اسم الله العليم في فواصل آيات التشريع- دراسة قرآنية
أ. سامي فلاح محمد طنش[*]
ملخص البحث:
تناولت في هذا البحث دراسة اسم الله العليم في فواصل آيات تتضمن أحكام شرعية عملية, وهدفي من ذلك بيان الدور الذي يؤديه هذا الاسم في موقعه دون غيره, وبيان ارتباط الفاصلة بمعنى الآية أو موضوع الآيات في سياق التي وردت فيه, وأثر وجود هذا الاسم لله تعالى على وجدان وسلوك المؤمن بالله تعالى, وقد توصلت من خلال هذه الدراسة؛ أن ملحوظة اسم العليم الدال على ذاته وصفة علمه سبحانه في فاصلة الآية يشعر العبد بعناية الله تعالى بتشريعه الأحكام, وبمراقبة الدائمة له, وتذكره بالثواب والعقاب, ليفعل ما طلب منه حبا لله تعالى وخوفا من عقابه وطمعا بجنته, وأرجو الله أن أكون قد أشرت في هذا البحث إلى صورة من صور التناسق في كتاب الله تعالى بين المعاني والألفاظ, وتأثيرها العجيب على وجدان وسلوك الإنسان المؤمن بالله تعالى.
Abstract:
In this research I was study the **** of Allah all-knowing (alim) in the end of verses that include the provisions of the legitimacy, my goal of this statement to explain the role played by this **** in his position without any other, and the relation between the end of verse with the subject of the verses in the context of which contained there in, and the effect of this **** in the behavior of the Muslim. The findings of this study; the note of the **** of Allah all-knowing (alim), cause the Muslim to feel provisions, and permanent control, and remember the punishment and reward, asked him to do the due loving Allah and to reach the paradise and warding off the punishment. I ask God that I have already referred in this search to pictures of coherence in the Quran between meanings and the wording, and the effect of that in the Muslim behavior.
المقدمة:
إن من الظواهر القرآنية لمن قرأ وتدبر القرآن الكريم محاولا اكتشاف أسرار المعـــاني للنظـــم القرآني, ومدى التوافق والترابط في المعنى والمبنى في نظمـــه, يرى أن
كثيرا من الآيات الكريمة اختتمت بأسماء الله الحسنى, وأن من ما يسترعي الانتباه تكرار ذكر اسم الله العليم في عدد ليس بالقليل من الآيات التي تتضمن أحكاما شرعية, فلقد جاء اسم الله العليم كفاصلة قرآنية في ثلاث وعشرين آية, في مواضع وسياقات يتحدث عن أحكام شرعية عملية, فقد ورد اسم الله العلم في آيات تتضمن أحكام تخص النظم الأخلاقية والمالية والأسرية وعلاقة المسلمين بغيرهم وغيرها من الأحكام وهذا يقودنا إلى طرح عدة أسئلة منها:
ما الدور الذي يؤديه وجود اسم الله الدال على صفة العلم لله في فاصلة آيات الأحكام؟
ما العلاقة بين الفاصلة القرآنية: اسم الله العليم, ومعنى الآية التي جاءت فيها ؟
وما أثر الفاصلة القرآنية: اسم الله العليم, ودلالاتها على وجدان وسلوك المؤمن؟
وللإجابة عن تلك الأسئلة قمت بما يلي:
1- جمع الآيات القرآنية التي ورد فيها: اسم العليم, والتي تتضمن أحكاما شرعية, وترتيبها حسب موضوعها.
2- بيان المعنى الإجمالي للآية في سياقها, والإشارة إلى دلالة وجود اسم الله العليم في الفاصلة.
3- الإشارة إلى الأثر المترتب على وجود اسم الله العليم في فواصل الآيات التي تتضمن أحكاما عملية في وجدان وسلوك المسلم.
