تحزيب القرآن وهدي السلف في ذلك
والذي يحمل لـواء الـدعـوة وراية الإصلاح أولى الناس بأن يهتم بنفسه وتربيتها ، وصلتها بالله-عز وجل- ، وأولاهم بأن يأخذ الزاد في سفره إلى الله والدار الآخرة.
وما تـقـرب إلى الله بأفـضـل من تلاوة كتابه والوقوف عند معانيه وحدوده ؛ فحريٌّ بنا أن نـضـرب مـن ذلك بـسـهـم وافــر ، ومن رحـمـة الله بعباده وفضله عليهم :أن شرع لهم ما يتعبدون به إليه سبحانه.
ولما كـان تـحـزيـب الـقـرآن من السنن المهجورة -بل المجهولة -عند كثير من طلاب العلم فـضـلاً عن عـامـة الـنـاس. في حـين كان الأمر متواتراً ومعلوماً عند السلف ، فقلما تقرأ في ترجمة أحدهم إلا وتجد أنه كان يختم القرآن في كذا وكذا. لذا رأيت أن أجـمـع بعض ما ورد في ذلك لعل الله -عز وجل- ينفع به.
تمهيد: قال ابن فارس (2/55):
"الحاء والـزاي والـبـاء أصل واحد وهو: تجمع الشيء ، فمن ذلك "الحزب" وهو الجماعة من الناس، قال تعالى((كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)). والطائفة من كل شيء حزب. يقال: قرأ حزبه من القرآن"
وقـال في "الـنـهـايـة" (1/376) :"الحـزب مـا يجعله الرجل على نفسه من قراءة أو صلاة كـالـوِرد ، والـحـزب الـنـوبة في ورد الماء. ومنه حديث أوس بن حذيفة :(سألت أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم- كيف تحزبون القرآن؟) .
ومـعـنى ذلـك: أن يجـعـل الإنسان لنفسه نصيباً يومياً يقرؤه ويتعاهد نفسه عليه ، بحيث يختم القرآن في كل شهر، أو عشرين، أو خمسة عشر، أو عشر، أو سبع، أو غير ذلك.
1- وقد ورد في السنة النبوية استعمال ذلك المصطلح في قوله-صلى الله عليه وسلم- :"من نام عن حزبه""، وقوله:"إنه طرأ على حزبي من القرآن"".
وقـد بـوب غـيـر واحد من الأئمة بتحزيب القرآن. وقال عقبة بن عامر: (ما تركت حزب سورة من الـقـرآن). وقال نافع:(لا تقل: ما أحزبه). وسوف يأتي تخريج هذه النصوص إن شاء الله- عز وجل-.
2- واستعمل عند السلف بلفظ الجزء ، فقد ورد في كلامه-صلى الله عليه وسلم-:"قرأت جزءاً من القرآن"". وقال عبد الله بن عمرو:(هـذا جـزئـي الـذي أقـرأ بــه الـلـيـلـة). وعن عائشة:(إني لأقرأ جزئي). وعن ابن عباس وابن عمر :(أنهما كانا يقرآن أجزاءهما بعدما يخرجان من الخلاء).
3- واستعمل بلفظ الوِرد ، فعن ابن عمر قال:(كنت في قضاء وِردي) ، وعن الحسن:(أنه كان يقرأ ورده من أوَّل الليل).
المسألة الأولى:بعض فضائل تلاوة القرآن:
إن الـنـصـوص الـدالـة على فـضـل القرآن أشهر من أن تورد ، إنما نورد هنا بعض فضائل تـلاوتـه ؛ قـال تعالى:((إنَّ الَذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وأَقَامُوا الصَّلاةَ وأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراً وعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَـــارَةً لَّن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ ويَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ))، وقال -عز وجل-:((لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ ويَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ويُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ *ومَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ واللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ )).
أما من السنة :فالأدلة على فضله كثيرة ، ومن فضائله :
1- أن المـاهـر بـه مع السفرة الكرام البررة ، والذي يتتعتع فيه له أجران ؛ كما في حديث عائشة عند الشيخين والترمذي وأبي داود.
2- أنه يقال له يوم القيامة:(اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا)؛ كما أخرجه أحمد وأهل السنن إلا النسائي من حديث عبد الله بن عمر مرفوعاً.
3- أن له بكل حرف حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها كما أخرجه الترمذي والدارمي من حديث ابن مسعود.
4- أن الآية منه خير من الخلفة السمينة ، كما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة.
