الإرادة اللفظية والمعنوية وأثرهما في وصف الحكم الشرعي
وفهم المقصدية- دراسة أصولية
د. أمجد سعود سلامه القراله[*]
ثالثا: الإرادة اللفظية باعتبارها لَقباً:
تعرف الإرادة اللفظية لقباً على أنَّها: "أداة التعبير التي يقوم على أساسها إعطاء الوصف الشرعي للواقعة أو العقد المبرم وتحريرهما بحكم شرعي من خلال النظر إلى الألفاظ المكوّنة للعقد أو الشارحة للواقعة لحملها على أصل فقهي معتبر", ذلك أنَّ اللفظ في العقود أو الوقائع إِنَّما يُثبت حقيقة وشكلية العقد، ولذا فإن كثيرا من العقود والوقائع يتعذر فهمها أو إدراك تكييفها, إلاَّ بالاستناد إلى الألفاظ المكوّنة لها والشكل, لذا فإنَّ العلاقة بين الإرادة واللفظ قد تشكلت على أساس فهم المقصدية، ذلك أن هناك كثيرا من الوقائع أو العقود, التي تختلط بها الألفاظ ابتداءً وانتهاءً, فيخفى على من له صلاحيةُ وصف الحكم مدلول الشارع, من حيث الحِل والحُرمة, أو خفاء الآثار المترتبة عليها, فيسعى بالتالي إلى تفسير ألفاظ العقود والوقائع, من حيث مدلولِها ووصفِها الفقهي وترتب آثارها ابتداءً وانتهاءً.
المطلب الثاني
سند الإرادة اللفظية وحجية اعتبارها
لعل غاية الإرادة الظاهرة هي التعبير عن الإرادة الحقيقية بكلام أو فعل صادر عن المتعاقد، وهي المنفردة في ميدان البيان, وبذلك تكون دليلاً على وجود الإرادة الحقيقية([13]), وما يهمنا هنا هو إفراد رأي الفقهاء الذين اعتدّوا بالإرادة الظاهرة, سواء من أهل القانون أو الفقه.
ونذكر بداية رأي فقهاء القانون في الإرادة الظاهرة.
فقد اعتدّ بالإرادة الظاهرة مجموعة من علماء الفقه القانوني, وعلى رأسهم الأستاذ السنهوري، حيث أوجدوا نظرية تسمى بنظرية الإرادة الظاهرة، أو (الإعلان عن الإرادة) ([14]), حيث إنهم اعتدّوا بالإرادة في مظهرها الاجتماعي، أما التي لم تظهر فلا أثر لها، لأنَّ العبرة بالتعبير, أن يكون شيئا محسوسا كليا, يرتب القانون عليه أثرا, دون الحاجة إلى البحث فيما انطوت عليه النفس الإنسانية، حيث إن الأخذ بهذه النظرية يؤدي إلى استقرار المعاملات والعقود([15]).
وحتى لا تخالف نظريتهم سلطان الإرادة، فإنَّهم اشترطوا أن يكون وراء المظهر الخارجي الذي تأخذه الإرادة, إرادة كامنة مقتصرة على إرادة التعبير فقط([16]), ويذكر لنا الأستاذ السنهوري مثالا على ذلك, فيقول: "لو أنَّ شخصا صدرت منه عبارة معينة أو فعلا معينا أو موقفا معينا, من شأنه أن ينتج أثراً قانونياً، فإنَّ هذا الشخص يجب أن يفعل ذلك وهو يريد هذا المظهر المادي الذي يقوم به، فإذا كان القانون لا يرتب أثراً على إرادته, فلا عبرة بالمظهر الذي يتخذه في التعبير عن هذه الإرادة([17]).
أمَّا موقف الفقهاء من الإرادة الظاهرة فقد كان متبايناً بين اتجاهين:
الاتجاه الأول: وهم الذين يأخذون بالإرادة الظاهرة.
والاتجاه الثاني: وهم المعتدّون بالإرادة الباطنة.
ويهمنا هنا الرأي الأول والذي يمثل دليلاً على التكييف اللفظي, ويمثله جماعة من الشافعية والظاهرية والحنفية: حيث ذهبوا إلى الأخذ بالإرادة الظاهرة في العقود, لا بالإرادة الباطنة([18])، وهذا جلي في فروع المذهب الشافعي والحنفي، حيث يظهر الاعتداد بالإرادة الظاهرة, من غير اعتداد بالنيات الخفية والإرادات المستكنة.