وللإجابة على تلك الأسئلة وتحقيقا لذلك الهدف, فقد قسمت بحثي إلى مقدمة ومبحثين وخاتمة؛ تناولت في المقدمة فكرة الموضوع وإشكالية الدراسة وهدفها, أما المبحث الأول: ففيه مطلبان, الأول في تعريف اسم العليم, والثاني في تعريف الفاصلة القرآنية وبيان أهميتها, أما المبحث الثاني: ففيه تمهيد وأربعة مطالب تحت بعضها مسائل؛ الأول في دراسة اسم الله العليم, في آيات تتضمن توجيهات أخلاقية في سورة النور, والثاني في دراسة اسم الله العليم, في آيات أحكام تشريعية تختص بالأسرة المسلمة, والثالث في دراسة اسم الله العليم في آيات تتضمن أحكاما تشريعية تختص بالمال, وأما آخرها وهو الرابع فهو لدراسة اسم الله العليم في آيات تتضمن أحكاما شرعية تختص بالتعامل مع الكافرين, وبعد ذلك جاءت الخاتمة التي أودعت بها ما توصلت إليه من نتائج ودلالات وملحوظات.
وأخيرا وليس آخرا فإني لا أدعي العصمة والكمال فهذا جهد بشري, فقد يصيب صاحبه وقد يخطئ, فما كان من خير فبتوفيق الله تعالى وفضله, وما كان من نقص أو خطا فمن نفسي ومن الشيطان, والله تعالى أسأل أن يكون العمل خالصا لوجهه, وأن ينفع الله تعالى به, وأن يلقى القبول, وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلمين.
المبحث الأول
تعريف اسم الله العليم وتعريف الفاصلة القرآنية
وبيان ارتباطها بالآية وبيان أهميتها
المطلب الأول: تعريف اسم الله العليم
وقبل تناول تعريف اسم الله العليم, أشير إلى أنه ورد اسم الله العليم في القرآن الكريم مائة وسبعة وخمسين مرة([1]), ومما يجدر ذكره والإشارة إليه أنه ورد أحيانا منفردا, وأحيانا مقترنا بغيره من الأسماء الحسنى في فواصل الآيات, فقد ورد مقترنا مع اسم الله الحكيم ستا وثلاثين مرة, ومع اسم الله الواسع سبع مرات, ومع اسمه السميع ثمان وعشرين مرة, ومع الشاكر مرتين, ومع اسمه الحليم والقدير ثلاث مرات لكل منهما, ومع العزيز خمس مرات, ومع الخبير أربع مرات, ومع اسم الله الفتاح مرة واحدة, ومع الخلاق أيضا مرة واحدة, وهي أسماء لا بد لها من العلم, وهي من جنسه, وجاء مفردا فيما تبقى من العدد([2]).
وحتى لا أستطرد, فالمقام لا يتسع لمعرفة جميع أقوال اللغويين والمفسرين والمتكلمين, أقتصر على عالم في اللغة وآخر في التفسير, واثنين من المتكلمين:
التعريف اللغوي: قال ابن منظور: "علم: من صفات الله عز وجل العليم والعالم والعلام؛ قال الله عز وجل: ﴿وهو الخلاق العليم﴾ [سورة يس: الآية ٨١], وقال: ﴿عالم الغيب والشهادة﴾ [سورة التوبة: الآية ١٠٥], وقال: ﴿علام الغيوب﴾ [سورة المائدة: الآية ١٠٩], فهو الله العالم بما كان وما يكون قبل كونه, وبما يكون ولما يكون بعد وقبل أن يكون, لم يزل عالما ولا يزال عالما بما كان وما يكون, ولا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء, سبحانه وتعالى, أحاط علمه بجميع الأشياء باطنها وظاهرها, دقيقها وجليلها على أتم الإمكان. وعليم, فعيل: من أبنية المبالغة"([3]).
أما تعريف اسم العليم عند شيخ المفسرين, قال ابن جرير: "إنك أنت يا ربنا العالم من غير تعليم بجميع ما قد كان وما هو كائن, والعالم للغيوب دون خلقك"([4]), وقال أيضا:" إن الله ذو علم بما أخفته صدور خلقه من إيمان أو كفر, وحق وباطل, وخير وشر, وما تستجنّه مما لم تجنه بعد"([5]).
أما عن تعريف اسم الله العليم عند المتكلمين في العقائد, فنختار تعريفا عند علمين منهم:
الأول: الإمام الخطابي حيث قال: "هو العالم بالسرائر والخفيات التي لا يدركها علم الخلق, كقوله تعالى: ﴿إن الله عليم بذات الصدور﴾ [سورة لقمان:الآية 23], وجاء على بناء فعيل للمبالغة في وصفه بكمال العلم", ولذلك قال سبحانه: ﴿وفوق كل ذي علم عليم﴾ [سورة يوسف:الآية 76]"([6]).
