، تستند إلى نصوص الكتاب والسنة المطهّرة، وتسعى إلى تجاوز الإشكالات المثارة حول المباهلة، وردِّ الخلاف فيها إلى الله ورسوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء: 59]
ويحتوي البحث بعد هذه المقدّمة، على ثلاثة فصول:
الفصل الأول: المباهلة في اللُّغة العربية.
الفصل الثَّاني: المباهلة في النُّصوص الشّرعيّة.
الفصل الثّالث: مسائل في فقه المباهلة.
(الفصل الأول) المباهلة في اللُّغة العربيَّة
أ*- مقدِّمة منهجيَّة:
إنَّ النّظر في المعاجم اللُّغويّة، من أجل تأصيل معاني المصطلحات والمفاهيم الشَّرعيَّة، ضرورةٌ منهجيّة، إذ إنَّ إدراك المعنى اللُّغويّ للمفهوم الشرعيّ، هو الخطوة الأولى نحو إدراك حقيقة معناه والمقصود به، وذلك كما يقول مجدّدُ أصول الفقه الإمام الشّاطبيُّ - رحمه الله - تعالى- لأنَّ "هذه الشريعة المباركة عربيَّة"، ويوضِّح: "أنَّ القرآن نزل بلسان العرب على الجملة، فطلبُ فهمه إنَّما يكون من هذا الطريق خاصَّةً، لأنَّ الله - تعالى - يقول: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) [يوسف: 2].. فمن أراد تفهُّمهُ، فمن جهة لسان العرب يُفهم، ولا سبيل إلى تطلُّب فهمه من غير هذه الجهة، هذا هو المقصودُ من المسألة"[3].
بناءً على ذلك يتمُّ في هذا الفصل النّظرُ في المعنى اللُّغويِّ لمفهوم المباهلة.
ب*- ثلاثة أصولٍ لغويّة تقومُ على مادة "بهل":
قال صاحبُ المقاييس: "الباء والهاء واللام، أصولٌ ثلاثةٌ:
أحدها التّخلية، والثاني جِنْسٌ من الدُّعَاء، والثَّالث قِلَّةٌ في الماء"[4].
وبناءً على ذلك يسوق ابنُ فارس الشَّواهد اللُّغويَّة الَّتي تشهد لكلِّ أصلٍ من الأصول الثلاثة الَّتي توصَّل إليها عبر استقرائه لموارد مادة "بهل".
وممَّا يؤكّد مصداقيَّة الاستقراء والاستنتاج اللّذين قام بهما ابن فارس، أنَّه يتَّفق مع المادة اللُّغويّة الَّتي جمعها صاحب القاموس المحيط، كما يتَّفق مع التَّحقيق الَّذي قام به صاحب "تاج العروس من جواهر القاموس"، ولإثبات ذلك سيتمُّ إيرادُ الشّواهد اللُّغويّة المذكورة في مادة "بهل" جميعِها كما وردت في "تاج العروس"[5]، وذلك مع إعادة ترتيبها وتوزيعها حسب المعاني الثلاثة الأصليَّة التي توصَّل إليها ابنُ فارس لمادة "بهل" الّتي منها اشتُقَّت كلمة المباهلة، لكي يتَّضح لنا بعدها مدى صحَّة استقراء ابن فارس واستنباطه، وذلك على النَّحو التالي:
أولاً: معنى التَّخلية:
يقول المرتضى الزَّبيديُّ: "وأَبْهَلَه: تَرَكهُ وخَلَّاه. أبْهَلَ النَّاقَة: أَهْمَلَها يَحْلُبها مَن شاء، وفي التهذيب: عَبهَلَ الإِبِلَ: أَهْمَلها، مِثْل أَبْهَلَها، والعَينُ مُبدَلةٌ من الهمزة. وناقَةٌ باهِلٌ: بَيِّنَةُ البَهَلِ مُحَرَّكَةً لا صِرارَ علَيها يَحْلُبها مَن شاء. أوْ لا خِطامَ عليها، تَرعَى حيث شاءت أو التي لا سِمَةَ عليها ج: بُهْلٌ كَبُرْدٍ ورُكَّعٍ قال الشَّنْفَرَي:
ولستُ بمِهْيافٍ يُعَشِّى سَوامَهُ *** مُجَدَّعةً سُقْبانُها وهي بُهَّلُ
وقيل: إنَّ دُرَيدَ بنَ الصِّمَّة أراد أن يُطلّقَ امرأته، فقالت: أبا فلان، أتطلِّقني وقد أطعمتُك مَأْدُومِي، وأبْثَثْتُك مَكتُومِي، وأتيتُكَ باهِلاً غيرَ ذاتِ صِرار أي أبحتُكَ مالِي. بَهِلَت الناقَةُ كفَرِحَتْ: حُلَّ صِرارُها وتُرِكَ ولَدُها يَرضَعُها، وقد أَبْهَلْتُها تَركتُها بَهَلاً فهي مُبهَلَةٌ كمُكْرَمةٍ ومُباهِلٌ، واسْتَبْهَلَها: احْتَلَبَها بِلا صِرارٍ، قال ابنُ مُقبِل:
فاسْتَبْهَلَ الحَرْبَ مِن حَرّانَ مُطَّرِدٍ *** حتّى يَظَلَّ على الكَفَّيْنِ مَرهُونا
أراد بالحَرّانِ الرمْحَ".
ثانياً: كونُها جنساً من الدُّعاء:
يقول المرتضى الزَّبيديُّ:
"البَهْلُ: اللَّعْن يقال: بَهَلَه: أي لَعَنه".
ثالثاً: قلَّةٌ في الماء:
يقول المرتضى الزّبيديّ:
"البَهْلُ مِن المالِ[6]: القَلِيلُ قاله الأُموِيُّ، كذا في المُجْمَل والمَقاييس، وأنشد ابنُ سِيدَهْ:
وأعطاكَ بَهْلاً مِنْهُما فرَضِيتَهُ *** وذُو اللُّبِّ لِلبَهْلِ الحَقِيرِ عَيُوفُ
قال أبو عمرو: البَهْلُ: الشيء اليَسِيرُ الحَقِيرُ. والتَّبَهُّلُ: العَناءُ بما يُطْلَبُ وفي المُحْكَم: بالطَّلَبِ" انتهى توزيع مادة "بهل" من "تاج العروس"، على المعاني الثلاثة الأصليّة التي ذكرها لها ابنُ فارس، وبناءً على ذلك لا نلحظ أدنى تكلُّفٍ فيما ذهب إليه ابن فارسٍ.
وبذلك يُمكن الاطمئنان إلى ما ذهب إليه عموماً، من أنَّ لمادة "بهل" ثلاثة معانٍ أصليّة، وهي: التَّخليةُ، جنسٌ من الدعاء، قليلٌ من الماء.
فما يتعلَّق بموضوع بحثنا هو الأصل الثّاني، فالمباهلة جنسٌ من الدعاء، وذلك لا يمنع من استعمال الأصلين الآخرين، أو أحدهما لإيضاح الأصل الأول، وسيجيء بإذن الله تطبيق لذلك[7].
ت*- المباهلة باعتبارها جنساً من الدُّعاء:
وبخصوص معنى المباهلة باعتبارها جنساً من الدّعاء، يقول ابن منظور في "لسان العرب"[8]: "والبَهْل اللَّعْنُ" مورداً شواهدَ من اللُّغة تؤكد هذا المعنى، ويبني على ذلك فيقول: "وباهَلَ القومُ بعضُهم بعضاً وتَباهلوا وابتهلوا تَلاعنوا،... ومعنى المباهلة: أَن يجتمع القوم إِذا اختلفوا في شيءٍ، فيقولوا: لَعْنَةُ الله على الظَّالم منَّا. ".
ثمَّ يقول: "وأَصلُه أي الابتهال- التَضَرُّع والمبالغة في السُّؤال"، ويوردُ من شواهد اللُّغة والشِّعر ما يؤكد كلامه.