أما أدلتنا على الاعتداد بالإرادة اللفظية الظاهرة كنوعٍ ووسيلة لوصف الحكم الشرعي, فهي مستقاة بالاستقراء من أدلة أصحاب الاتجاه الأول, والذي يمثّل الأخذ بالإرادة الظاهرة، وتتمثل هذه الأدلة بما هو آتٍ:
إن نظرية السبب والباعث غير المصرح به تؤدي إلى عدم استقرار المعاملات, باعتبار أنَّه عنصر داخلي قلق, يختلف باختلاف الأشخاص, فإذا انعقد العقد بالإرادة الظاهرة كان صحيحاً, ما لم يصرح بالباعث المحرم, لاشتماله على أركانه الأساسية، فيكون صحيحاً بظاهره دون بحث في النية أو القصد([19])، لذا قال الحنفية والشافعية بصحة عقد العينة, وبيع العنب لعاصر الخمر، وبيع السلاح في الفتنة الداخلية, وزواج المحلل([20]).
2. عملاً بالقاعدة التي تقول (المعتبر في أوامر الله المعنى, والمعتبر في أمور العباد الاسم واللفظ)([21]), أي أنَّ المبدأ هو الاعتداد بالألفاظ في العقود دون النيات والقصود, إذ إن نية السبب والغرض غير المباح شرعاً مستترة, فيترك أمرها إلى الله، وهذا يدل على أن أحكام العقد تؤخذ من صيغته، ومما لابسه واقترَن به، ففساده يكون من صيغته، وصحته تكون منها ولا يفسد لأمور خارجة عنها، لذا فإنَّ الحنفية والشافعية لا يأخذون بمبدأ سد الذرائع في بيوع الآجال([22]).
3. تشير المذكرة الإيضاحية في القانون المدني الأردني إلى: أنَّ العبرة في تفسير العقد يرجع إلى الإرادة الظاهرة لا الباطنة, ويعتمد تفسير العقد على الصيغ والعبارات الواردة فيه دون الانحراف عن المعنى الظاهر([23]).
ويرى الباحث أنَّ اختلاف العلماء في الإرادة الباطنة والظاهرة, أوجد سنداً شرعياً لمسألة اللفظ، ذلك أن الاعتداد باللفظ عند الشافعية والحنفية يعطينا الشرعية أن نزعم بالاعتداد بها كأداة لوصف الحكم الشرعي, ويرى الباحث أيضاً أن الشكليّة أو الصيغة المكونة للعقد تلعب دوراً حاسماً في الوصف، ذلك أنَّ فهم بعض الوقائع أو العقود يتعذر إلاَّ من خلال تفسير ألفاظه ابتداءً وانتهاءً, ولنا في فروع الفقه الحنفي والشافعي أمثلة ونماذج كثيرة، من خلالها يظهر مدلول اللفظ في التكييف.
المطلب الثالث
نماذج تطبيقية على فهم المقصدية من خلال الإرادة المعنوية
لنا في الهبة مثال, حيث ذكر ابن عابدين أنَّه إذا وقعت الهبة بشرط العوض المعّين, فهي هبة ابتداء، كما لو قال وهبتك على أن تعوضني كذا، ويشترط هنا التقابض في العوضين، وإن لم يوجد التقابض فلكل واحدٍ منهما أن يرجع, سواء القابض أو غيره, ويبطل العوض بالشيوع، فيما يقسم بيع انتهاء, فترد بالعيب وخيار الرؤية([24]), أما لو قال: وهبتك كذا, فهو بيع ابتداء وانتهاء, وقد قيّد العوض بكونه معيّناً, لأنه لو كان مجهولاً بطل اشتراطه, فيكون هبة ابتداءً وانتهاءً([25]).
إذن نلاحظ أن اختلاف اللفظ أدى إلى اختلاف الوصف، فلفظ الهبة المقترن بشرط العوض, يجعل العقد هبة ابتداء, فتترتب عليها أحكام الهبة, من حيث تقابض العوضين والرجوع, وأما في حالة بطلان العوض بالشيوع, فيصبح العقد عقد بيع انتهاء, فيترتب عليه خيار الرؤية والرد بالعيب, أي بمعنى أنَّه إذا تم التقابض فهو بمنزلة البيع, يرد كل واحد منهما بالعيب, ويرجع في الاستحقاق، وعند التلفظ بالهبة مع تعيين العوض (وهبتك بكذا) يصبح العقد عقد بيع ابتداء وانتهاء، أما إذا كان التلفظ بالهبة دون العوض أو كان مجهولاً فهو عقد هبة ابتداء وانتهاء.