والثاني: الإمام الغزالي, فقد قال: "معناه ظاهر, وكماله أن يحيط علما بكل شيء ظاهره وباطنه, دقيقه وجليله, أوله وأخره, عاقبته وفاتحته, وهذا من حيث الوضوح والكشف على أتم ما يمكن فيه, بحيث لا يتصور مشاهدة وكشف أظهر منه, ثم لا يكون مستفادا من المعلومات, بل تكون المعلومات مستفادة منه"([7]).
ومما سبق, وباستعراض تعريف اسم الله العليم الدال على صفة العلم, يظهر لنا جملة من النتائج منها ما يلي:
إثبات العلم التام الكامل الشامل لله وحده, فالله سبحانه يعلم الأمور الماضية كيف وقعت والأمور المستقبلية كيف ستقع, ويعلم الأمور التي لم تقع, أنها لو فرض لها أن تقع كيف ستقع.
دقة كشفه سبحانه تعالى, فالأمر في السر والعلن والباطن والظاهر عنده سبحانه سواء ولا تختلف دقة كشفه من حال إلى حال.
إن علمه سبحانه قديم, فالموجودات إما قديمة أو حادثة؛ والقديم ذاته سبحانه, والحادث ما سوى ذلك, فعلم البشر حادث تابع للأشياء وحاصل بها, وعلمه سبحانه غير مستفاد من الأشياء, بل الأشياء مستفادة منه.
قلة معلومات البشر مقارنة بعلم الله, فمع كثرة المعلومات التي يعلمها بنو آدم وتشعبها, إلا أنها وإن اتسعت محصورة قليلة, مقارنة بعلم الله الواسع غير المتناهي, قال تعالى: ﴿وما أوتيتم من العلم إلا قليلا﴾ [سورة الإسراء: الآية 85]([8]), وقد جاء في الصحيحين من قصة الخضر مع سيدنا موسى عليهما السلام: (فلما ركبا في السفينة, جاء عصفور فوقع على حرف السفينة, فنقر في البحر نقرة أو نقرتين, قال الخضر: ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور بمنقاره من البحر...) ([9]).
المطلب الثاني
الفاصلة القرآنية (تعريفها- وارتباطها بمعنى الآية- أهميتها)
تعريف الفاصلة في القرآن الكريم:
الفاصلة لغة: قال ابن فارس:" الفاء والصاد واللام كلمة صحيحة تدل على تمييز الشيء من الشيء وإبانته عنه. يقال: فصلت الشيء فصلا. والفيصل: الحاكم. والفصيل: ولد الناقة إذا انفصل عن أمه. والمفصل: اللسان, لأن به تفصل الأمور وتميز. قال الأخطل: وقد ماتت عظام ومفصل والمفاصل: مفاصل العظام. والمفصل: ما بين الجبلين, والجمع مفاصل".([10])
الفاصلة اصطلاحا: "هي أواخر الآيات في كتاب الله عز وجل, والفواصل بمنزلة قوافي الشعر, جل كتاب الله, واحدتها فاصلة".([11])
ارتباط الفاصلة بالنص القرآني:
حري بنا أن نستشرف هذا الارتباط بشيء من التفصيل, لنرى أن علاقة الفاصلة بالنص القرآني وما تؤديه من معان تنحصر في أربعة أشياء, اصطلح البلاغيون على تسميتها([12]):
التمكين: وهو أن يمهد للفاصلة قبلها تمكينا تأتي به ممكنة في مكانها, متعلقا معناها بمعنى الكلام كله تعلقا تاما, بحيث لو طرحت الفاصلة جانبا اختل المعنى واضطرب, مثاله: قوله تعالى: ﴿قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء انك لأنت الحليم الرشيد﴾(هود: 87), لما ذكر تقدم العبادة والتصرف في الأموال, كان ذلك تمهيدا لذكر الحلم والرشد, فكان آخر الآية مناسبا لأولها مناسبة معنوية.
2-التصدير: وهو أن يتقدم لفظة الفاصلة بمادتها في أول صدر الآية, أو في أثنائها, أو في آخرها, كقوله تعالى: ﴿ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب﴾ (آل عمران: 8).
