دور التوحيد في تحرير العقل والنهوض بالأمة
ثامنا: استنكار القول بوجود الوسطاء بين الله وبين عباده
القول بوجود الوسطاء بين الله وبين عباده كما كان يقول أهل الجاهلية ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى..﴾(الزمر : من الآية3) هو قول لا يشهد له عقل صحيح لأن هؤلاء الوسطاء عباد لله يتسابقون ويتضرعون للوصول إلى مغفرة الله حتى لو كانوا صالحين أو أنبياء، وهذا مُشاهَدٌ من سيرة الأنبياء ، وقد بين الله عز وجل ذلك في قوله سبحانه: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ..﴾ (الاسراء:57) وإذا كان لابد من وسيط فسيحتاج هؤلاء أيضا لوسطاء لأنهم في الحقيقية لا يملكون لأنفسهم شيئا.
التوحيد والنهوض بالأمة
لقد رأينا من خلال هذه النظرة المقتضبة كيف كان دور التوحيد محوريا في تحرير العقل، وكيف افترقت بنا رسالة التوحيد عن سلوكيات الأديان المشركة افتراقا محمودا يميزنا عنهم، ويصرف عنا معرة مشابهتهم في مناهجهم، حيث لا عقل ولا تدبر ولا حكمة نافعة، فالحمد لله تعالى على نعمة الإيمان والتوحيد.
ولكن تعاليم التوحيد لم تتوقف قط عند تصحيح الاعتقاد، وإقامة الأدلة العقلية والنظرية عليه، بل تعدت ذلك لتشمل العناية بالفرد والأمة في المنظومة الروحية والأخلاقية والمادية، خلافا لظن بعض الأمم المتحللة والأديان الباطلة أن العقيدة والإيمان مجرد علاقة ين العبد وربه.
لقد أوجب الله على المؤمنين الالتزام بأوامره سبحانه، سواء كانت هذه الأوامر في أبواب الاعتقاد أو في أبواب الأخلاق أو في أبواب العبادات أو المعاملات والعقود ، بحيث يعتبر أي نقص في الإتيان بالواجبات في أي من تلك الأبواب نقصا في التوحيد ، وضعفا في الإيمان، بل قد يؤدي بعضها إلى إزالته تماما ، قال سبحانه : ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ (الأنفال:1) ، وقال الله تعالى : ﴿ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِين َ ﴾ (النور:47) .
وهذا عرض سريع لتدابير العقيدة الإيمانية لبناء الأمة والنهوض بها :
أولا : التوحيد والقلوب
فللتوحيد أثره العظيم في رعاية القلوب وتطهيرها ، إذ يقتضي التوحيد محبة الله سبحانه ، ويستلزم الخوف منه ، وأن نتوجه إليه بالتوكل والرجاء والرغبة والرهبة والإنابة وغيرها من عبادات القلوب.
قال الله جل وعلا : ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ ﴾ (البقرة:165) ، وقال سبحانه : ﴿ ...وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (المائدة:23) ، وقال سبحانه : ﴿ ... فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ (آل عمران:175) ، وقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ﴿ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ﴾ (متفق عليه)
فبنيت قلوب الأمة على الاعتماد على الله ، وعلى رفض الخضوع والتذلل لغيره ، وهو ما يجعلها أمة قوية لها كرامة وشخصية منفصلة عن الآخرين وغير قابلة للذوبان فيهم ، وهذا أثر تلك النهضة القلبية ، قال سبحانه: ﴿ إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ (التوبة:40)
، وقال جل ذكره : ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ(62) ﴾ ( الشعراء ) ، وقال جل ذكره : ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ (آل عمران:173)
ثانيا : التوحيد والعبادات القولية والفعلية
وكما اعتنى الإيمان بالقلب ، اعتنى كذلك بالجوارح لتكمل طريقها في نهضة الأمة قال سبحانه : ﴿ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾(التوبة:11) قال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ﴾ رواه (مسلم 116 ) ، وقال صلى الله عليه وسلم ﴿ قَالَ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ﴾ ( متفق عليه )
فإن أمة لا تقول إلا خيرا ، ولا تنطلق جوارحها إلا إلى خير وعمل صالح ، لا شك أنها أمة بعيدة عن أسباب السقوط ، والذي لا يؤدي إليه عمل السوء .