والمثال الثاني هو أن رجل بعث إلى امرأته متاعاً أي هدايا، وعندما وصلها بعثت له أيضاً هدايا عوضاً للهبة على قصدها ثم افترقا بعد ذلك، أي بعد الزواج, وادعى الزوج أنَّه ما أعطاها إياه, هو من باب العارية وليس الهبة, وحَلَف على ذلك وأراد استرداده وأرادت هي الاسترداد أيضاً([26]), فإنَّه يسترد كل منهما ما أعطى ووصفها يقوم على أساس أنَّه في دعواه قال إنَّ ما أعطاه هو عارية لا هبة, فهو يسترد ما أعطاه على أنَّها عارية لا هبة, وهي تعطي ما أخذت على أنَّها عارية لا عوض, وتأخذ ما أعطت على أنَّها عارية لا هبة (لأنَّه لا عوض مع العارية).
ولو استهلك أحدهما ما أخذ, فإنَّه يضمنه, لأنَّ من استهلك العارية ضمنها. "خانية"([27]).
إذن نلاحظ الفرق هنا بين حالة الفعل الأولى دون عقد, والتي أخذت طابع الهبة والعوض, ثم حالة الدعوى القائمة على نفس الواقعة، ولكن بدعوى التلفظ بلفظ العارية, والتي أخذت حكم العارية وما يترتب عليها من ضمان وغيره في حالة هلاكها بيد المستعير, إذن كان للفظ دور في تغيير حكم الواقعة أو العقد, ولاحظنا كيف أن وصف الوقائع والعقود في النماذج السابقة تم على أساس اللفظ, واعتمد على الدقة في التعبير والصراحة, حتى أنَّ الحرف كان له دور، ففي المثال الأول لفظ (على أن) كان له دور في الوصف, من حيث إثبات الشرطية وحرف (الباء) في (وهبتك بكذا), كان له دور في إثبات معنى البيع، وهذا ما زعمنا بتسميته (وصف الحكم باللفظ).
المبحث الثاني
مفهوم الإرادة المعنوية وحجية الاعتداد بها
المطلب الأول: معنى الإرادة المعنوية كمركب ولقب
أولا: المعنى لغة: كلمة المعنى أخذت من عنى نقول: عنى الأمر يعني عنياً، وقيل: عني به الأمر بمعنى حدث، وعنت الأرض بالنبات: أي أظهرته أو ظهر فيها النبات، ويقال: لم تعني بلادنا بشيء إذا لم تنبت شيئاً. ويقال: عنى بالقول كذا أي أراد وقصر، قال الزمخشري: ومنه المعنى، ومعنى الكلام أي فحواه ومقصده، والاسم منه العناء([28])، ويقال عرفت ذلك في معنى كلامه، أي في فحواه([29]).
ثانياً: المعنى اصطلاحاً: والمعنى اصطلاحاً يعني: إظهار ما تضمنه اللفظ والحالة التي يصير إليه الأمر([30])، ويعرف المناوي بأنه: "الصورة الذهنية التي تتشكل باللّفظ والحاصلة من حيث إنما تُقصدُ باللفظ، أمَّا من حيث حصولها من اللفظ بالعقل فتُسمى مفهوم، وإذا كانت مقولة في جواب فتسمى ماهية، وأمَّا إذا كان ثبوتها في الخارج فتُسمى حقيقة، وهي من حيث امتيازها عن الأعيان فتُسمى هوية([31]).
فماهية المعنى إذن تنحصر بالقصد والفحوى, والذي كان له اعتداد كبير عند علماء الشريعة والقانون في العقود والوقائع. ويمثل المعنى في علم الكلام والفقه والقانون ما يسمى (بالإرادة الخطيّة)، أو (الإرادة الباطنة) والتي تشكل قوة في توليد العقد (الالتزام) أو (النيّة والقصد), وقد أشار أهل الفقه القانوني والقانون المعاصر إلى ذلك بنظرية أطلقوا عليها نظرية (الإرادة الباطنة), والتي بدورها أدت إلى إحداث الأثر القانوني أو الشرعي، واللفظ هنا يمثل القرينة التي تدل على هذه الإرادة.