ثمّ يجمع بين المعنيين السّابقين -أي اللَّعن والتَّضرُّع- قائلاً: "والابتهالُ الاجتهاد في الدُّعاء وإِخْلاصُه لله - عز وجل - وفي التَّنزيل العزيز: (ثم نَبْتَهِلْ فنجعلْ لعنة الله على الكاذبين) أَي: يُخْلِصْ ويجتهدْ كلٌّ منا في الدُّعاء واللَّعْنِ على الكاذب منَّا".
ث- المباهلة عند العرب:
المباهلة بمعنى "أَن يجتمع القوم إِذا اختلفوا في شيءٍ، فيقولوا: لَعْنَةُ الله على الظَّالم منَّا. "[9]، إذا كان لها مكانٌ في لغة العرب، فمن المتوقَّع أن يكون لها مكانٌ كذلك في حياتهم، وهذا ما يُمكن أن نفهمه ممَّا رواه بسنده صاحبُ كتاب الأغاني "عن ابن الأعرابيِّ وأبي عمرو الشيَّباني، قالا: كان من حديث عبيد بن الأبرص أنه كان رجلاً محتاجاً ولم يكن له مالٌ، فأقبل ذات يوم ومعه غَنيمةٌ له، ومعه أخته ماوية، ليُوردا غنمها الماء؛ فمنعه رجلٌ من بني مالك بن ثعلبة وجبهه، فانطلق حزيناً مهموماً للذي صنع به المالكيُّ، حتى أتى شجراتٍ فاستظلَّ تحتهنَّ فنام هو وأخته، فزعموا أنَّ المالكيَّ نظر إليه وأختُه إلى جنبه، فقال:
ذاك عبيدٌ قد أصاب مَيّا... يا ليتَه ألقحها صبيًّا فحملت فوضعت ضاوياًّ...
فسمعه عَبيدٌ فرفع يديه ثم ابتهل فقال: اللهمَّ إن كان فلان ظلمني ورماني بالبهتان فأدِلْني منه، أي: اجعل لي منه دولة وانصرني عليه، ووضع رأسه فنام ولم يكن قبل ذلك يقول الشعر، فذُكر أنه أتاه آتٍ في المنام بكبة من شعر حتى ألقاها في فيه، ثم قال: قم، فقام وهو يرتجز يعني بني مالك، وكان يقال لهم بنو الزِّنية، يقول:
أيا بني الزِّنْية ما غرّكمُ *** فلكُم الويلُ بسربال حَجَرْ
ثم استمر بعد ذلك في الشِّعر، وكان شاعرَ بني أسد غير مدافع"[10].
الشّاهد في هذا النَّصّ المنسوب إلى الجاهليّة، هو قول الرّاوي عن عبيد بن الأبرص أنه: "ابتهل فقال: اللهمَّ إن كان فلان ظلمني ورماني بالبهتان فأدِلْني منه"، ففي هذا النَّصّ تضرُّع إلى الله، واحتكامٌ إلى عزَّته وجبروته، وهو إن لم يدُلَّ على وجود المباهلة في الجاهليّة، يُشير إلى وجود بعض مقوِّماتها: الابتهال إلى الله - عز وجل - وسؤاله النُّصرةَ على الخصم.
وفي هذا السّياق يمكن الاستئناس كذلك بما ذكره ابن جرير الطّبري في شرحه لبيتِ شعرٍ جاهليّ، حيث يقول: "وقال لبيد، وذكر قوماً هلكوا فقال: * نظر الدهر إليهم فابتهَل * يعني: دعا عليهم بالهلاك"[11].
"وَكَانَتِ الْعَرَبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تُحَيِّي مُلُوكَهَا: "أَبَيْتَ اللَّعْنَ" وَمَعْنَاهُ: أَبَيْتَ أَيُّهَا الْمَلِكُ أَنْ تَأْتِيَ مَا تُلْعَنُ عَلَيْهِ"[12].
ومن أقوى الأدلَّة على أنّ العرب في الجاهليّة كانوا يعرفون أسلوب المباهلة، ما ثبت في القرآن الكريم والسّيرة النّبويّة، من المباهلة الّتي دعا إليها مشركو مكة، في مواجهة الدَّعوة الإسلاميّة على يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ممَّا سوف يجيء بإذن الله مفصَّلاً في موضعه[13].