ثالثا : التوحيد والأخلاق إن عقيدة التوحيد تحث على حسن الخلق ، فهو من أهم عناصر نهضتها ، فقال سبحانه : ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ (القلم:4) ، وقال جل وعلا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ (التوبة:119) ، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ﴿ لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ ﴾ (مسلم) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ﴿ إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ صِدِّيقًا ... ﴾ (متفق عليه) ، وقال صلى الله عليه وسلم:﴿ الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ ﴾ (متفق عليه )
وبضياع الأخلاق تضيع الأمم كما قال الشاعر:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإذا همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
لذلك حذر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من سوء الخلق ، كالبخل والكذب والحسد والسباب واللعن والغيبة والنميمة وغيرها من عوامل سقوط الأمم .
رابعا: التوحيد والنهي عن المعاصي والذنوب وسوء الأخلاق
إن المعاصي هي أكبر ما يهدد بنيان أي أمة من الأمم ، فبالسرقة والرشوة والغش والفواحش وشرب الخمور والربا والغيبة والنميمة وغيرها ، تسقط الأمة كلها فهي بين قطع الطريق ، وهتك الأعراض ، وقد صور النبي صلى الله عليه وسلم ما يحدث للأمة مع وجود المعاصي بتصوير بليغ فقد قال صلى الله عليه وسلم : ﴿مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا فَكَانَ
الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُوا لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا ﴾ (البخاري ) وعندما سئل النبي صلى الله عليه وسلم : أنهلك وفينا الصالحون قال عليه الصلاة والسلام : ﴿نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ ﴾ (متفق عليه)
وبعد هذه المقدمة نصل إلى عظمة حكمة الله تعالى الذي جعل المعاصي منقصة للإيمان ، قال الله جل وعلا : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ (البقرة:278) ، وقال جل ذكره : ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(ال أعراف:85) ، وقال صلى الله عليه وسلم ﴿ لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ (متفق عليه) .
فحرم الإسلام هذه المعاصي المدمرة ، وأوجب التطهير منها بإنذارهم من عواقبها في الدنيا والآخرة ، وأمر بإقامة الحدود الشرعية لهذه لمعاقبة هؤلاء الذين يغرقون سفينة الأمة ، وليحصل لهم التطهر من الذنوب ، ويتحقق للمجتمع البراءة من الخبائث والردع لأهلها .
خامسا : التوحيد والعلاقة مع المؤمنين
لقد ربط الإيمان بين أبناء الأمة برباط التوحيد ، حتى وجدنا في صف واحد بلالا الحبشي وصهيبا الرومي وسلمان الفارسي ، قال الله جل وعلا :﴿ وَالْمُؤْمِنُون َ وَالْمُؤْمِنَات ُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ .. ﴾ (التوبة:71) ، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ﴿لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ﴾ (متفق عليه) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ﴿ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ قِيلَ وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ ﴾ (البخاري)
كان من المستحيل أن يجتمع كل هؤلاء على اختلافهم وعلى كثرة الحروب بينهم ، ولكن جمعهم الله وألف بين قلوبهم بالإيمان ، قال سبحانه : ﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيم ﴾(الأنفال:63) عن عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ قال : ﴿ لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ إِنِّي أَكْثَرُ الْأَنْصَارِ مَالًا فَأَقْسِمُ لَكَ نِصْفَ مَالِي وَانْظُرْ أَيَّ زَوْجَتَيَّ هَوِيتَ نَزَلْتُ لَكَ عَنْهَا فَإِذَا حَلَّتْ تَزَوَّجْتَهَا ﴾ويأتي الجواب ﴿قَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ ﴾( البخاري 1907-1908 )
سادسا : التوحيد والنهي عن الفرقة والتنازع
ولما كان الترابط والوحدة واجتماع الكلمة بين المؤمنين من أهم ما يساعد على نهضة المجتمع والحفاظ على قوته ، اعتنت العقيدة بهذا الاجتماع ونهت عن الفرقة ، قال الله تعالى :﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ... ﴾ (آل عمران:103)
وقال جل ذكره : ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا ﴾(الأنفال: من الآية46)﴿..وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(3 1) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) ﴾ ( الروم ) وقال جل ذكره : ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ .. ﴾ (الأنعام:159) ، وقال صلى الله عليه وسلم : ﴿الْمُسْلِمُون � كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنْ اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ وَإِنْ اشْتَكَى
رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ ﴾ (مسلم)
سابعا :التوحيد والعلاقة مع غير المؤمنين
التعامل مع غير المؤمنين لابد أن يدور في إطار الحذر ، لأن ولاءهم دائما ليس للمسلمين بل لغيرهم ، لذلك فإن من أصول العقيدة عدم موالاتهم ، قال سبحانه : ﴿ لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ .. ﴾ (المجادلة:22) ، ويقول الله جل وعلا : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾(المائدة: من الآية51) .