5- أن مثل المؤمن الذي يقرؤه مثل الأترجة ، كما رواه الستة إلا ابن ماجه عن أبي موسى الأشعري.
6- أنه يأتي شفيعاً لأصحابه يوم القيامة ، كما رواه مسلم عن أبي أمامة.
7- تنزل السكينة لقراءته ، كما رواه الشيخان من حديث البراء.
8- أنه يقود قارئه يوم القيامة لتاج الكرامة ورضا الله-عز وجل- ، كما أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة.
المسألة الثانية : مشروعية تحزيب القرآن:
1- حديث عـبـد الله بن عمرو ، وهو حديث طويل مشهور ، رواه جمعٌ من الأئمة بينهم الأئـمـة الـسـتة. ولفظه عند مسلم :(كنت أصوم الدهر ، وأقرأ القرآن كل ليلة ، قال: فإما ذكرت لرسـول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وإما أرسل لي ، فأتيته ، فقال : "ألم أُخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن كل لـيـلـة ؟" فقلت: بلى يا نبي الله؛ ولم أرد إلا الخـيـر، قال:" فـإن بحـسـبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام... ، ثم قال : "واقرأ القرآن في كل شهر" ، قال: قلت: يا نبي الله: إني أطيق أفضل من ذلك ، قال :"فاقرأه في سـبـع، ولا تـزد عـلــى ذلك ، فإن لزوجك عليك حقاً ، ولزورك عليك حقاً ، ولجسدك عليك حقاً"، قال : فشددت ؛ فشدد علي ، قال: وقال لي النبي-صلى الله عليه وسلم- :"لعلك يطول بك العـمــر" ، فصرتُ إلى الذي قال لي النبي-صلى الله عليه وسلم- ، فلما كبرت وددت أني قبلت رخصة النبي-صلى الله عليه وسلم-.
2- حديث:"من نام عن حزبه"" وقد أخرجه مسلم (747) ، وأبو داود (1313)، والنسائي (1790) ، والترمذي (581) ، وابن ماجه (1343) ، ومالك في "الموطأ "(1/ 200) ، وأبو عـبـيد في "فضائل القرآن" (285)، وعبد الرزاق في "مصنفه" (4747)، وابـن حـبـــان فـي "صحيحه" كما في الإحسان (2634).
ولفظه عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نــام عن حزبه أو عن شيء منه ؛ فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر: كتب له كأنما قرأه من الليل".
3- ما رواه أبو داود (1396) والمرزوي في "قيام الليل" كما في "المختصر" (157) عن ابن الهاد قال:"سـألـنـي نافع بن جبير بن مطعم فقال لي : في كم تقرأ القرآن ؟ ، فقلت: ما أحزبه، قال لي نافع : لا تقل "ما أحزبه" ؛ فإن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال: "قرأت جزءاً من القرآن"، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود".
4- حـــديث أوس بن حذيفة الثقفي ولفظه:(قدمنا على رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في وفد ثقيف ، فنزَّلوا الأحلاف على المغيرة بن شعبة ، وأنزل رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بني مالك في قبة له ، فكان يأتينا كل ليلة بعد العشاء ؛ فيحدثنا قائماً على رجليه حتى يُراوح بين رجليه، وأكثر ما يحدثنا ما لقي من قومه من قريش، ويقول :(ولا سواء، كنا مستضعفين مستذلين ، فلما خرجنا إلى المدينة كانت سجال الحرب بيننا وبينهم،ندالّ عليهم ويدالُّون علينا)، فلما كان - ذات ليلة أبطأ عن الوقت الذي كان يأتينا فيه، فقلت: يا رسول الله: لقد أبطأت علينا الليلة؟ ، قال :"إنه طرأ علي حزبي من القرآن ، فكرهت أن أخرج حتى أتمه"، قال أوس : فسألت أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسـلـــم- كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: ثلاث ، وخمس ، وسبع ، وتسع ، وإحدى عشرة ، وثلاث عشرة ، وحزب المفصل".
والحديث قال فيه أحمد شاكر فيما نقله في "تهذيب السنن"(2/113) عن ابن عبد البر:أن ابن معين قال:"حديثه عن النبي-صلى الله عليه وسلم- في تحزيب القرآن ليس بالقائم". وضـعـفـــه الألباني في دفاع عن الحديث ، كما في "ضعيف ابن ماجه" (283). لكن حسنه الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" (1/276) والحافظ ابن حجر كما في "الفتوحات" لابن علان (3/229). وأورده الحافظ ابن كثير في "تفسيره" محتجاً به على أن المفصل يبتدئ من سورة (ق). واحتج به شيخ الإسلام ابن تيميه في حديثه عن التحزيب بالسور والأجزاء كما سيأتي.