ث*- خاتمة:
يتبيَّنُ من التّأمل في هذه المادة اللّغوية، أنَّ مادة "بهل" باعتبارها جنساً من الدُّعاء تدلُّ على معنيين أساسيين:
الأول: اللَّعنُ، ويختلف معناه بحسب ما إذا أُضيف إلى الله - عز وجل - أو إلى خلقه، فهو من اللهِ: "الإِبْعادُ والطَّرْد"، "ومن الخَلْق: السَّبُّ والدُّعاء"[14]، وقيل هو: "الإِبْعادُ والطَّرْد من الخير"[15] عموماً.
الثّاني: التَّضرُّع والمبالغة في السُّؤال.
ويمكن الآن رسم تصوّر مبدئيِّ للمباهلة: أنَّها جنسٌ من الدُّعاء فيه تضرُّعٌ ولعن.
الفصل الثَّاني المباهلة في النُّصوص الشّرعيّة
مقدمة:
يقول ابن القيِّم - رحمه الله -: "السُّنَّة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجَّةُ الله، ولم يرجعوا؛ بل أصرُّوا على العِناد أن يُدعَوا إلى المباهلة، وقد أمرَ الله - سبحانه - بذلك رسوله - صلى الله عليه وسلم -"[16]، وهذا التّقرير القيِّمُ من ابن القيِّم، لا شكَّ يستند إلى استقراءٍ وتتبُّع لخطِّ الدَّعوة، في عهد النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الَّذي بدأ بمكَّة حيث كانت مواجهةُ المشركين من أهل الباطل، ثمَّ انتقلت إلى المدينة حيث كانت مواجهةُ اليهود، ثمّ في أواخر العهد بالمدينة، كانت مواجهة النَّصارى، وذلك في عام الوفود من السّنة التّاسعة للهجرة، وقد أشار العلامة ابن كثير إلى هذه المباهلات عند تعليقه على قوله - تعالى -: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً) [مريم: 75]، قال ابن كثير: "وهذه مباهلة للمشركين... كما ذكر - تعالى - مباهلة اليهود في قوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [الجمعة: 6]... وكما ذكر - تعالى -المباهلة مع النصارى في سورة "آل عمران"[17].
ويجيء الآن ذكرُ المباهلات بين أهل الحقِّ وأهل الباطل بأصنافهم الثّلاثة، في عهد الرّسول - صلى الله عليه وسلم - وذلك على النَّحو التّالي:
أ*. المباهلة مع المشركين:
لقد عُرفت المباهلةُ في عصر الدّعوة الأول بمكة، ولم تكن مباهلةً بمعنى أنَّ كلا الطَّرفين "المؤمن والمشرك" قد تداعيا لذلك بصورةٍ متقابلة في مجلسٍ واحد، ولكن بمعنى أنَّ سياق الدّعوة الإسلاميّة عموماً، كان يجمعُ بينهما جمعاً اعتباريّاً، ثبت في إطاره وجودُ معنى الابتهال إلى الله - عز وجل -، والطلبُ منه استناداً إلى علمه وقدرته وجبروته، أن يتدخّل تدخُّلاً مباشراً "إلهيًّا"، يحسمُ به هذا الخلافَ الكبيرَ بين الفريقين.
لقد قام المشركون بمباهلةٍ، كما صدرت عن المؤمنين مباهلةٌ أخرى، وذلك على النَّحو التالي:
أولاً: مباهلة المشركين:
تواترت النُّصوص الشرعيَّة، من الكتاب والسنة في الإشارة إلى ما أعلنه المشركون في مكة، من لجوءٍ إلى الله - عز وجل - واحتكامٍ إليه، في شأن الدّعوة الجديدة، فمن ذلك قوله - تعالى -: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال: 32].
ويذكر ابن كثير رواياتٍ مختلفة في تحديد شخص مَن دعا بهذا الدُّعاء الجاهل، فذكر: "عن أنس بن مالك قال: هو أبو جهل بن هشام... [و] عن ابن عبَّاس... قال: هو النَّضر بن الحارث بن كلدة،... وكذا قال مجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، والسدي... [و] عن ابن بُرَيْدة، عن أبيه قال: رأيتُ عمرو بن العاص واقفاً يوم أُحُدٍ على فرس، وهو يقول: اللهمَّ، إن كان ما يقولُ محمدٌ حقًّا، فاخسف بي وبفرسي"[18].