ثالثاً: علاقة المعنى في وصف العقد والواقعة:
علمنا أنَّ كثيرا من الفقهاء اهتموا بالمعنى (القصد والنية) في إنشاء العقود، واعتدّوا بذلك, وترتّب على اعتدادهم ترتبْ آثار والتزامات, مِمَّا جعل للقصد والنية دور في إحداث الأثر الفقهي, ذلك أنَّهم كانوا مهتمين في تحديد مدى التزام المتعاقدين, فكان لا بُدّ من البحث عن الإرادة التي انطوت عليها نفس المتعاقد, والتي توجهت نحو إحداث الآثار من وراء هذا العقد أو الواقعة.
وأمَّا الرابط بين هذه النظرية (الإرادة الباطنة) ووصف الحكم فتنبثق من خلال من له الحق في الوصف (الفقيه) (المجتهد), فهو المكلف بالنظر فيما سبق ذكره, فتشكلت هذه العلاقة من مبدأ (سلطان الإرادة), رُغم تعرض المعاملات إلى عدم الاستقرار، ومن خلال الاستقراء لنصوص الفقهاء, فإنَّ الدراسة تصل إلى استواء يتمثل بأنَّ وصف الحكم ربما يتم بالاعتماد على المعنى (القصد والنية) (الإرادة الباطنة), ذلك أنَّه ومن خلال البحث وجَدَ الباحث تفريعات كثيرة, اعتمدت على المعنى في استنباط الوصف الشرعي للواقعة أو القصد.
المطلب الثاني
سند الاعتداد بالمعنى (الباعث والسبب)
وحتى يكون المصطلح شرعياً, لا بد له من سندٍ شرعي نعتمد عليه في زعمنا هذا، وهذه الحجة تنطلق من مبدأ (الإرادة العقدية) أو (الإرادة المولدة للعقود), ويهمنا هنا ما أشرنا إليه سلفاً وهو: الإرادة الباطنة ومدى الاعتداد بها.
وتعرف الإرادة الباطنة بأنَّها: القصد إلى الشيء والاتجاه إليه([32]), وعرّفت الإرادة بأنَّها: قوة مركبة من الشهوة والحاجة والأمل، وجعل اسما لنزوع النفس إلى الشيء مع الحكم فيه, بأنَّه ينبغي أن يفعل أو لا يفعل, ثم يستعمل مدة في المبتدأ وهو نزوع النفس إلى شيء, وتارة في المنتهى، وهو الحكم فيه بأنَّه ينبغي أن يفعل أو أن لا يفعل([33]).
وأمَّا رأي أهل القانون في الإرادة الباطنة، فتلاحظ الدراسة أنَّ القانون المدني المصري أخذ بنظرية الإرادة الباطنة، واعتمدها في تكوين العقود، وكذلك القانون المدني السوري([34]), فكانت الإرادة الباطنة هي المكوّن الأساس الذي يعتمد عليه العقد في بنائه, وفي تكوين آثاره التي تترتب على العاقدين.
أمَّا في الفقه الإسلامي فذهب كل من المالكية والحنابلة إلى الأخذ بالقصد والنية والباعث، ولو لم تُذكر في العقود, لأنَّ القصد والنية روح العمل ولبه، ويكون هذا الاتجاه آخذاً بنظرية السبب التي تتطلب أن يكون السبب مشروعاً، فإن لم يكن مشروعاً فلا يصح العقد([35]).
أما أدلة الأخذ بالإرادة المعنوية (الباعث والسبب)فتتلخص بما هو آت:
إنَّ المالكية والحنابلة، يحكمون ببطلان كل من بيع العنب لمن يعصره خمراً، وبيع أرض بقصد بناء كنيسة، أو بيع خشب بقصد صنع صليب, والسبب في التحريم هو أنَّ في ذلك إعانة على الحرام، وعقد على شيء لمعصية الله به فلا يصح([36]).
ويلاحظ الباحث أن وصف الواقعة أو العقد اعتمد هنا على القصد والسبب أو الباعث، فرغم أنَّ الألفاظ هي ألفاظ بيع صحيحة, إلاَّ أنَّهم لم يأخذوا بها كما في (بيع العينة), و (بيوع الآجال), فهي فاسدة عندهم, لأنَّ الباعث من ورائها تحليل التعامل بالربا، رغم أنَّ الظاهر فيها أنَّها بيع وشراء, والتحريم من باب سد الذريعة([37])، وقد اختار الشاطبي في موافقاته المنع, لأنَّه من باب سد الذريعة، فقال: وبه أخذ مالك t: وهذا دليل على حجية العمل بالتكييف بالمعنى.