وتد تواتر ذلك عن السلف -رضوان الله عليهم - ؛ فعندما تقرأ في ترجمة أحدهم تجد أنه كان يختم القرآن في كذا وكذا ، وسيأتي بعض هذه الآثار.
المسألة الثالثة: هدي السلف في تحزيب القرآن:
أولاً: ذكر من روي عنه الختم في سبع :
أخرج أبو عبـيـد في "فضائل القرآن" (291) بإسناده عن عـائـشـة - رضـي الله عـنـهـا - قالت:"إني لأقرأ جزئي - أو قالت: سبعي - وأنا جالسة على فراشي أو على سريري".
وأخرج الطبراني كما في "المجمع" (2/269) وقال: رجاله ثقات ، عن الأحوص قال: قال عبدالله."لا يُقرأ القرآن في أقل من ثلاث ، اقرأوه في سبع ، ويحافظ الرجل على حزبه" . وكذا أخرجه ابن أبي شيبة (502/2) دون قوله:"وليحافظ"..
وأخـرج أبو عـبـيـد في "فضائل الـقـرآن" (263) ، والبيهقي في "السنن" (2/296) عن ابن مسعود -رضي الله عنه- :"أنه كان يختم في غير رمضان من الجمعة إلى الجمعة".
وقال الحافظ: أخرج ابن أبي داود :عن عثمان وابن مسعود وتميم الداري:" أنهم كانوا يختمون في سبع" بأسانيد صحيحة.
وأخرج أبو عبيد (266) عن إبراهيم:" أنه كان يقرأ القرآن في كل سبع" ، و كذا رواه ابن أبي شيبة (2/501).
وأخرج ابن أبي شيبة (2/501) ، والفريابي (138) :عن هشام بن عروة قال:" كان عروة يقرأ القرآن في كل سبع".
وأخرج أيضاً (2/501) عن أبي مجلز:" أنه كان يؤم الحي في رمضان ، وكان يختم في سبع".
وأخرج ابن أبي شيبة بإسناده (2/501) :عن إبراهيم قال:" كان عبد الرحمن بن يزيد يقرأ القرآن في كل سبع ، وكان علقمة والأسود يقرؤه أحدهما في خمس والآخر في ست ، وكان إبراهيم يقرأه في سبع".
وقال ابن قـدامــــة في "المغني" (2/611) :"قال عبد الله بن أحمد كان أبي يختم القرآن في النهار في كل سبعة، يقرأ كل يوم سبعاً ، لا يكاد يتركه نظراً ، وقال حنبل :كان أبو عبد الله يختم من الجمعة إلى الجمعة". وقال إسحاق بن هانىء في "مسائله" (506) : "وسئل : في كم يقرأ القرآن ؟ قال :أقل ما يقرأ في سبع".
ثانياً: ذكر من روي عنه الختم من الثلاث إلى السبع :
سبق عن علقمة والأسود:" أنهما يقرآن في خمس وست ".
قال ابن علان (3/230) :"قـال الـحـافـــظ: أخرج ابن أبي داود من طريق مغيث بن سمي قال: كان أبو الدرداء يقرأ القرآن في كل أربـــع. ومن طريق بلال بن يحيى: لقد كنت أقرأ بهم ربع القرآن في كل ليلة ، فإذا أصبحت قال بعضهم: لقد خففتَ بنا الليلة".
ثالثاً: ذكر من روي عنه الختم في أقل من ثلاث :
وذكـر ابـن عـلان (231/2) :عن ابن أبي داود أنه روى عن الأسـود بن يزيد:" أنـه كـان يـخـتـم الـقـرآن في رمـضـان كـل لـيـلـتين" وقال: سنده صحيح ، وأخرج الحافظ من طريق الدارمي عن سعيد بن جبير:" أنه كان يخـتـم الـقـرآن في كـل ليلتين". قال: وأخرجه ابن أبي داود، قال: وأخرج ابن سعد عن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف أنه كان يفعل ذلك. ومـن طـريـق واصـل بن سلـيـمـان قال:"صحبت عطاء بن السائب فكان يختم القرآن في كل ليلتين".
يتبع