3- التوشيح: وهو أن يرد في الآية معنى يشير إلى الفاصلة, حتى تعرف منه قبل قراءتها, كقوله تعالى: ﴿وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون﴾ (يس: 37).
4- الإيغال: أن يكون معنى الآية تاما, وتأتي الفاصلة بزيادة في ذلك المعنى, كقوله تعالى: ﴿إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولو مدبرين﴾(النمل:48) , فالمعنى تم عند قوله: ﴿ولا تسمع الصم الدعاء﴾, ثم أراد أن يعلمنا تمام الكلام بالفاصلة, فقال سبحانه: ﴿إذا ولّوا مدبرين﴾, فأراد الله تتميم المعنى بذكر توليهم حال الخطاب, لينفي عنهم الذي يحصل من الإشارة, فإن الأصم يفهم الإشارة كما يفهم السميع العبارة.
مما تقدم نجد أهمية كبيرة للفاصلة القرآنية, في بيان معنى الآية ومعرفته بتمامه, وأهميتها لاكتشاف وبيان أسرار المعاني للنظم القرآني ومدى التوافق والترابط والاتساق بين المعنى والمبنى لآيات القرآن الكريم, وما اثر الإيمان بهذه المعاني للآيات ودلالاتها على السلوك الإنساني.
أهمية الفاصلة:
الفاصلة في القرآن الكريم لها مزية مهمة, فهي ترتبط بما قبلها من الكلام, بحيث تنحدر على الأسماع انحداراً, وكأن ما سبقها لم يكن إلا تمهيدا لها, فإذا حذفت اختل معنى الآية, ولو سكت عنها القارئ لاستطاع السامع أن يختمها انسياقا مع الطبع والذوق السليم, فلا عجب إذا سمعنا أن بعض الأعراب سمع قارئا يقرأ: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ﴾, وختمها القارئ ﴿والله غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾, فقال الأعرابي, ما هذا فصيح, فقيل له: ليست التلاوة كذلك, وإنما هي: ﴿وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (المائدة:38), فقال الإعرابي: بخ بخ, عز, فحكم, فقطع.
بناء على ما تقدم نقول: إن فواصل الآيات في القرآن الكريم ليست مجرد توافق للألفاظ والأوزان فقط, بل إن لها علاقة وثيقة بما قبلها من بقية الآية أو الآيات بحسب تمام المعنى لآية واحدة أو عدة آيات, ولذا نجدها مستقرة في أماكنها, مطمئنة في مواضعها, غير قلقة ولا نافرة, ولو استبدل بها غيرها لتغير المعنى وفسد الغرض, بل ولو طرحت الفاصلة لاختل المعنى, ولو سكت عنها لشعر السامع بها قبل نطقها([13]), روي عن زيد بن ثابت t انه قال: أملى علي رسول الله e هذه الآية: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ(12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ(13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَر﴾, فقال معاذ بن جبل t: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾( المؤمنون: 14) فضحك النبي e, فقال معاذ: مم ضحكت يا رسول الله ؟ َقال بها ختمت.([14])
مما تقدم يظهر لنا بوضوح أهمية الفاصلة وارتباطها بمعنى الآية.
المبحث الثاني
اسم الله العليم في فواصل آيات التشريع
تمهيد:
قال تعالى: ﴿للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم﴾ (النور: 64).
جاءت هذه الآية تقرر حقيقة خالدة ظاهرة لكل لبيب وهي أن الخلق كلهم لله, ومالك الخلق هو العالم بخلقه وما يصلحهم وما يصلح لهم, خلق الأحياء ونظم حياتها بعناية وإتقان, وسير الجماد بدون عقلٍ ولا إرادة, بنظام غاية في الدقة والإتقان, وفي ذلك آية لناظر اللبيب, وبرهان للإيمان.