أنَّ النية أو القصد إذا صاحبت فعلاً أو تركاً صبغته بصبغةٍ, وأكسبته صفة, عليها حكم مدني مخصوص في نظر الشريعة([38])، ومثال ذلك: أن الوديع إذا استعمل الوديعة المؤتمن على حفظها, اُعتبر معتدياً عليها, فيضمنها إذا تلفت, كالغاصب، فإذا تركها وأعادها إلى الحفظ ناوياً أن يعود إلى استعمالها, صار غاصباً ضامناً لها إذا تلفت, ولو كان تلفها بدون صنعه أو تقصيره، وأما إذا تركها وحفظها بنية الكفّ عن استعمالها, فإنَّه تزول عنه صفة التعدي، ويعود أميناً, فلا يضمنها إذا تلفت([39]).
إنَّ انتفاء الإرادة الباطنة أو عدم وجودها لسبب في نفس العاقد, كالهزل أو الاستهزاء، أو دفع الأذى في الإكراه, إنَّما يؤدي إلى إيجاد ما يسمى (بصورية العقد) وهو المظهر والصورة، لا الحقيقة والجوهر, ففي حالة الهزل يكون النطق بالعبارة لإنشاء العقد مع عدم رضاه بترتب آثار، فهو تظاهر بالإنشاء لتحقيق الهزل, فذهب المالكية إلى أنَّه لا يترتب عليه أي أثر في كل العقود, لأنَّ الإرادة دالة على عدم إرادة إنشاء العقد, والإرادة أساس العقود، فإذا انتفت انتفى العقد([40]).
قاعدة الأمور بمقاصدها: أي أحكام الأمور بمقاصدها, ذلك أن علم الشريعة يبحث عن أحكام الشيء لا عن ذواته، لذا فُسرت هذه القاعدة بمعنى أنَّ الحكم الذي يترتب على أمر, يكون على مقتضى ما هو المقصود من ذلك الأمر([41]), كما لو باع الإنسان واشترى وهو هازل, فإنَّه لا يترتب على عقده تمليك ولا تملك.
قاعدة: العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني, وهذه بالنسبة للقاعدة السابقة هي كالجزئي من الكلي، والمراد بالمقاصد والمعاني: ما يشمل المقاصد التي تعنيها القرائن اللفظية, التي توجد في عقد فتكسبه حكم عقد آخر: كانعقاد الكفالة بلفظ الحوالة([42])، ومن الأمثلة على ذلك الاستصناع, فإن له شبها بالبيع وشبها بالإجارة، فإذا وقع على ما جرى فيه تعامل ولم يؤجل, أو أجل دون أجل السلم على وجه الاستعجال, كان له شبهان, شبه بالبيع بخيار للمتبايعيين, حتى أنَّ لكل منهما فسخه، وشبه بالإجارة حتى أنَّه يبطل بموت الصانع([43]).
ويلاحظ الباحث أنَّ القصد والنية والباعث, لها دور في تكوين العقد وترتّب آثاره، لذا كان لوصف الحكم حظ في الاعتماد على الإرادة الباطنة (المعنى)، ولنا في فروع الفقه الإسلامي أمثلة ونماذح كثيرة على الاعتداد بالإرادة الباطنة أو المعنى.
المطلب الثالث
نماذج تطبيقية على فهم الوصف والمقصدية
من خلال المعنى
ورد في كتب الفقه: أنَّ الكفالة عندما يشترط فيها براءة الأصيل تكون حوالة، والحوالة عند اشتراط عدم براءة الأصيل كفالة. ذلك أنَّ طالب العين في الكفالة يكون بالخيار, من حيث مطالبته الأصيل أو الكفيل؛ لأنَّ معنى الكفالة ينبئ عن الضم، وهو ضم ذمة إلى ذمة في حق المطالبة بما على الأصل أو في حق أصل الدين([44]).