ثم يورد ابن كثير في ذلك قولاً جامعاً رواه عن قتادة يُفيد بأنَّ القائل لهذا القول هم: "سَفَهَةُ هذهِ الأمَّة وجهلتُها"[19]، وعلى رأسهم أبو جهلها عمرو بن هشام: الّذي ثبت في دواوين السّيرة النّبويّة، ما دعا إليه من مباهلةٍ يوم بدرٍ، حيث قال: "كلا، و الله لا نرجعُ حتى يحكمَ اللهُ بيننا وبين محمَّد! "[20] ثم قال مبتهلاً: "اللَّهمَّ، أقطعَنا للرَّحم، وآتانا بما لا نعرفه، فأحِنْه الغداةَ، اللَّهمَّ! أيُّنا كان أحبَّ إليك وأرضى عندك؛ فانصره اليوم"[21].
"وهذا ممَّا عِيبُوا به" كما قال العلامة ابن كثير، وقال: "كان الأولى لهم أن يقولوا: اللَّهمَّ، إن كان هذا هو الحقَّ من عندك، فاهدنا له، ووفِّقنا لاتِّباعه! "!.
بناءً على ما سبق يُمكن تقرير ما يلي:
أولاً: المعنى الجوهريُّ للابتهال، في سياق الدَّعوة لهذه المباهلة، يتمثّل في كونه جنساً خاصّاً من الدُّعاء، يلجأ فيه المبتهل إلى الله - عز وجل - طالباً منه النُّصرة، بتدخُّلٍ إلهيٍّ مباشر، يخرق حجاب السّببية، يُعتمد فيه على علم الله وقدرته وجبروته، لا على تهيئة أسباب القوّة مثلاً.
ثانياً: هذا الابتهال لم يكن تعبيراً ذاتياًّ، بل كان إعلاناً عامّاً يُعبِّر عن موقف واضح من الدّعوة الجديدة، ويواجهها بقوة، فالطرف الآخر كان حاضراً في وعي المباهل وفي واقعه.
ثالثاً: لو افترضنا أنَّ مضمون هذه المباهلة قد تحقّق لصالح المشركين، فلم تنزل عليهم حجارةٌ من السَّماء، لكان موقفُ كفار مكةَ قويّاً، إذ يثبت بناءً على ذلك: أنَّ هذا الّذي أتى به محمدٌ ليس هو الحقَّ من عند الله! ولكن ذلك لم يحصل لضعف المباهِل، كما سوف يأتي.
رابعاً: وهذا الافتراض يؤكد أنّ ذلك الإعلانَ من مشركي قريش كان مباهلةً حقيقيّة مكتملة العناصر، وإن صدرت بإرادة منفردة، لكن الطَّرف الآخر كان حاضراً فعلاً في سياق الدّعوة الَّذي وُلدت فيه المباهلة، كما كان حاضراً حُكماً في سياق المباهلة ذاتها، إذ لولا حضوره هذا لما كانت المباهلة ذاتها.
خامساً: تحقَّقت مباهلةُ المشركين، وكاد أن ينتج عنها أثرُها، الّذي هو نزول العذاب عليهم من السماء،
وهذا لا يتعارض مع حقيقة أنّ هذا الإعلان في ذاته كان متهافتاً..
إذن، تهافتُ الموقف القرشيِّ الداعي إلى المباهلة، لم يفرض على صاحب الدّعوة بذل جهدٍ كبيرٍ في ردّها أو الرّد عليها، فهم بمجرد إعلانهم المباهلةً صاروا مستحقّين للعذاب، ونزول الحجارة عليهم من السماء، لم يمنع من ذلك سوى وجوده - صلى الله عليه وسلم - بين ظهرانيّهم، يقول الله - تعالى -بعد تقرير "موقفهم" وبيان مباهلتهم: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) [الأنفال].