من أجل ذلك حرم الإسلام التشبه بهم حتى في ظاهرهم لأن التشابه في الظاهر قد يؤدي إلى تشبه في الباطن ، قال عليه الصلاة والسلام ﴿خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ وَفِّرُوا اللِّحَى وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ ﴾ (متفق عليه ) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ﴿ من تشبه بقوم فهو منهم ﴾ (أحمد وأبو داود)
ثامنا : التوحيد والحكم
من أعظم لوازم قيام الأمة ونهوضها أن ترفع رايتها على الأرض التي يسكن فيها أبناؤها ،وبذلك يقوم أبناء الأمة بممارسة عقيدتهم وعبادتهم دون منعهم من أداء الواجبات التي كلفهم الله بها ﴿ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ (النساء:65) ، وقال جل وعلا :﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ (المائدة: من الآية44)
إن الظن بأن الله تعالى يرضى بأن يكون التوحيد والعقيدة والإيمان علاقة بين العبد وبينه سبحانه، وأنه يجيز ألا يقوم عليها مجتمع يحفظ حقوق الله في الأرض حتى تكون كلمة الله هي العليا، لهو من ظن السوء بالله سبحانه وبدينه وبشريعة التوحيد.
والشيئ بالشيئ يُذَكِّر فإن هذه العلمانية ومحاولة تحييد العقيدة في المجتمع ليست جديدة في تاريخ الخصومة مع أتباع الملل البائدة، فقد طالب بها الكافرون أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، فقالوا لنبي الله شعيب عليه السلام ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ﴾ (هود:87) ، وقالوا للوط عليه السلام ﴿قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ (الحجر:70). وغيرها من الخطابات العلمانية التي رفضها
الأنبياء ، وأصحاب رسالة الحق التي لا تقبل التفاوض على المبادئ ، ولا تتلون عند الحديث عن الأصول، وتأبى مهادنة الشرك، ومنافقة الفساد في الأخلاق، فكما يؤسسون مجتمعا مؤمنا موحدا ، كذلك لا يرضون أن يكون المجتمع المؤمن فاسدا ، فوجدناهم ينهون عن التطفيف في الكيل والميزان وينهون عن الفواحش وعن الظلم والجبروت ، خلافا لما كان يفعله المشركون في مكة من عبادة أكثر من ثلاثمائة وستين صنما، هذا يعبد واحد والآخر يعبد عشرة ثم يلتقون في دار الندوة ويتسامرون شاربين للخمر وآكلين للميتة.
وصدق نبينا عليه الصلاة والسلام عندما قال : ﴿وَالْأَنْبِيَ �ءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ ﴾ (متفق عليه) وبهذه النظرة السريعة رأينا كيف نهض التوحيد بالأمة ، بعقلها وبنائها وقلبها وجوارحها وعبادتها وأخلاقها حتى تحقق فيها قول الله تعالى : ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ..﴾ (البقرة:143)
فالحمد لله على نعمة الإسلام والتوحيد .
منقول