ومع ما نرى من إبداع للسموات والأرض وما فيهن, نرى أن الإنسان اعتد بعقله المحدود, واتبع هواه, وأخذ ينازع الله في حق التشريع, وأخذ يسوغ لنفسه الخطيئة, ومن هؤلاء الناس من يدعون إيماناً بالله راسخا, وأن لهم عقلا راجحا, ويقّر بأن الخالق هو الله, ومع ذلك يدّعي أن الحاكم والمشرع هم البشر, حجته في ذلك التأخر الحضاري للمسلمين, وتخلفهم عن ركب الحضارة كان بسبب تشريعاتهم المستمدة من قرآنهم وسنة نبيهم e, وقد كثرت دعواتهم في الواقع المعاصر, منها مثلا قولهم: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله, وبعضهم بالغ حتى قال ما قاله الملحدون: الدين أفيون الشعوب, وتغافل هؤلاء حقيقة هذا الدين الذي نظم علاقة الإنسان بخالقه وبأخيه الإنسان مسلم وكافر وبموجودات الكون, فشريعة الإسلام شملت جميع نواحي الحياة تنظيماً, وهل تأخر المسلمون إلا بسبب إقصاء الدين عن الدنيا, أو لسوء الفهم أو لسوء التطبيق لتلك التشريعات؟!.
إن تشريع الله تعالى شامل كامل, صالح لكل زمان ومكان, فوحي الله قرآناً وسنة وضع أسسا وقواعد تحكم السلوك الإنساني في جميع أشكاله وصوره, قال تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ﴾ (الأنعام:38) وحكم الله فرض لازم وهو من اخص خصائص الإلوهية, قال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف:40).
وإن من أعظم النعم التي أنعم الله بها على العباد, تشريعات الله وأحكامه وتوجيهاته التي جاءت في كتابه, وقد جاء الامتنان بالأحكام والتوجيهات والمواعظ الربانية في سورة النور, بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ + اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (النور: 34-35).
الملحوظ في هاتين الآيتين أن الله تعالى يمتن على عباده بهذا التشريع الهادي للخير والفضيلة, فالآية تصف هذه التشريعات والأحكام بأنها مبينة, جاءت لهداية الناس, وفيها نور من الله, فهذه التشريعات من الحلال والحرام والأوامر والنواهي, جاءت لتحفظ المسلم من الفواحش والرذائل, فهي نور من الله وموعظة للمتقين.
فإذا اجتمع نور التوحيد مع نور التشريع في حياة المسلمين أضاء لهم طريقهم ليسيروا على صراط الله المستقيم حتى يدخل العبد إلى جنات النعيم, فبنور الإيمان والقرآن تكون الهداية والسعادة ويكون التمكين والرضا فيحيا العبد عزيزا سعيداً في الدنيا ويدخل كذلك عزيزاً سعيداً دار النعيم, كل ذلك ثمرة الإيمان الصادق, والعمل بمقتضى هذا الإيمان.
ومع إشراق النور في حياة المسلمين وأمام الناس قد يتعجب المؤمن من كفر الناس أمام ذلك النور, فجاءت فاصلة الآية بجمل ثلاث معترضة لدفع التعجب من عدم اهتداء كثير من الناس بالنور الذي أنزله الله, فإن الله إذا لم يشأ هداية أحد من خلقه جبله على العناد والكفر, والله بكل شيء عليم, لا يعزب عن علمه شيء, يعلم من هو قابل للهدى ومن هو مصر على غيه, وسيجازي كل بعمله. ([15])
المطلب الأول
اسم الله العليم في آيات تتضمن أحكاما وتوجيهات أخلاقية
في سورة النور
هذه -سورة النور- يذكر فيها النور بلفظه متصلا بذات الله: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالأرْضِ﴾ ويذكر فيها النور بآثاره ومظاهره في القلوب والأرواح, ممثلة هذه الآثار في الآداب والأخلاق التي يقوم عليها بناء هذه السورة. وهي آداب وأخلاق نفسية وعائلية وجماعية, تنير القلب, وتنير الحياة, ويربطها بذلك النور الكوني الشامل أنها نور في الأرواح, وإشراق في القلوب, وشفافية في الضمائر, مستمدة كلها من ذلك النور الكبير".([16])
لقد جاءت سورة النور بنور التشريع والتوحيد لتستنير القلوب, وتسعد النفوس, ويستقيم السلوك, كل ذلك هدفه بناء مجتمع الفضيلة في الدنيا, بضبط سلوك الأفراد بتشريع أخلاقي رشيد. وإن الناظر والمتأمل في هذه السورة يجد أن الله تعالى فرض فيها عدة أحكام وتوجيهات لضبط الغريزة, ومحاربة الرذيلة, ومنع وقوع الفواحش, وهذه الأحكام التي جاءت في آيات كريمة من سورة النور, ختم بعضها بفاصلة ذكر فيها اسم الله العليم, وفيما هو آت نتناول ما تضمنته تلك الآيات من دلالات وهدايات.