فجمهور العلماء لا يقولون بالكفالة المشروطة ببراءة الأصيل. ومنهم الشافعية حيث إنهم لم يجيزوا ذلك, لأنَّ براءة الأصيل تنافي مقتضى الضمان([45]), والقول ببراءة الأصيل هنا ينافي معنى الكفالة وهي الضم (ضم الذمَّتين), لذلك نقول: إن الكفالة القائمة على براءة الأصيل, هي حوالة بمعناها، حتى وإن لم يوجد لفظها([46]), وعلى هذا نقول: إن الكفالة قد وصفت هنا حوالة, رغم أنَّ ظاهر الألفاظ يظهر أنَّها كفالة، ولكن وجود شرط إبراء الأصيل نفى عنها معنى الكفالة وهو (ضم الذمتين), وأوجد معنى الحوالة, وهو سقوط إحدى هذه الذمم باتفاق سابق([47]), فكان مبنى هذا الوصف هو المعنى لا اللفظ, وعلى أساس المعنى تغير الاسم, وحين يتغير الاسم يتغير المعنى, فتغاير الأسامي دليل تغاير المعاني في الأصل([48]).
ومن الأمثلة أيضاً: أن المضاربة لو اشترط فيها أن جميع الربح يكون للمضارب, تكون في معنى القرض، وهذا التحوّل هو عند الحنفية، أما الشافعية فقد اعتبروا أنَّ عقد المضاربة هنا فاسد, وله أجر مثل ما عمل, وحتى لو وقع الخلاف في حكمها, فإنَّ تصحيحها عند الحنفية أو الشافعية يكون بتحويل حكمها إلى قرض, لأنَّ معنى القرض قد أوتي به, والعبرة في العقود لمعانيها([49]), وأيضاً من الأوصاف الواردة بهذه الطريقة (المنفعة), فهبة المنفعة بعوض إجارة([50]).
كل هذه الأمثلة وغيرها إِنَّما تمثل بزعمنا دليلاً وحجة بيّنة, على وجود مثل هذا النوع من أدوات وصف الحكم (المعنى)، والذي يلعب دوراً كبيراً في وضع العقد موضع الاهتمام, عندما يشير المعنى إلى تغيير المسمى، ففي هذه الحالة يقدم المعنى على اللفظ، وهذا ما نسميه بوصف الحكم بالمعنى أو الإرادة المعنوية.
المبحث الثالث
وصف الحكم من خلال الإرادة المعنوية واللفظية معا:
المطلب الأول: لقبية اللفظ والمعنى في وصف الحكم
وبعد بيان كل من الإرادة اللفظية والإرادة المعنوية (المعنى)، فإن الباحث ليجد بين الاتجاهين السالفي الذكر، وهما اتجاه من أخذ بالإرادة الظاهرة (اللفظ)، واتجاه من أخذ بالإرادة الباطنة وهو (القصد) اتجاه ثالثاً كان بمثابة سنداً لوصف الحكم باللفظ والمعنى, ومن خلال تواجد الاثنين معاً (اللفظ والمعنى) فإنَّ ذلك دليلاً على الجمع بينهما, ومثل هذا الازدواج كان وجوده ضرورة, ذلك أن المسألة الخلافية التي أثرناها في اللفظ والمعنى يغلب عليها طابع الاجتهاد.
والفقه الإسلامي بعمومه لم يغلب عليه وضع ضابط أو معيار عام في هذا المجال، فلكل مسألة وموضوع حكمه ووضعه الخاص، فهي مسألة وقائع يرجع في حكمها إلى من له صلاحية التكييف، حيث يمكن الاعتماد بالإرادة الباطنة في حالات, مثلما يمكن الاعتداد بالتعبير أو الإرادة الظاهرة في حالات أخرى([51]).
إذن اجتماع اللفظ والمعنى في وصف الحكم يقوم على أساس:
اعتبار كل من اللفظ والمعنى في آنٍ واحدٍ وإعمالهما في إعطاء الوصف الشرعي للواقعة أو العقد.
إنَّ الأمر برمته هو اعتداد فعندما يصبح النظر مستكناً بالضمير يصدر عنه تساؤل وهو ما الرأي وخاصة في بعض الوقائع والعقود، فالأمر في المفتتح لفظ وفي تمامه قصد.
إنَّ لفظ الابتداء والانتهاء جاء لبيان أن العقد ربما لا ينعقد ابتداءً إلاَّ باللفظ، فيعتبر اللفظ عند الانعقاد, وعند التمام يعتبر المقصد. وما يتردد بين أصلين يتوفر حظه عليهما.
يتبع