يقول ابن كثير: "يخبر - تعالى - أنهم أهلٌ لأن يعذِّبهم، ولكن لم يوقع ذلك بهم لبركة مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم؛ ولهذا لما خرج من بين أظهرهم، أوقع الله بهم بأسَه يوم بدر، فقُتل صناديدُهم وأُسِرت سَراتهم.
وأرشدهم - تعالى - إلى الاستغفار من الذُّنوب، التي هم متلبِّسون بها من الشِّرك والفساد... فلولا ما كان بين أظهرُهم من المستضعفين من المؤمنين المستغفرين، لأوقع بهم البأس الذي لا يُردُّ، ولكن دفع عنهم بسبب أولئك، كما قال - تعالى - في يوم الحديبية: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)[الفتح: 25]. "[22].
ثانياً: مباهلة المؤمنين للكافرين:
وردت هذه المباهلة في قوله - تعالى -: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا) [مريم75].
ونقرأ في تفسير ابن كثير: "يقول - تعالى -: (قُلْ) يا محمد، لهؤلاء المشركين بربِّهم المدَّعين، أنَّهم على الحقِّ وأنَّكم على الباطل: (مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ) أي: منَّا ومنكم، (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا) أي: فأمهله الرَّحمن فيما هو فيه، حتى يلقى ربه وينقضي أجله، (إِمَّا الْعَذَابَ) يُصيبه، (وَإِمَّا السَّاعَةَ) بغتةً تأتيه، ( فسَيَعْلَمُونَ) حينئذ (مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا) [أي] في مقابلة ما احتجوا به من خيرية المقام وحسن النَّدي"[23].
يقول العلامة ابن كثير: "وهذه مباهلةٌ للمشركين الَّذين يزعمون أنَّهم على هدىً فيما هم فيه"[24]. "أي: من كان في الضَّلالة منَّا أو منكم، فزاده الله ممَّا هو فيه ومَدّ له، واستدرجه"[25].
ويقول ابن جرير الطّبريّ في تفسير هذه الآية: "يقولُ - تعالى -ذكره لنبيِّه محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -: (قل) يا محمَّد، لهؤلاء المشركين بربِّهم -القائلين: إذا تُتلى عليهم آياتُنا، أيُّ الفريقين منَّا ومنكم خيرٌ مقاماً وأحسن نديًّا-: مَن كان منَّا ومنكم في الضَّلالة جائراً عن طريق الحقِّ، سالكاً غيرَ سبيل الهدى، فليمدُدْ له الرَّحمن مدًّا: يقول: فليُطوِّلْ له الله في ضلالته، وليُملِه فيها إملاءً"، قال ابن جرير: "وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل"، ثمّ روى بسنده "عن مجاهدٍ، في قوله: (فليمدُد له الرَّحمن مدَّا) فليَدَعْهُ الله في طغيانه"[26].
ونلحظ أنَّ المباهلة في هذه الآية، لم تكن عاقبتُها هلاكَ أهل الباطل، ولكن الإملاءُ لهم وإيكالهُم إلى أنفسهم، وذلك يتّفق مع معنى التّخلية، وهو أحد المعاني الثَّلاثة لمادة "بهل"، "وتحقيق معنى الكلمة: أنَّ البَهل إذا كان هو الإرسال والتَّخلية، فكان مَن بهله الله فقد خلاه الله ووكله إلى نفسه، ومن وكله إلى نفسه فهو هالك لا شكَّ فيه"[27]، إذن، فاشتراك الدِّلالتين -أي اللَّعن والتَّخلية- في أصلٍ واحدٍ، وهو مادَّة "بهل"، جعلَ إحداهما تُسهم في إيضاح معنى الأخرى[28].
وهذه المباهلة، وإن لم تجعل الهلاكَ عاقبةً للمُباهل المبطل في أوّل الحال، لكنّها أغلقت أمامه كلَّ سبيلٍ للهداية، ليظلَّ سادراً في غيِّه وطغيانه إلى أن يتنزَّل عليه العذاب في ثاني الحال، أو يلقى ربَّه، فيُوفِّيه حسابه، إذن فهذه المباهلةُ تسدُّ باب التّوبة، على أهل الباطل ما لم ينكُلوا.
يتبع