مسألة:أحكام تشريعية تقي من خطر الفاحشة:
أولا: الدعوة إلى غض البصر, وعدم إبداء المرأة زينتها أمام الرجال الأجانب عنها, والأمر بالزواج, باعتبار أن من الأمور المهمة لحماية الفضيلة في المجتمع هي ضبط الغريزة الجنسية وتفريغها بالطريقة الشرعية المثمرة, وتبدو هذه الحماية من خلال آيات ختمت باسم الله العليم تتضمن أحكاما وتوجيهات وهي: قول الله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ + وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنّ َ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ + وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ (النور: 30-32).
حيث تدعو الآيات الكريمة إلى ضبط الغريزة وترشيد السلوك, من خلال عدة أحكام وتوجيهات وهي:
أ.الدعوة إلى غض البصر, وعدم إبداء زينة المرأة.
ب.الدعوة إلى الزواج, والحث عليه, والوعد بالسعة والرزق, وفاصلة الآية تشير ذلك قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.
ثانيا: أحكام وآداب الاستئذان على البيوت, والاقتصاد في رخصة الوضع من الثياب للقواعد من النساء: يقول ابن عاشور: "من أكبر الأغراض في هذه السورة تشريع نظام المعاشرة والمخالطة العائلية في التجاور".([17])
وفيما يلي آيات فيها بيان لأحكام التزاور وتعليم آداب الاستئذان ختمت باسم الله العليم:
أ. قال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾(النور:2 7-28).
في الآيات تحريم لدخول البيوت إلا بوجود أصحابها واستئذانهم, وذلك مظنة كشف العورات, وفي الفاصلة في نهاية الآيات تعريض بالوعيد على مخالفة الأمر, قال ابن عاشور في تفسيره لهذه الآية: "ذكرنا أن من أكبر الأغراض في هذه السورة تشريع نظام المعاشرة والمخالطة العائلية في التجاور. فهذه الآيات استئناف لبيان أحكام التزاور وتعليم آداب الاستئذان, وتحديد ما يحصل المقصود منه كيلا يكون الناس مختلفين في كيفيته على تفاوت اختلاف مداركهم في المقصود منه والمفيد. والله بما تعملون عليم, تذييل لهذه الوصايا بتذكيرهم بأن الله عليم بأعمالهم, ليزدجر أهل الإلحاح عن إلحاحهم بالتثقيل, وليزدجر أهل الحيل أو التطلع من الشقوق ونحوها. وهذا تعريض بالوعيد لأن في ذلك عصيانا لما أمر الله به. فعلمه به كناية عن مجازاته فاعليه بما يستحقون"([18]).
ب. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْك ُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِن ُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (النور: 58-59).
في الآيات الكريمة أمر للأطفال والخدم والعبيد, بالاستئذان على أهل البيت في أوقات الراحة والنوم, وذلك مظنة رؤيا العورات أيضاً, وإذا بلغ الأطفال مبلغ الرجال يحرم عليهم الدخول بغير استئذان ولو كانوا أرحاما, وفاصلة الآية قول الله تعالى: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ دعوة إلى التطبيق والالتزام دون تهاون, ففي ذكر اسم العليم والحكيم إشارة إلى أساس يقوم عليه التشريع الرباني, والى سمة يتسم بها, يقول الدكتور محمد محمد أبو موسى: "أن هذا التوجيه...إذا كان صادرا من عليم يحيط علمه بكل ما تكنه الصدور وتستره الضمائر والقلوب, وإذا كان صادرا عن حكيم لا يوجد الأشياء إلا بغاية الحكمة والإتقان فانه حري أن تستجيب له ذوي البصائر".([19])
ج. قال تعالى: ﴿وَالْقَوَاعِد مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(النور: 60).
في الآية دعوة إلى الاقتصاد في رخصة تخفيف الملابس مع عدم الزينة للقواعد من النساء, وفيها أيضا إرشاد إلى أن عدم الأخذ بالرخصة قد يكون أفضل وأسلم, لأن الله عليم بما في النفوس وما يدور فيها, ويشرع ويوجه المرأة نحو السلوك الأسلم, يقول ابن عاشور: "وجملة: ﴿والله سميع عليم﴾ مسوقة مساق التذييل للتحذير من التوسع في الرخصة أو جعلها ذريعة لما لا يحمد شرعا, فوصف «السميع» تذكير بأنه يسمع ما تحدثهن به أنفسهن من المقاصد, ووصف «العليم» تذكير بأنه يعلم أحوال وضعهن الثياب وتبرجهن ونحوها". ([20])
المطلب الثاني
اسم الله العليم في آيات تتضمن أحكاما تشريعية
تختص بالأسرة المسلمة
وردت آيات في عدة سور, ضمن سياقات لها موضع يتعلق بشئون الأسرة, تتضمن أحكاما عملية تحفظ تماسك الأسرة المسلمة, وقد ختمت تلك الآيات باسم الله العليم, نستعرضها فيما يلي:
أ) قال تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا + وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا﴾(النسا ء34-35).
من خلال الآيتين نلحظ إرشاد القرآن لأحكام تأديب الزوجة, وختامها اللجوء للحكمين لإصلاح ذات بينهما وهذا من شأنه حفظ الأسرة, فالأسرة المتماسكة هي اللبنة الأساسية لبناء المجتمع الفاضل, وباستقرارها تستقر الفضيلة وبتماسكها يتماسك المجتمع, وعلى الغالب فأن الخلاقات الزوجية تصدر من المرأة, وذلك لأنها مخلوقة تغلبها العاطفة, ولعلمه سبحانه بذلك شرع عدة وسائل لتأديب الزوجة مرتبتة, أولها الموعظة, ثانيها الهجر بالفراش, ثالثها الضرب غير المبرح, ولا يلجأ إلى وسيلة إلا بعد استخدام سابقتها, على أحكام مفصلة في كتب الفقه, فأن لم تفلح تلك الوسائل ارشد القرآن الكريم إلى وسيلة للإصلاح من خارج الأسرة وهي اللجوء إلى حكمين من أولي القرابة معروفين بصلاح السيرة ورجاحة العقل والسعي لإصلاح ذات البين, وختام الآيات اثبت الله لنفسه صفة العلم, تأكيداً على أن هذه الأحكام صادرة عن إله عليم, يعلم الصالح لعباده ويشرع لهم ما يحقق لهم مصلحتهم, ثم ذكر اسمه الخبير تأكيداً لذلك المعنى السالف, وأشعارا بعلمه بنوايا الحكمين والزوجين ولذلك أثره في نفوسهم وسلوكهم([21]).
ب) قال تعالى: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ + وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 226-227).
في الآية منع الإيلاء؛ "وحقيقة الإيلاء: الحلف المقتضي لتقصير في الأمر الذي يحلف عليه, وجعل الإيلاء في الشرع للحلف المانع من جماع المرأة,.."([22])
وما وضع هذا الحكم إلا لمنع الإضرار بالزوجة, وذلك بمنعها حقا شرعيا, ولرد الزوج إلى السلوك القويم, بعدم استعمال حقه في الهجر للإضرار بالزوجة, وهذا السلوك الخاطئ قد يفضي إلى مفاسد تعود على الأسرة والمجتمع, وفي مثل هذه الحالة لا يجوز للزوج الامتناع عن جماع زوجته أكثر من أربعة أشهر, فإما أن يكفر عن يمينه ويعود لزوجته فيعاشرها معاشرة الأزواج, وإما أن ترفع الزوجة أمرها إلى القاضي ليفرق بينهما([23]), وختمت الآية بأسمائه سبحانه "السميع العليم", وفي ذلك إشعار بالحساب والجزاء([24]), ولكي يستشعر المسلم مراقبة الله, ويستقيم سلوكه باتباع شريعته وعدم استغلال تشريعه في إيذاء المرأة أو التعدي والإسراف في استعمال حقه.
ج) قال تعالى: ﴿وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنّ َ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 231).
نلحظ في الآيات منع إمساك الزواج لزوجته وعدم تطليقها بقصد الأضرار, ففي الآية أمر بإبقاء النساء إذا أراد الزوج المعروف والخير بإبقائها, ونهي عن إبقاء المرأة في عصمة زوجها بعد تطليقها للإضرار بها, ويحذر الله من الظلم, وأن من يفعل ذلك فكأنه يستهزئ بأحكام الله وتشريعاته, لأنه يتعسف في استعمال حقه, بل ويجعل الحكم الشرعي الذي شرع لتحقيق المصلحة, يستخدم للظلم وجلب المفسدة, بالتعدي في استعمال الحق, وقد ختمت الآية بالتذكير بنعمة التشريع, والأمر بالتقوى, لاستشعار المراقبة وللإشارة إلى الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب, من خلال التذكير بعلم الله الشامل والمحيط.
د) قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ + قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَولاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم﴾(التح ريم: 1-2).
في الآيات مشروعية الزواج بالنساء الحرائر وملك اليمين, وقد جاءت الإباحة بصورة عتاب لطيف لنبيه e, وعلى سبيل الامتنان بهذا التشريع الحافظ للفضيلة في المجتمع المسلم, وجاء التأكيد على أن التشريع الرباني هو التشريع الحكيم, الذي فيه جماع الخير, ولا يجوز الإعراض عنه, وختمت الآية بفاصلة اشتملت على اسمين لله عز وجل هما العليم والحكيم, ودلالة ذلك أنه تشريع حكيم قائم على علم الله الشامل والمحيط, ففي التشريع الرباني تحقيق للمصلحة ودفع للمفسدة, لذلك كله كان العتاب اللطيف لنبيه e أنه حرم على نفسه أمرا مشروعا شرعه العليم الحكيم([25]).
و) قال تعالى: ﴿وَالْمُحْصَنَ تُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ولا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا + وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ + يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (النساء: 23-26).
نلحظ في هذه الآيات عدة أحكام تختص بالزواج بالنساء الحرائر وملك اليمين نعرضها فيما يلي:
جاء في سياق الآيات إباحة الزواج بملك اليمين, بأحكام خاصة بهذا الزواج وهي: أن لا يجد المال للتزوج بحرة, وأن يخاف على نفسه الزنا, وأن تكون الأمة مؤمنة عفيفة طاهرة, وأن يعطى مهر الأمة لسيدها عوضاً عن منافع تملكها, وقال البعض: تعطى للأمة, وقد وردت الإشارة إلى أن عقوبة الأمة على جريمة الزنا نصف ما على الحرة, المتزوجة وغير المتزوجة خمسون جلدة, ورأى البعض أنها على المتزوجة لا على غيرها.([26])
وتجدر الإشارة إلى توجيه النص القرآني المستفاد من الآيات الكريمة, هو أن الترخص بالزواج بالإماء جاء لحاجة ملحة أو لضرورة, وهي خشية الوقوع بجريمة الزنا, وقد ذكر في الآيات الحث على الصبر وضبط الغريزة وانه أفضل للمؤمنين من الزواج بالإماء, فالزواج بالمرأة الحرة وبناء الأسرة القوية المتماسكة بثمارها الخيرة خير من الزواج بالإماء, وكأن القرآن الكريم يخاطب المسلم ويحثه على الزواج بالنساء الحرائر, لما فيه مصلحة كبيرة على الأسرة والمجتمع, فان لم يستطع الزواج بالحرائر فليصبر, فقد تكون نتيجة الزواج بالأمة أسرة ضعيفة مفككة, تنتج آثارا سلبية على أفرادها وعلى المجتمع ككل, وقد لا يكون ذلك, وعلى أي الأحوال ليست تلك الأسرة بقوة أسرة بنيت على الزواج بالحرة, وليست الثمرة كالثمرة, فإن خاف المسلم العنت تزوج بملك اليمين جلبا للمنفعة ودرءا للمفسدة.
وقد ختمت الآيات المتضمنة تلك الاحتكام الشرعية بقوله سبحانه: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾, وهي خطاب للمؤمنين فيه بيان لامتنان الله سبحانه وبيان فضله عز وجل على عباده بهذه الأحكام, فقوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ﴾, استئناف مقدر لما سبق من الأحكام, فمعنى الخطاب القرآني: أي أن الله تعالى بما شرع من أحكام, وبما ذكر من المحرمات والمباحات, يريد أن يبين لكم ما فيه خيركم وصلاحكم وسعادتكم, وأن يميز لكم الحلال والحرام والحسن والقبيح.. ([27])
يتبع